بدت العلاقة بين وسائل الإعلام الفرنسية والرئيس «نيكولا ساركوزى» شائكة منذ توليه السلطة.. بدءاً من تناول الصحف طبيعة الحياة الخاصة لزوجته «كارلا برونى» ومروراً بعلاقاته مع كبار مسئولى أهم وسائل الإعلام.. وانتهاء بتوجيه التهم بين قصر الإليزيه وجريدة «لوموند دبلوماتيك» حول عمليات التنصت على الصحفيين. بعد أن قامت جريدة «لوموند دبلوماتيك» اليومية خلال الشهور الأخيرة بنشر سلسلة من المقالات والتحقيقات الساخنة حول كشف قاعدة تجسس إسرائيلية كبرى فى «صحراء النقب» ثم تورط مباشر لوزير المالية الفرنسى «إريك ورث».. فى فضيحة «بتنكور» وعمليات التهرب من الضرائب لاذت أولاً إسرائيل بالصمت الكامل أمام المعلومات الدقيقة التى تضمنتها المقالات، وثانياً ثارت حفيظة قصر الإليزيه الذى يساند دون هوادة وزير المالية. جاء هذا بمثابة الصدمة والدهشة بالنسبة للأطراف المعنية خاصة حول كيفية توصل الجريدة إلى كم من المعلومات الدقيقة دون الكشف عن مصادرها، فإن جريدة «لوموند» التى سبق وأفلتت من شبح الإفلاس عادت لتستعيد قراءها من جديد، حيث كتب رئيس تحريرها «آرنو لاجاردير» يقول: أفلتت الصحيفة من قبضة الرئيس الطامح إلى الإمساك بزمام الإعلام، حيث كان يهدف ضمها إلى امبراطوريته الإعلامية. وكما كانت فضيحة «بتنكور» هى مسلسل هذا الصيف الساخن فى فرنسا، فمن المنتظر أن يشهد فصل الخريف وربما الشتاء أيضاً تداعيات تورط قصر الإليزيه فى عمليات التجسس على مختلف وسائل الإعلام، وفى مقال نشر بالجريدة بدون توقيع قيل: لا يمكن أن تقبل «لوموند» مثل هذه الممارسات، وذلك طبقاً للقانون رقم 1881 المعدل فى عام 2010 والذى أكد على شرعية العمل الصحفى والحق فى الحصول على المعلومات. لذا اتهمت الجريدة أخيراً قصر الإليزيه بإصدار الأوامر الرسمية بالتنصت على المكالمات الهاتفية للصحفيين، الذى ترتبت عليه تهمة اغتصاب حق الصحفى فى الحفاظ على مصادره، وعلى لسان مديرة التحرير «سلفى كوفمان» كتبت تقول: جاء ذلك التنصت بعد أن بدأت الجريدة فى نشر عدة مقالات على صفحاتها تضمنت معلومات أكيدة حول فضيحة «بتنكور» وعمليات التهرب من الضرائب لكبار الشخصيات الفرنسية.. مع العلم بأن ذلك التنصت تم بدون إذن قضائى، فإذا كانت الجريدة قد تحركت للكشف عن مثل هذه الفضائح فإن ذلك تم فى إطار الحفاظ على حقوق الدولة بهدف المصلحة العامة، فإن ذلك التجاذب بين قصر الإليزيه وجريدة «لوموند» وصل إلى حد اتهام الرئيس الفرنسى بالتنكر لقيم الجمهورية، وإساءة استخدام السلطة، والتجسس بهدف الكشف عن مصادر الصحفيين، وفى افتتاحية جريدة «لومانيتيه» الفرنسية انتقد الصحفى المعروف «باتريك لوباريك» بشدة موقف ساركوزى معتبرا أنه شكّل خرقا فى التشريعات التى تضمن الحرية للإعلام، الأمر الذى اعتبره لا يخدم المصالح العامة، كما كتب الصحفى «فرانسوا مارتن» فى صحيفة «ميدى ليبر» موضحاً أن خطاب التشنج والسجال أصبح واقعاً، فلا يكاد يمر أسبوع دون تفجر قضية مثيرة للجدل، هذا بعد أن أصبح قصر الإليزيه متهما باجتياز الخط الأصفر بخرقه لقانون سرية المصادر الصحفية، ومما أثار حفيظة الإليزيه أن الأخبار التى نشرت فى «لوموند» كانت قبل عدة أيام من الاستماع إلى الشهادة، الأمر الذى أشار بأصابع الاتهام إلى المستشار «دافيد سنيا» الذى يعمل بمكتب وزيرة العدل الفرنسية «ميشيل أليوت مارى». وقد نشرت جريدة «لوموند» على صفحاتها الأولى عدة عناوين متباينة من بينها عملية بتنكور: الإليزيه يغتصب القانون حول حق الصحفيين فى الحفاظ على مصادرهم.. و«لوموند» سوف تتقدم ببلاغ رسمى.. واستخدام الأجهزة الخاصة بمكافحة التجسس من أجل التوصل إلى مصادر المعلومات الخاصة بالصحفيين. لذا قالت «دى موزيل» المعنية بالحفاظ على حق الصحفيين والنائبة البرلمانية عن الحزب الاشتراكى، موضحة أنه خرق فاضح لحق الصحفيين فى الحفاظ على مصادرهم، كما أنه خرق لمبادئ الديمقراطية.. كما ناقش البرلمان المسألة معتبراً إياها تمس المصلحة العامة وأن اللجوء إلى كشف المصادر لا يكون إلا فى حالة خطر محدق بأمن البلاد، لذا كان من المتوقع تحرك ورد قصر الإليزيه إلا أنه عمد إلى النفى والإنكار، مؤكداً أنه لم تصدر عنه أى تعليمات بهذا الشأن، رافضاً الاتهامات الموجهة إليه معتبراً أن هذا التنصت حماية للمصالح الوطنية، الأمر الذى كشف عن وجود صراعات داخل الحكومة نفسها، بمعنى التورط وسط عالم تصفية الحسابات الشخصية، ومن ثم بدا الحزب الحاكم منقسما على نفسه من حيث الآراء المتعارضة، الشىء الذى يهدد مكانته لصالح دخول أعضاء جدد إلى حزب الوسط الجديد الذى يرأسه رئيس الوزراء الفرنسى السابق «دومنيك دى فلبان». وعلى الرغم من ذلك أكدت «لوموند» أنها لا تعترض على حق الحكومة فى مكافحة التسريبات، إلا أنها تدين دون تحفظ الطرق التى تم استخدامها لتحقيق ذلك. من هنا قررت جريدة «لوموند» مواصلة القضية دفاعاً عن المصادر الصحفية، إذ تعتزم تقديم بلاغ رسمى ضد «إكسى» أى مجهول، وبسبب غياب حالة الشفافية الوطنية قررت اللجوء إلى القضاء ليس فقط بخصوص ذلك الموضوع، ولكن لانتهاكات أخرى تتعلق بحرية الصحافة، مؤكدة أنه لا يمكن توظيف القوانين من أجل حماية وزير أو حزب سياسى، مهددة بما سوف تكشفه تباعا فى المستقبل، وقد أوضح أحد القضاة الفرنسيين لم يفصح عن هويته، قائلاً: السلطة تستخدم قراءة موجهة للقوانين، وهذا أمر خطير، كما أن مسألة حماية المصالح الوطنية لا يمكن فى أى حال من الأحوال أن تتعارض وحماية الوطن ككل، حيث لا يكون هذا إلا فى حالة تعرض الجغرافية الوطنية للتهديد، أما هذه التسريبات فهى خاصة بالمعلومات ولا تعنى الأمن القومى أو وحدة الوطن الواحد، فإن هذه الفضيحة التى أطلق عليها الفرنسيون «ساركوجيت» أى على غرار «وترجيت» و«ورث جيت» طرحت العديد من التساؤلات حول استخدام أجهزة مكافحة التجسس فى الكشف عن مصادر الأخبار الصحفية، خاصة أن القانون الذى ينص على حماية المصادر الصحفية أعيد تأكيده فى مطلع عام 2010 ويشترط الحصول على مرجعية قضائية. وذلك القانون والتعديل الجديد الذى عرف بقانون «داتى» نسبة إلى وزيرة العدل الفرنسية السابقة.