العزلة التي تُراود بطلة رواية لطيفة الحاج هي مُحاولة لتطهير الذات من أوهامها، وخيط يُعيد وصلها بواقعها. إنها تجعل من العزلة فناً لاستحضار ماضٍ مفتت، تُعيد تركيب مشاهد من حياتها، كما لو أنها في مونتاج فيلم مطول، تملأ اللحظات التي مرّت عليها، بدون أن تعيشها، بابتكار حكايات جانبية وتكثيف ذكرياتها، تُحول خلوتها إلى شجرة تتساقط منها ثمار سردية، وحزنها الذي يظهر عليها، لا يتداوى سوى بالعزلة، فهي تستدرك في الأخير، بشكل غير مباشر، أن العزلة هي المضيق المظلم، الذي يُحيلنا إلى التحرر. ففي رواية «نواقيس العزلة» (دار مداد 2019) تصير العزلة شرطاً كي لا نداس بقدميّ هذا الزمن المتحول، فهي لن تقود صاحبها إلى جنون أو انطواء، مادام أنه يُرفقها بالكتابة وتدوين ما يمر في مخيلته من قراءات سابقة. يوميات الراوية مريم كانت تبدو عادية، تسير في طريق ثابت، لا يُنبئ بمفاجآت، ولا يحفز على ترقب أي أمر مباغت، إلى أن تزوجت، وهو أمر عادي للوهلة الأولى، لكن زوجها سيكون روائياً، وهنا تشرع حياتها في الانقلاب، كما لو أن هذا الزواج لم يأت بغرض إتمام واجب اجتماعي، بل من أجل أن يبعثها، كي لا تظل نزيلة البيت، كأي امرأة أو ربة عائلة بسيطة، بل توسع من أفق نظرها، وتصير معاملتها للروايات كما لو أنها قطع ثمينة في البيت، هكذا من خلال قراءة الرواية، تنبهنا الراوية، من حين لآخر، إلى نصوص تركت آثراً في تنشئتها، ولا تغفل عن التماهي مع شخصياتها. إنها تقدم درساً في القراءة، وفي حب الروايات، مع أن المؤلفة أرفقت على الغلاف عنوانا فرعياً: «تباً للروايات»، وهو ليس المقصود منه هجاء الرواية أو ذمها، بل على العكس من ذلك، سنجد في النص كيف أن الروايات أنقذت الراوية من محنتها، فرغم أن «نواقيس العزلة» تدور في جو درامي، لن ندرك سببه سوى في الصفحات الأخيرة منها، عندما تستفيق من إغماءتها، فقد أفلحت لطيفة الحاج في إخفاء لعبتها، والإمساك بالقارئ بين قوسي المونولوغ المطول، الذي تسهب فيه بطلتها، تعرفنا على أهلها وبيتها، وعن شذرات من ماضيها، وعن سعيها في البحث عن نفسها، بحيث أن القارئ لن يُصادف ثغرات كي يسأل عن هوية الراوية، بل يهمه أن يسير معها في تجوالها بين الروايات التي قرأتها، وحياتها التي تراوح بين القلق والغيرة وشد الحبل بينها وبين زوجها راشد. «نواقيس العزلة» هي مونولوغ سردي، أو ما يمكن أن نُطلق عليه «مونولوغ مستقل»، أو بصيغة أخرى «حكاية بسيكولوجية»، بضمير المتكلم، نسير فيها بمحاذاة تخيلات الراوية، أفكارها، أوهامها، رغباتها، مخاوفها، شجنها، ضجرها، قلقها ومباهجها. فمنذ البدء، يجد القارئ نفسه في مواجهة سيل مما يخالج دواخل الراوية، التي تكاد تحتكر القص بالكامل، تطلعه على باطنها، ولا يتوقف السرد، بل قد يقفز من حدث إلى آخر، بدون أن يتخلى عن صفته الأساسية، ويتواصل إلى أن نعرف، في الخاتمة، سبب عزلتها، وخلفيات اللحظة التي أحالتها للانفراد بنفسها، كي تقصص علينا حياتها الخفية. كما لو أن خيارها ذلك يرجع إلى رغبة منها في تفريغ وعيها، في طرح هواجس متتالية، والتخلص من اضطرابات وشحنة انفعالات تضغط على رأسها بكتاباتها ومقاسمة القارئ إياها، كي تطهر نفسها منها وتتخفف من ثقل، يسمح لها باستعادة ذاتها، التي لا تريد لها أن تتماهى مع إكراهات الحياة التي تعيش فيها. في خطاب مباشر يقترب من كتابة مسرحية، ولكن عكس المسرح فإن الراوية لا تهتم بجمهور يستمع إليها، لا تعرف طبيعة من تكاشفه بأقوالها ومفاتحاتها، أي لا يهمها أن يستمع إليها أحد، بقدر ما يهمها أن تحكي ولو كان ذلك لنفسها لا أكثر، إنها تكتب عن أحداث ومواقف لحظية صادفتها، تسترسل في السرد، كما لو أنها بصدد كتابة آلية، في حميمية صاخبة، وعلى هذا المنحى، لا تخجل الراوية من ضعفها وهشاشتها، تفتح الباب واسعاً في مصارحة قارئ نصها بالصدامات التي تتالت وتراكمت على عاتقها، دونما انتقائية أو لجوء إلى مصفاة، ولا تخجل من البوح في شقيه السلبي والإيجابي، وهما قيمتان نسبيتان تختلفان بحسب مستويات تلقي نصها. فمن خلال تقنية المونولوغ، نستقرأ انتقالات المجتمع، الذي وُلدت وعاشت فيه الراوية. «نشأت منعزلة ومنطوية وجبانة، خائفة دوماً من شيء ما، خائفة من أن أكسر والدي إن أقدمت على عمل مشين. من أن أُحزن أمي إن تعرفت على بنات لا تعرف أهلهن. ولم أكن وحدي؛ في الجامعة اكتشفت أن كثيرات من بنات جيلي عشن كما عشت»، كتبت، لكن في ما بعد، سوف تلفت نظر القارئ إلى ما حصل لها من تغيرات، شفاؤها من خوفها بقراءاتها لروايات كانت سبباً في تحولات شخصيتها، لا سيما بعدما تتزوج من روائي، وتقضي وقتاً طويلاً في معاينته وهو يكتب، ترصد هواجسه وردود فعله، ثم تصير هي نفسها روائية، بدون أن تكتب شيئاً، روائية من مخالطة روائي كل يوم، تصير ناصحة له وقارئة لما يكتب، يتحول الأدب إلى وسيط بينهما، إلى ابن لهما بالتبني. هذا التعدد في الشخصية الذي تهبه لها قراءاتها للروايات، ومجاورتها لروائي، لا تمنعها من الإقرار قائلة: «مسكينة هي زوجة الروائي»، لأنها تفقد السكينة، التي استأنست بها في صغرها، تشعر بأن الأرض تدور تحت قدميها كلما شرع في مسودة جديدة، وعليها مسايرة طفراته ومزاجه وحدته حين الكتابة وحين صدور كتاب، وما قد يتبعه من توافد معجبات به، مما يثير في قلبها غيرة، ورغبة في إخفائه عن أعين الأخريات. «منذ أن نشر روايته الأولى وهو يتلقى العديد من الاتصالات من فتيات يطلبن منه أن يقوم بكتابة قصصهن»، تضيف، رغم أنها كانت هي السبب في أن يكتب رواية، ودفعته إليها، بعدما كان مكتف بكتابة مقالات لا أكثر. قبل أن تبلغ شكوكها ذروتها، تجاه رجل «تخلى عن أشياء كثيرة من أجلها»، حين تكتب: «المرأة لا ينبغي لها أن تصدق رجلاً أبداً، وخصوصا إن كان كاتباً، شاعراً أو روائياً». تتعاقب المشاهد في «نواقيس العزلة» في كتابة حميمية، قد يضيع خيط الربط بين أحداثها أحياناً، لكنها سرعان ما تستعيده، في توصيف امرأة قلقة، تعايش حياتها الداخلية، المعلقة بين رغباتها ومخاوفها، متمسكة بقراءة الروايات، في تصويب بوصلتها كلما تاهت، كما لو أنها مشجب يصونها من السقوط في الصمت، ويصدها عن الانحدار إلى الانطواء.