بداية, تجدر الإشارة إلي عجز ما يسمي مناهج النقد التقليدي عن استيعاب النصوص الإبداعية الحديثة في بيئتنا الثقافية الحالية, تلك النصوص التي خاصمت الحدود التي أقرتها الأنواع الأدبية التقليدية. وارتبطت بجماليات تنتمي إلي أساليب شعرية, ودرامية, وفنية, وسردية, متداخلة, وجديدة, كما تجدر الإشارة في هذا السياق إلي رفض الملتزمين بمناهج النقد العربي القديم, وبأنواعه التقليدية, لعدد كبير من التجليات الأدبية المعاصرة, إما استنادا إلي معيار القيمة, أو بحجة مخالفة الأصول, خصوصا ما ارتبط بالممارسات الأدبية, وتجلياتها, التي لم تعرفها نظرية الأنواع التقليدية في الثقافة العربية من قبل. فعلي المستوي الإبداعي, يلاحظ المتأمل, تحديقا منغلقا من التقليديين العرب إلي الذات الشعرية التراثية, من أشهر شواهده ما نقرأه يوما بعد آخر من كتابات دالة علي الاحتراب القائم بين مشجعي أسلوب شعري, وأسلوب شعري آخر, وهو احتراب زائف, ومصطنع, ينتهي دائما إلي النفي المتبادل بين الأطراف جميعا, ونشير في هذا السياق إلي ممثلي المؤسسة الثقافية من شعرائنا التقليديين ممن احتموا بالوسطية, والتوفيق, وخافوا اجتراح الفضاءات الجمالية الجديدة التي يعد بها تطور الشعر العالمي المعاصر, فانغلقوا في ذات شعرية تاريخية, حاولوا استدامة شروط فاعلياتها, وعناصر تراثها الجمالي المحدود, دون الالتفات إلي شروط إنتاجها وتلقيها, وكان أهم ما استند إليه هؤلاء هو تعريف الشعر بناء علي شكل محدود, وتاريخي, للغة الشعر. وقد ظن التقليديون أن بني العروض العربي التاريخية هي البني الوحيدة المعبرة عن شكل اللغة الشعرية العربية, فاتخذوها مشيرا حاسما في تعريف الشعر بعامة, هذا بالرغم من كون هذه البني الإيقاعية لم تكشف في تاريخها الممتد الطويل إلا جانبا ضئيلا مما تحمله لغة عظيمة كالعربية من ممكنات, فإذا كانت البحور الشعرية الكمية مثلا مكونا بنائيا- لا جماليا- في الشعر, فهل يغيب الشعر عن بقية الأمم والثقافات؟ ربما لا نعدم من يقول نعم, إن البحور التي وضعها الخليل مكون بنيوي في الشعر العربي, وذلك دون أن ينتبه القائل إلي أنه بالرغم من كون صفة العربي هذه تشير إلي ثقافة ومكان, فإنها صفة مرتبطة بزمان لا يلقي المماري بالا إليه, فالعروض مكون بنيوي في الشعر العربي في زمانه دون منازع, لكنه ليس مكونا بنيويا في الشعر العربي في كل زمان. إننا هنا أمام تحديق آخر, لكنه إلي الذات, يقوم به النقاد والشعراء السلفيون, علي مستوي النوع الشعري, علي نحو يمنع وجود أي أنا شعري آخر! فتعاملوا مع أصل النوع الشعري, بصفته النوع ذاته. وما أبلغ ما تشير إليه عبارة مارون عبود(1886-1962) وهو يقول' فقد شبه ذلك البدوي بما لديه من آلة خبر آلام وقعها ونزعها, فما للحضري يرددها حتي اليوم, ولا قوس عنده ولا سهم.(...), إن زعم المتقدمين' من سرق واسترق فقد استحق' مهد لهذا الاجترار, ووطأ له, فقل التفكير, وابتذل التعبير'. علي مستوي آخر, أدي رفض الاجتهادات الفكرية والإبداعية الجديدة من التيارين الإبداعي والنقدي التقليديين, إلي دعم الثنائيات المتعارضة, التي قامت بتسييس الخطاب النقدي العربي المعاصر علي نحو سطحي وساذج من جهة. وأنتجت اجتهادات نقدية- لا يعوزها التلفيق- ربطت علي نحو تعسفي مقولات تراثية اقتطعت من سياقاتها التاريخية والمفهومية, بنظريات حديثة, لها أسئلتها الجديدة, وسياقاتها المعرفية والثقافية المختلفة, من جهة أخري, ذلك في ظل أرثوذكسية سلفية نقدية مؤثرة علي مستوي النقد الأكاديمي, في مصر بخاصة, والعالم العربي بعامة, وهي سلفية تعلن لنفسها بوضوح عبر عدائها للنظريات النقدية المعاصرة, وتمسكها بلغة نقدية تدعي الطابع العلمي دون إجراءاته, سواء بسبب جهلها بالأصول المعرفية, والأسس الفلسفية التي قامت عليها النظريات النقدية المعاصرة, أو بسبب عجزها عن استيعاب الدرس النقدي المعاصر, بامتداداته وتفرعاته المعقدة, فكان أن احتمت بالرفض. من شواهد هذا الاحتراب; تلك الكتابات الممتدة التي دارت حول الثنائية' التراث/ الحداثة', وهي كتابات بدلا من أن تمد خيوط التواصل بين المفهومين, اكتفت بوضعهما موضع الخصمين. فكان من نتائج هذا الاحتراب, مصادرة الاجتهادات الأدبية التي خاصمت آليات الاحتذاء, وطرائق الكتابة المعتادة, هذا فضلا عن إقصاء الاجتهادات النقدية عن الدرس الأكاديمي, تلك الاجتهادات التي لا تنتمي مباشرة إلي المدارس النقدية المعروفة, الوضع الذي كرس ابتعاد أساتذة النقد وطلابه عن النصوص النقدية والإبداعية المعاصرة. علي الجانب الآخر, الحداثي بخاصة, اهتم عدد كبير ممن يسمون نقاد الحداثة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين_ وفي هذا تعميم جائر لكنه ضروري في هذه المساحة المحدودة- بنقل النظريات النقدية المعاصرة, إلي تربتنا الثقافية, والأكاديمية, دون أن يقدموا إسهاما تطبيقيا لها علي واقعنا الإبداعي, هذا التطبيق الذي كان ضروريا لخلق الصلة بين هذه النظريات, وصلاحيتها الثقافية, في محيطنا الإبداعي, الوضع الذي أبعد النظريات النقدية المعاصرة عن الإسهام في إجابة الأسئلة الفاعلة والضرورية في ثقافتنا المعيشة, وجعل النظرية مفصولة عن سياقها التاريخي من جهة, وعن موضوعها الإبداعي من جهة أخري. فقد اكتفي معظم من سموا في محيطنا الثقافي النقدي بنقاد الحداثة, من جيلي الستينيات والسبعينيات بخاصة, بتقديم النظريات الغربية دون الاحتكاك التطبيقي بها, مما حول النظرية الغربية بتعدداتها, وثرائها, ومحمولاتها الثقافية, إلي مجموعة عمياء من الإجراءات, وهذا ما خلق كثرة هائلة في التصورات النظرية, والمناهج المصاحبة لها, وتشابكا هائلا في المفاهيم, كما أوجد- في الآن ذاته- أبنية نقدية غير مكتملة, بعضها جاء من ولادات قيصرية, دون حاضنات إبداعية تساعده علي النمو والتطور, فأصيبت الحركتان; النقدية والإبداعية بالضرر. ربما كان هذا التواصل ممكنا إذا ما تحرينا الوقوف موقفا نقديا من تراثنا من جهة, ومن الثقافات الوافدة من جهة أخري, وقد كان هذا ممكنا إذا انتبه نقادنا إلي أهمية احتكاك النظريات النقدية الغربية المعاصرة, علي مستويي المنهج, والإجراء, بواقعنا الإبداعي, وسياقنا الثقافي المختلف, وهو سلوك نقدي كان كفيلا بالإسهام في تطوير كل من الإبداع العربي المحلي من جهة, والنظريات النقدية الغربية, بسبب احتكاكها بواقع إبداعي مختلف, من جهة أخري. ربما كان هذا التقصير سببا في وضع الخارطتين الإبداعية والنقدية العربيتين في خارج مشهدي النقد والإبداع العالميين. وظلت تعبيرات' الأديب العالمي', و'الناقد العالمي'...إلخ. محصورة في إطار مفهومها الفولكلوري, مجازا, يستخدمها عدد من المبدعين والنقاد المصريين والعرب, علي نحو احتفالي, استنادا إلي عدد من الترجمات المحدودة, قام أغلبها علي مصالح, استثمرت فيها الوظيفتان الإعلامية, والثقافية, وشواهد ذلك, أوضح من أن تذكر في هذا السياق. وفي النهاية, يحمل سؤال' التجنس' النقدي أو الثقافي مغالطته المنطقية, لأننا لا نجد معني لفكرة كتاب يتصدره عنوان مثل' نحو نظرية عربية في النقد', إلا إذا كان المقصود هو أنها نظرية كتبها عرب, أو أنتجها عرب, لأن هذا المنهج في التفكير لن ينتج سوي ذات مشوهة, مقطوعة من نسبها الطبيعي, وشروط إنتاجها الإنساني, وسياقها التاريخي, مهما كانت طبيعة المرايا التي وقفت- تحدق- أمامها هذه الإسهامات..