في عالمنا العربي اعتدنا استيراد مناهج النقد الأدبي ونظريات الأدب الحديثة التي يساهم في بلورتها مفكرون من شتى بقاع الدنيا، بينما كان الغرب على اتساع المفهوم الحاضنة الجغرافية لهذه النظريات والمناهج. لا نتساءل هنا عن إسهام عربي في إنتاج نظريات نقدية، لكننا نتساءل عما يفعله الكثير من النقاد العرب في استقبالهم لهذه النظريات وكيف تنبعث من عباءات الكثير من النقاد العرب أشباح الأصولية التي تحاصر كل نظرية وترغمها قسرًا على أن تتشبع بالأصولية فكرًا وممارسة رغم أنها في جوهرها لم تكن كذلك على الإطلاق. ليس عيبًا أن نستقبل نظرية ما ونسيء فهمهما أو نتعمد إساءة فهمها لكي نستزرع مفاهيم ومقولات هذه النظرية أو تلك في تربة نقدية عربية لها خصائصها ولها شروطها في استصلاح الفكر والذائقة الفنية! فمن طبائع الثقافات في حوارها مع بعضها البعض أن تقبل ما يناسبها وأن تراوغ أو تتمنع أو تكيّف ما لا يناسبها في لحظة تاريخية معينة. أظن أن ما منع ولا زال يمنع الاستقبال الإيجابي لنظريات النقد هو أشباح الأصولية التي نطلقها حول كل نظرية لتخنقها وتلبسها ثوبًا أصوليًا يحول دون أي محاولة لللإبداع والتفاعل مع النظرية ومع الواقع في آن. وأول شبح من أشباح هذه الأصولية هو التأصيل ؛ بمعنى أن الكثيرين لا يجيدون فهم مقولة إلا بتأصيلها أو تجذيرها في تراثنا العربي، فوجدنا عبد القاهر الجرجاني وغيره عند كثير من الباحثين أصلاً لليفي شيتروش البنيوي وهابرماس ما بعد الحداثي، وفانسيت ليتش ونقده الثقافي وغيرهم. وفي المقابل، كان هناك من يتعامل مع أصحاب هذه النظريات باعتبارهم آلهة أنتجوا نصوصًا مقدسة لديهم وجعلوا من أنفسهم كهنة حارسين لدقة الإحالة إلى النصوص النقدية شبه المقدسة ومانحين لصك المشروعية لكل من يدخل في حرم هذه النظرية أو تلك. وهنا نجد ليفي شتراوس ورولات بارت وبول دي مان وجاك دريدا وجوليا كريستفيا ولوسيان جولدمان وغيرهم كثيرين قد وقعوا تحت وصاية كهنة يصونون مقولاتهم ويتحدثون بأسمائهم بلسان عربي مبين. بطبيعة الحال، لم يطلب أي ناقد "غربي" من أي من نقادنا العرب أن يكون حارسًا لنصوصه سواء نقلت للغة العربية أو لم تنقل، كما لم ينتج ناقد "غربي" نظرية محصنة ضد إساءة الفهم المتعمدة أو غير المتعمدة. لكن الأوصياء عادة لا ينتظرون من يطلب منهم خدماتهم، وإنما يتبرعون بها ليس دفاعًا عمن يدافعون عنهم فحسب، وإنما دفاعًا عن دورهم الذي اختاروه لأنفسهم في المشهد النقدي العربي والعالمي. إن إخلاص الأوصياء للنظريات التي يحرسونها أكثر من إخلاص أصحاب النظريات لنظرياتهم، وهنا تتحول النظريات بين يدى الأوصياء إلى كائنات ميتة لا تحيا ولا يُسمح لآخرين ببث الحياة فيها. ولهذا حين تكون النصوص الإبداعية كائنات حية لا يمكن تقييدها بكائنات ميتة /نظريات نقدية إلا في أذهان الأوصياء كهنة النظريات. إن تضخم دور الأوصياء على النظريات في أي مشهد نقدي يجعل من الوصاية على الفكر النقدي أفقًا يصعب على الأجيال التالية تجاوزه دون مغامرات. ويبدو أن الوصاية على النظريات النقدية لم تكن سوى انعكاس لسياق الحداثة الذي كان فيه ماركس وفرويد ونيشه أعمدة قامت عليها الحداثة الغربية، ويصعب في هذا السياق الحداثي ألا يتبع الناقد العربي الأصل الحداثي ويقيم الأصنام وهو ينقل البنيوية لشتراوس ورولان بارت أو يقيم الأصنام لجورج لوكاش وميخائيل باخيتن ولوسيان جولدمان وبيير زيما.. إلخ. نظريات النقد ابنة الحداثة لم تكن تسمح لنقادنا العرب سوى بدور الأوصياء التابعين، فامتلاك لغة النبع النقدي الحداثي يجعل من المترجم حارسًا للبئر ومن ثم يقدم نفسه أو يقدمه الآخرون باعتباره المفسّر للنص/الأصل ، ويصبح تفسيره ليس مجرد تفسير ضمن تفسيرات أخرى ممكنة وإنما ثمة حرص على تفسير وحيد صحيح للأصل النقدي الحداثي. أما في السياق ما بعد الحداثي، لم يعد ثمة آلهة منظرون ولا نصوص شبه مقدسة في المشهد النقدي العالمي، لأن فكرة الأصل لم تعد لها جدارتها، كما لم يعد العقل ونظامه ولا العلم وحداثته بأفضل حال من الميتافيزيقا وأيديولوجياتها. إنه سياق السيولة النقدية بامتياز. لكن الأصولية وأشباحها في عالمنا العربي تأبى إلا أن تجعل منه ومن المقولات النظرية النقدية المصاحبة له كيانًا متماسكًا منسجمًا قابلاً للتقديس ومن ثم بحاجة لدور الكهنة الأوصياء. إن الأصولية القابعة في رءوسنا لا تسمح لنا سوى ببناء يقين، وإقصاء كل مختلف، وتوثين منظّر واحد نطوف حوله، ونتنتافس كي نحوز مكانة الكاهن المُفسّر المتحدث باسمه. بينما سياق ما بعد الحداثة ونظرياته النقدية تدعونا لإلقاء كل يقين جانبًا، وقبول كل مختلف، وإسقاط الأوثان أو على الأقل الحفاظ عليها متجاورة تنفي بعضها بعضًا. فهل يمكن أن تحدث النقلة من دور الكهانة والوصاية إلى دور التأويل واستزراع مقولات وتكييفها في التربة النقدية العربية كى تحيا لا كى تموت وتميت الإبداع معها؟! أم أن الأصولية القابعة في الرءوس ستحيل منتجات ما بعد الحداثة في مجال النقد الأدبي إلى أشباح للأصولية؟ إن الترجمة ودقتها أمر مهم في التفاعل بين الثقافات لكن لا يقل أهمية عنها استعداد كل ثقافة للتفاعل بإيجابية ومن موقع الندية، لا من موقع التابع الذي يرتضي لنفسه دور الكاهن الوصي على أصل لم يسهم في إنتاجه ويمنع غيره من الاقتراب منه إلا بالشكل الذي يوصي به. ومن سوء الحظ أن الشكل الذي يُوصى به عادة لا يفضي سوى لتحنيط النظريات وسلبها القدرة على الحياة في بيئة أخرى غير البيئة التي نشأت فيها.