إذا كانت المرأة هى نصف الدنيا، فهى أيضاً نصف السينما، وأفضل تطبيق لهذه المقولة هى أفلام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الذى قدمت أفلامه المرأة فى أحوالها وأعمالها ومشاكلها وهمومها المختلفة. كان لافتاً أن المهرجان فى دورته رقم 34 اختار أفيشاً جميلاً تملؤه امرأة تستوحى جمال جدتها «نفرتيتى»، كما اختار المهرجان للتكريم الممثلة الفرنسية الشهيرة «جولييت بيونسيه» صاحبة الأدوار التى لا تنسى فى أفلام مثل «خفة الكائن التى لا تحتمل» عن رواية «ميلان كونديرا» الشهيرة، و«دمار»، و«المريض الانجليزى»، وفيلم «أزرق»، وفى هذه الأفلام قدمت «جولييت» نماذج نسائية مختلفة تماماً من المرأة العاشقة إلى الممرضة المخلصة لعملها، وعبرت بجدارة عن مشاعر مختلفة ومتقلبة. وكانت لفتة جميلة أيضاً أن يتم تكريم ممثلة مصرية راسخة بمناسبة مئوية مولدها هى الراحلة «أمينة رزق» التى أهديت إليها الدورة الحالية مع زميلها الرائع الراحل «محمود المليجى». «أمينة» انتهت إلى أدوار الأم التى وضعت بصمتها عليها ولكنها قدمت أدواراً مختلفة فى شبابها من فتاة الليل إلى الزوجة المخلصة والصابرة! أما أفلام المهرجان فقد ظهرت فيها نماذج نسائية مختلفة إلى درجة التناقض، وتقريباً نحن أمام شخصيات فى مختلف مراحل عمر المرأة، فى الفيلم الكورى الجنوبى «شعر» الذى أخرجه «لى شانج دونج»، نموذج لا ينسى لامرأة طاعنة فى السن، جدّة اسمها «ميجا» تعيش مع حفيدها الشاب، وترتزق من رعاية رجل عجوز طاعن فى السن تشرف على استحمامه ونظافته، المرأة همومها كثيرة خاصة أنها تعانى من بوادر فقدان الذاكرة التدريجى، والمجتمع المحيط بها ملىء بالعنف والجريمة إذ تورط حفيدها وزملاؤه فى الاعتداء على فتاة مراهقة مما دفعها إلى الانتحار، ورغم كل ذلك، لم تفقد «ميجا» خيالها ولا رغبتها فى التحرر، فالتحقت بمدرسة يتم فيها تعليم نظم الشعر، السيناريو البديع الذى فاز بجائزة أفضل سيناريو فى مهرجان «كان» الأخير يسير فى اتجاهين: معاناة «ميجا» من خشونة الواقع، ثم هروبها إلى مدرسة الشعر حيث تنجح فى النهاية فى أن تكتب قصيدة تعبر عن مشاعرها المتألمة، ويزيد من تأثير الفيلم- وهو من أهم الأفلام المعروضة- الأداء الرائع لبطلته الممثلة العجوز التى تجاهلتها جوائز مهرجان «كان» الأخير لأسباب مجهولة! عجوز أخرى تلعب دوراً مؤثراً للغاية فى الفيلم العراقى «ابن بابل» للمخرج «محمد الدراجى».. إنها الجدة الكرديّة التى ستصطحب حفيدها الصغير «أحمد» من شمال العراق فى رحلة طويلة إلى مدينة الناصرية مروراً بالعاصمة بغداد، وذلك من أجل هدف وحيد هو البحث عن والد الطفل الذى اختفى فى السجون منذ 12 سنة بعد رفضه المشاركة فى الحرب على الكويت. الجدّة هى رمز الحنان والحماية للحفيد، ومشهد وصولها إلى المقابر الجماعية المكتشفة بعد سقوط «صدام حسين» يمزق القلوب، أمهات تبكين وتندبن، وحتى عندما تلتقى الجدة مع جندى شارك فى مذبحة الأنفال تنفيذاً للأوامر تتخلى عن ثباتها، فى لحظاتها الأخيرة تخلط الجدة التى تجسد صمود المرأة العراقية بين اسم الأب «ابراهيم» واسم الابن «أحمد»، وعندما تموت يكون الفيلم قد انتهى، ولا يبقى للحفيد إلا آلة الناى الحزينة التى تردد أوجاعه وآلامه، والفيلم بأكمله مُهدى إلى كل من يبحث عن مفقود، كما أنه يشير إلى مقتل مليون عراقى خلال أربعين سنة فقط «فى الحروب وخلافه»، وإلى وجود 300 مقبرة جماعية تم اكتشافها بعد سقوط «صدام حسين». المرأة إذن هى الضحية المباشرة للحروب حيث تدفع الثمن من حياتها وجسدها وروحها. النموذج الأهم فى هذا الإطار تجسده «سميرة» فى الفيلم الأيرلندى السويدى المقدونى المشترك «كأننى لم أكن هناك». الفيلم المأخوذ عن قصة حقيقية يحكى بالتفصيل معاناة مدرِّسة شابة جميلة تلعب دورها ببراعة «ناتاشا بتروفيتس»، ذهبت «سميرة» إلى إحدى القرى فى البوسنة للتدريس، جاءت من سراييفو تحمل حقيبتها وأحلامها الصغيرة، إنها مثل أى فتاة تشعر بالغربة فتبدأ فى كتابة خطاب لأسرتها التى تركتها منذ قليل، فجأة يقتحم الجنود الصرب الفصل الذى تُدرِّس فيه، يقودون كل رجال القرية إلى جانب بعيد، نسمع إطلاق النار عليهم، تتحول كل النساء إلى رهائن أو سبايا بمعايير الحروب البربرية، يتم اغتصاب «سميرة» بصورة وحشية، وتبرع المخرجة «جوانيتا ويلسون» فى التركيز على وجهها، فيبدو كما لو أن بطلتنا تشاهد منظراً لا تشارك فيه، وكأنها لم تكن هناك، ولكن مع تكرار الانتهاك البدنى، ومع ظهور نماذج نسائية أخرى تتعرض للتعذيب مثل الطفلة البريئة التى تعيش معهم، تتحول سميرة إلى الذهاب بنفسها إلى مقر الضابط الصربى، تقول لزميلاتها بعد أن تلطخ وجهها بالماكياج «أنا مجرد امرأة» تبيع جسدها للضابط الذى أحبها، وتعود لزميلاتها البائسات ببعض الأرغفة. عندما يطلق سراح السيدات ومعهن «سميرة» يعدن إلى بلادهن وهن حطام إنسانى. تستعرض الكاميرا خلال «سراييفو»، وتصبح مشكلة «سميرة» بعد الخروج اكتشافها أنها حامل فى جنين والده من الصرب السفاحين. الفيلم الذكى يبدأ ب «سميرة» فى المستشفى تستعد لمولد الطفل، ثم نعود لمعرفة تفصيلات مأساتها، ثم نعود لها بعد أن ولد الطفل، فى مشهد مهم تم تنفيذه بحساسية عالية، تقترب «سميرة» من طفلها، ترضعه ثم تبكى، وتبقى النهاية مؤثرة ومثيرة للتساؤلات خاصة أن الشخصية رسمت بطريقة تجعلها ضحية ومذنبة فى وقت واحد، والحقيقة أن مأساة الأمهات اللاتى أنجبن من الاغتصاب من المشكلات الحقيقية التى نجمت عن مأساة الحرب فى البلقان لدرجة أن السلطات أعدت معسكرا لتجميع هؤلاء الأمهات وأولادهن، وهناك فيلم مؤثر عن علاقة حب وكراهية تجمع بين أم بوسنية وابنها الذى أنجبته من رجل صربى اغتصبها أثناء الحرب، وقد حصل هذا الفيلم على إحدى جوائز مهرجان برلين منذ عدة سنوات. فى الفيلم الروسى المتميز «فالس شجرة السمن» الذى أخرجه «ألكسندر سميرنوف» وزميلته المخرجة «آليون سيمينوث» صورة أخرى من معاناة المرأة فى الحروب. الأحداث حقيقية وتدور فى الفترة من 1945 وحتى عام 1947، والحكاية عن كتيبة من النساء والفتيات الروسيات تم تدريبهن على عمليات نزع الألغام التى قامت جيوش «هلتر» بزرعها أثناء الحرب العالمية الثانية داخل الأراضى الروسية، يستعرض الفيلم نماذج نسائية مختلفة مثل فتاة كانت تحلم بأن تصبح ممثلة ولكن يديها أصيبت إثر انفجار أحد الألغام، ومثل قصة حب بين امرأة تركها زوجها للمشاركة فى الحرب وبين ضابط يدرب النساء على نزع الألغام، ويزيد الصراع داخل الزوجة مع عودة الزوج المفاجئة إلى القرية، ثم يشتعل أكثر مع نظرات طفلها الصغير الذى يراقب ما يحدث فى صمت. الفيلم رغم أنه عن الحرب فإنه يتميز بتناول شاعرى للأحداث ودون اللجوء إلى مشاهد قاسية أو دموية، وربما يرجع ذلك فى جانب كبير منه إلى وجود مخرجة مشاركة فى الإخراج. ولكن الفتيات الشابات لا تعانين فقط من الحروب ومآسيها، ولكن هناك أشكالاً أخرى من المعاناة هى الاغتراب لأسباب كثيرة ومختلفة فى الفيلم السويسرى «المتوحشة»: الذى أخرجه «جان فرانسوا ميجيه» نموذج نسائى غريب هى «أدريانا»، فتاة متشردة بلا أسرة نراها تنام فى الشوارع، يرافقها كلب وحيد مثلها، تعتقلها الشرطة أحياناً ثم تطلق سراحها، فجأة تقوم بالسطو على أحد محال المجوهرات، وهرباً من المطاردة تلجأ إلى الجبال حيث تلتقى برجل عجوز وحيد يعيش على ذكريات ابنة فقدها اسمها «صوفى»، عندما تظهر أمامه «صوفى» يعتبرها مثل ابنته المفقودة، ورغم أنه يعيش فى كوخ شديد التواضع، ورغم أنه يعيش حياة قاسية قسوة الجبال التى يتسلقها، إلاّ أن «أدريانا» تشعر بالانتماء لأول مرة فى حياتها، وعندما يسقط العجوز مريضاً تذهب به إلى المستشفى، وعندما يسأله البوليس عنها ينفى وجودها، فى رحلتها الجبلية سيموت كلب «أدريانا»، وستفقد والدها الافتراضى على الجليد حيث سيموت فى مشهد سينمائى بديع، ولكن «أدريانا» ستذهب أخيراً إلى «نيس» فى فرنسا، وسنراها فى المشهد الأخير وهى تنتحر.