عندما نعلم أن تأثير المسلسلات والأفلام الأمريكية على المجتمعات العربية أقوى سلاح لمواجهة التطرف.. وعندما يسيطر بيرلسكونى على وسائل الإعلام الإيطالية ويفرض عليها رقابة (قانونية) ويسعى للسيطرة على مواقع الإنترنت لمنع فضائحه الجنسية.. وعندما نعلم أن مشاهدى أحد الفيديوهات التى سرّبتها ويكليكس حول حرب العراق تجاوز 7.5 مليون مشاهد من خلال الموقع وحده.. وعندما يكشف هذا الموقع عن حالات الفساد فى أكثر من مائة دولة.. عندما يحدث كل هذا فإننا نواجه ثورة إعلامية بكل معنى الكلمة.. إنها ثورة الإعلام الجديد الذى نقلته ويكليكس إلى آفاق جديدة تماماً.. بغض النظر عن أبعاد اللعبة وأطرافها وخباياها التى لم نعرفها كلها بعد!! نعم إن ثورة الإعلام الجديد لم تطلقها ويكليكس ولم تبدأها.. ولكنها أضافت إليها أهم اللبنات والأسس التى سوف تجعلها تحلق فى سماوات أكثر رحابة.. وتشكل واقعاً إعلامياً جديداً.. لا ندرك مداه ولا منتهاه.. هذا الإعلام الجديد تقوده مواقع الإنترنت عبر الشبكة العنكبوتية.. فلم تعد الصحف والمجلات ولا حتى الفضائيات الشهيرة هى التى تقود الإعلام.. بل تحولت إلى المركز الثانى.. وراء الإعلام إليكترونى.. فكلنا شاهد وتابع وقرأ أن كل وسائل الإعلام العالمية الشهيرة كانت تستقى أخبارها من خلال ويكليكس.. حتى لو تم ذلك بالتنسيق مع الموقع مباشرة أو نقلاً عنه، ويكفى أن هذه الصحف والمجلات والفضائيات تنشر تقريراً يومياً عن تسريبات ويكليكس. وقد ساهم العالم الالكترونى.. حيث كل شىء مكتوب ومحفوظ ويمكن نقله عبر الإنترنت بسهولة وسرعة فائقة.. ساهم هذا فى سرعة تدفق المعلومات والوثائق والأسرار بصورة مذهلة، فلسنا بحاجة إلى تسجيلات وكتابة وتحرير.. إلى آخر، الأساليب الإعلامية التقليدية، فكل شىء جاهز للنشر فوراً.. بمجرد الضغط على «الماوس» أو هذا الفأر العملاق الذى خرج من مصيدة ويكليكس!! بمعنى آخر.. فإن مركز ثقل الإعلام تحول من المطبوع والمسموع والمشاهد.. إلى الإعلام الإليكترونى.. وهذا سوف يكون له انعكاسات كبرى على أداء وسائل الإعلام والإعلان واقتصادياتها وأساليب إدارتها وأشكالها المستقبلية، وأخشى أن يعجل هذا التطور بوفاة كثير من وسائل الإعلام المطبوع الشهيرة.. مثلما حدث مع كثير منها.. وأبرزها كريستيان ساينس مونيتور، الصحيفة الأمريكية الشهيرة التى يقرؤها الملايين عبر الإنترنت.. وكانت توزع نحو 50 ألف نسخة قبل وفاة نسختها المطبوعة! هذا التطور الإعلامى الهائل يتطلب من وسائل الإعلام التقليدية أن تطور نفسها وأداءها وأساليب إدارتها ومفاهيمها الإعلامية.. حتى لا تفاجأ بمصير هذه الصحف والمجلات التى توارت عن الأنظار.. ولن تعود. ولكن هناك تساؤلاً يفرض نفسه: هل ما حدث من ويكليكس هو مجرد طفرة عابرة؟! هل هو شطحة مرسومة ومخططة لتحقيق أهداف معينة.. فقط.. ثم ينتهى الأمر.. وتتوارى اللعبة؟! هذا أمر وارد، ولكن ما حدث يشير إلى أن تطور الإعلام الجديد يتم بصورة هائلة ومتسارعة ومذهلة، وما شاهدناه من ويكليكس قد يحدث أكبر وأخطر منه مستقبلاً.. ويكفى أن نعلم أن موقع ويكليكس لم يمت باعتقال مؤسسة آسانج.. ولا بالهجمات الإليكترونية «الرسمية» المنسقة ضده.. فالرجل يعمل معه عشرات الآلاف من الجنود «المتطوعين» فى أنحاء العالم.. منهم الهواة والحترفون و»الهاكرز».. أى مخترقى المواقع الذين يكشفون أسرارها ويستطيعون تعطيلها.. وقد نجحوا فى ذلك مع المواقع التى أوقفت حسابات ويكليكس.. ومع مواقع رسمية مهمة.. فى دول عديدة، الأهم من ذلك أن هذه الشبكة العملاقة نجحت فى تسيير الموقع بوسائل تكنولوجية بارعة ومتنوعة.. وفشلت كل الجهود الرسمية لإيقافهم! بمعنى آخر.. فإننا أمام حرب إليكترونية من نوع جديد طرفاها هذا المجتمع الإعلامى الجديد.. والأجهزة الرسمية التكنولوجية والأمنية والاستخبارية.. وقد يملك هؤلاء الهاكرز - الهواة والحترفون – إمكانات تفوق منافسيهم – فهم قابعون فى أماكن سرية مظلمة.. وينتشرون عبر قارات ومحيطات العالم! وقد قاموا بالفعل بتوزيع الأدوار فيما بينهم وتوفير بدائل تكنولوجية لأنشطتهم، وهؤلاء لا ينتمون إلى جماعات إرهابية أو متطرفة.. بل تتسع قاعدتهم لتشمل كل الأطياف السياسية والدينية وكل الأجناس والأعراق والألوان! إنه أكبر تحالف مدنى شكّله هذا الإعلام الجديد. هذا التحالف قد يمثل نقطة تحول فى تاريخ العالم.. ليس إعلامياً فقط.. بل وسياسياً وتجارياً وثقافياً، إنه يستطيع خلق قوة هائلة.. من خلال الفيس بوك وتويتر وجوجل وياهو.. وكافة المواقع الكبرى، بل نحن لا نبالغ إذا قلنا إن عددهم قد يتجاوز المليار نسمة.. قياساً بعدد رواد الفيس بوك الذى تجاوز النصف مليار فقط، ولدينا فى مصر قوة صاعدة ومؤثرة عبر الإنترنت يفوق عددها العشرين مليونا.. وهى جزء من هذه الحركة العالمية الجبارة والمتصاعدة. لقد أثبتت ويكليكس أنه لم تعد هناك أسرار وأن كل شىء متاح ومباح.. ومفضوح!! لذا بدأت القوى الكبرى.. والصغرى أيضاً.. تشديد الرقابة على كافة وسائل الإعلام.. خاصة الإليكترونية.. لتعود إلى العهود الشمولية.. والدكتاتورية الإعلامية.. رغم ادعاءات هؤلاء بضرورة حرية الإعلام والتعبير.. إلى آخر الشعارات الجوفاء التى أكل الزمن عليها وشرب! ونتوقع أن يؤثر الواقع الجديد سياسياً وإعلامياً بعد ثورة ويكليكس على حوارات ومراسلات الدبلوماسيين والسياسيين.. فالكل سوف يخرج الكلمات بحساب دقيق جداً.. وربما قل حجم المراسلات السرية الموثقة إليكترونياً.. خشية كشفها وفضحها.. عاجلاً أو آجلا!! وعلى المستوى الاجتماعى يجب أن ندرك أنه لم تعد هناك حدود للخصوصية والحرمات الشخصية، فللأسف الشديد دمر الإنترنت كل هذه المبادئ والقيم.. وتقوم كثير من المواقع بالمتاجرة بأسرار الناس ومشاكلهم.. وتبيعها لشركات الدعاية والإعلان.. بل وللأجهزة الأمنية والاستخبارية، نعم إنها ثورة تكنولوجيا المعلومات التى خلقت موجات هائلة من التغيير فى كل المجالات.. وفى مقدمتها الإعلام، فهل تأهبنا لمواجهتها.. قبل أن تجرفنا تياراتها؟!