سألوا يوما الفيلسوف الإغريقى الأشهر أفلاطون عن مدينته الفاضلة وكيف يحصل سكانها على زاد عقولهم وزواّد بطونهم فقال أفلاطون سوف تحملها الدواب إلى الناس فى الطرقات وليس هذا فقط، وكذلك كل رغباتهم الإنسانية وفق احتياجاتهم وكل ذلك مشاع بلا تمييز حتى المواليد منهم سوف يوزعون بالعدل بينهم جميعا دون الاعتبار لأنسابهم وهو بذلك قد نفى عن مدينته الفاضلة كل ما يتصل بالفضيلة لتصبح عكس ما تخيله محققا لما رآه من عدالة اجتماعية، كما نفهمها فى عصرنا الحاضر وليس فى عصر ما قبل الميلاد. وما يهمنا فى هذ المقام هو محاولة أفلاطون فى مدينته الفاضلة أن تصل الثقافة لمن يرغبها، حيث يكون، ورغم ما فى هذه الفكرة الأفلاطونية من تجاوز، يدعو إلى الدعة والارتكان إلى الكسل والخمول فإن أحدا لا يستطيع أن يشكك فى نواياه الحسنة وأمانيه الطيبة لسكان مدينته الخيالية مثلما لا يستطيع أحد أن يشكك فى حسن نية القائمين على مشروع «اقرأ على الطريق» والذى تم تدشينه الأسبوع الماضى فى أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة بمبادرة محمودة من كبريات دور النشر المصرية كدار الشروق والمصرية اللبنانية وغيرهما من مكتبات شهيرة أخرى مع مساهمات من بعض الكتاب والأدباء منهم مفيد فوزى وبلال فضل ومصطفى شهيب وآخرون. ويهدف مشروع «اقرأ على الطريق» إلى توصيل الكتب إلى رواد القراءة والتى لم تتح لهم الظروف فرصة لاختيار ما يستهويهم من ألوان الأدب والروافد الثقافية الأخرى كالكتب على اختلاف نوعياتها، وذلك قد يكون لعدم الاستطاعة المادية أو عدم وجود وقت فراغ يتيح لهم ذلك.. وإلى هنا فالأمر يستوجب تحية هؤلاء القائمين على هذا المشروع البنَّاء، ولكن الذى يدعو إلى الدهشة أن تكون هذه الوسيلة هى سيارات التاكسى ليطلق عليه التاكسى الثقافى وقد تعاقد المشروع مع خمسين سيارة تاكسى كدفعة أولى للمستهدف وهو ألفى تاكسى ليتم تزويدها بعدد متنوع من الكتب يقرؤها «زبائن التاكسى» خلال مدة توصيلهم إلى وجهاتهم.. وهنا يفرض التساؤل نفسه: هل تكفى هذه الدقائق للتزود بقدر من القراءة يمكن أن يضيف شيئا مفيدا إلى ركاب التاكسى؟.. وهل يمكن أن يستأذن أحدهم فى استعارة الكتاب حتى ينتهى من قراءته وخاصة إذا كان الكتاب جذابا وشائقا؟.. وفى حالة اعتذار السائق عن الاستعارة فهل سوف يضطر الراكب إلى شراء نسخة من الكتاب خاصة به؟.. أسئلة كثيرة وغيرها أكثر تطرح نفسها والإجابات هى الأخرى متعددة ومنها أن دور النشر استخدمت هذه الحيلة الماكرة كحافز خفى يمكن أن يضاعف من أرقام توزيعها فى ظل ما تشهده من كساد واضح نتيجة للمغالاة فى أسعار الكتب مع ضعف القوة الشرائية. فضلا عن أن هناك أولويات تسبق الجانب الثقافى مثل أعباء المعيشة وارتفاع أسعارها كالمأكل والملبس وغيرهما. وأعتقد أن هذه الفكرة المثالية رغم ما يبدو بها من وجاهة وما يغلفها من حسن النوايا لن يكتب لها النجاح المأمول، وذلك لعدم قدرة القائمين على المشروع بتعميمها على كل سيارات التاكسى بالقاهرة وحدها والتى وصلت إلى أرقام تستعصى على الحصر الدقيق بما يحدث كثيرا من الارتباك فى المفاضلة بين التاكسى الثقافى وغيره من سيارات الأجرة الأخرى وهنا تكون معضلة أخرى تزيد أزمة المواصلات أكثر مما هى عليه الآن قبل انطلاق المشروع والذى يبحث الأمر جيدا يكتشف أنه ليست هناك أزمة كتب بقدر ما توجد أزمة فى القراءة خاصة أن مشروع القراءة للجميع قد قارب عمره الربع قرن والذى تعهدته بالرعاية السيدة الفاضلة سوزان مبارك قد جعل من تكوين مكتبة زاخرة بكل ألوان المعارف مهمة ميسورة وبأسعار رمزية تقل كثيرا عن سعر تكلفة هذه الكتب. ولهذا كله فإن مشروع التاكسى الثقافى لن يتجاوز حدوده كفكرة أفلاطونية غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع وحتى لا نحبط المسئولين عنه فإن هناك حلولا أكثر فعالية وهو تزويد المكتبات العامة بمثل هذه الكتب إذا ما أراد هؤلاء المساهمة فى نشر الوعى الثقافى وحث المواطنين على القراءة بعيدا عن أفكارهم الخيالية مستحيلة التطبيق.