يكون خلود كل شاعر عظيما مقارنة بما ناضل في الكتابة من أجله هذا ما أقصده بوعي الكتابة, ذلك لأن عظمة شاعر ما هي صفة سيخلعها عليه الزمان, وهي علي نحو أكيد تجاوز ما أنجزه من قصائد جميلة, أو مجموعة شعرية لافتة, إلي الاهتمام بمبدأ الكتابة ذاته, الكتابة التي يمثلها الشاعر, وهذا ينطبق دون منازع علي رواد المنجزين الشعريين الخمسيني والسبعيني. ولنتفق بداية علي أن النقد ليس حقلا بريئا, ذلك لأن العمل الأدبي يشكل نظاما معقدا يتمفصل مع النظام الاجتماعي والسياسي في الحقبة التي عاش فيها كاتبه, أكثر من كونه يعكس هذا النظام, من أجل هذا يرتبط العمل الأدبي بالأيديولوجيا, علي حد تعبير الناقد الانجليزي تيري إجلتون(3491), ولهذا الاقتباس أهمية في سباق وعينا بجيل ما من خلال إبداعه, فلا تقتصر مشكلة النقد علي معرفة الوسائل الفنية التي طورها الكاتب, لكنها تهتم بالسؤال: لماذا استعمل هذا الكاتب هذه الوسائل, ولم يستعمل غيرها للتعبير عن رؤيته إلي العالم! وفي هذا ما يربطه بموقف جمالي, وبتطلعات جيل ما علي المستوي الاجتماعي, فتأثر المبدع برؤية ما, لا يملك في حد ذاته أي قيمة تفسيرية, بل إن هذا التأثر يشكل في حد ذاته موضوعا يلزم تفسيره, وهذا فهم ينطبق علي علاقات التأثير بين الأجيال الشعرية أيضا. وإذا اتفقنا علي وجود أمية ثقافية عارمة أمكننا أن نفهم لماذا تحظي نصوص شعرية ساذجة بكل هذا الاهتمام الشعبي والنقدي, في الوقت الذي يهمل فيه المتلقي, والحركة النقدية السائدة, في أغلب الأحيان, نصوصا أكثر أهمية وشعرية بما لا يقارن بما هو أكثر حضورا وشهرة في السوق الأدبية, ذلك بعد أن أضحت سطحية العمل الشعري, واحدة من المعايير الكفيلة بإنجاح النص علي المستوي الشعبي. وقد أشرنا من قبل إلي أن تعبير الجيل الشعري يصح إطلاقه بمعناه الأدبي المحدود علي شعراء الخمسينيات المصريين, وعلي شعراء السبعينيات المصريين, وكنا قد استنتجنا أربع سمات أساسية في تيار شعراء الفصحي الستينيين بعامة, ولهذا التعميم اسثناءاته, الأولي هي ارتباط معجمهم الشعري, وآليات خلق الصورة الشعرية في نصوصهم باللغة الشعرية المتوارثة في أرسخ صورها التعبيرية التي تتسم بالوضوح والمباشرة, فابتعدت هذه النصوص عن آفاق التجريب, تلك الآفاق التي حلقت فيها إبان الحقبة ذاتها مشاريع ستينية شعرية عربية وعالمية عديدة, والسمة الثانية هي التزام معظم شعراء الفصحي الستينيين في مصر بالمدونة الإيقاعية العربية التقليدية, وهذا ما يفسر السبب من وراء محاربة الأساليب الشعرية الجديدة, وعلي رأسها قصيدة النثر, وتأتي السمة الثالثة ارتباطا بالموضوع الشعري, وولعهم بالحس الرومانسي القوي من جهة, وبالبحث عن بطل غائب من خلال توظيف الشخصيات التاريخية التراثية من جهة أخري, وكان لهذا ما يبرره خصوصا بعد نكسة7691 م, وما تركته من أثر هائل علي وعي شعراء الستينيات الذي اتجه إلي التعبير عن أدب الهزيمة علي مستويات مضمونية عديدة, وبطرائق مختلفة, أما السمة الرابعة, فهي التأثر الهائل لشعراء الستينيات بالمنجز الشعري الخمسيني بخاصة, فضلا عن الوقوف عند حدوده, دون محاولة حقيقية لمجاوزة هذه الحدود إلي بدائل شعرية أو اقتراحات إيقاعية جديدة, وهذا ما قد يفسر شعبية هذه الكتابات علي مستوي التلقي, من أشهر أمثلة ذلك في الشعر الستيني, بعض ما كتبه أمل دنقل من أعمال, ومنها قصائد كثيرة عاشت بسبب احتياج الناس إلي محمولها السياسي, باستثناء ديوانه الأخير.. علي خلاف هذه السمات الأربع لمعظم شعراء الستينيات, جاء حراك طليعة جيل السبعينيات العربي بعامة, وهي طليعة حاول شعراؤها مجاوزة الأصولية التعبيرية والإيقاعية إلي فضاءات لغوية وجمالية جديدة, سواء عبر التواصل الجمالي مع الشعر العالمي وتطوراته الجمالية والإيقاعية, أو علي مستوي التجريب, الذي سبقه ذوق عربي مشبع بتراثه من جهة, ولا يخاصم الحداثة, وما بعدها, أو يقف أمام تيارات التجريب الشعري الجديد من جهة أخري, وهما الأساسان اللازمان لأي نهضة شعرية حقيقية, ذلك لأنه لا يمكن الانقطاع من أجل إيجاد ممكنات جمالية وشعرية عربية جديدة دون ارتباط قوي سابق بتراثنا الشعري العربي في أفضل تجلياته, ودون اطلاع دؤوب علي منجزات الحراك الشعري العالمي بشكوله المختلفة أيضا. ومع ذلك لم تخل أعمال جيل الفصحي السبعيني في بداياتها من الغموض حينا, ومن الصعوبة والاضطراب في أحيان أخر, ربما يرجع بعض ذلك عند عدد من كبار شعرائه إلي ثراء المرتكزات الفكرية والمعرفية التي حاولوا استيعابها من فضاءات الشعر العالمي, وتياراته الإبداعية والجمالية المختلفة, بنجاح تارة, وبفشل تارات, خصوصا بعد أن قويت حركة الترجمة من الآداب العالمية إلي العربية إبان حقبتي السبعينيات والثمانينيات. علي مستوي آخر, كان احتفاء طليعة السبعينيات العربية بالتجريب قويا, فساند السبعينيون قصيدة النثر, تلك القصيدة الجديدة التي بدأت متصلة بأصول غير عربية, بسبب ظروف نشأتها التاريخية, وبأصول غير شعرية بسبب سيطرة الثنائية التقليدية الشعر والنثر علي الوعي النقدي السائد بصفتهما ضدين, ولكن بمرور الوقت استقام عود قصيدة النثر المصرية, وبات معبرا عن خصوصية جمالية قوية تفرض حضورها يوما بعد آخر علي المشهدين العربي والعالمي. إن ما يسمي بأزمة التلقي للنصوص الشعرية الحديثة في واقعنا الثقافي كان من أسبابه مناهج التعليم في مدارسنا وجامعاتنا, وما راكمته هذه المناهج في المخيلة الجمعية من أعمال إبداعية قليلة الأهمية, ومتهافتة, دون أدني تمييز بين أهمية العمل الإبداعي التاريخية, وأهميته الجمالية, وهذا ما أضعف الارتباط بين المقررات التعليمية, وما تمور به الحياة الثقافية من أعمال إبداعية حديثة, واجتهادات نقدية مجددة, ذلك بعد أن ظل النظام التعليمي المدرسي والأكاديمي محتميا بالاتباع, فخاف التجديد, وابتعد عن المراجعة, الوضع الذي أسهم في إيجاد ذوق جمالي جمعي متين لكنه عاجز في الوقت ذاته عن التعامل مع واقعنا الأدبي الجديد بمستوييه النقدي والإبداعي. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلي مسئولية دور النشر الحكومية, والصحافة الأدبية, عن شيوع أدب ونقد متهافتين, فرضا علي الجمهور, في سوق النشر, وعبر الصحافة الأدبية, علي نحو أدي إلي هبوط ذوق المتلقي الأدبي, وأذكر هنا مقولة فادحة ذكرها ميشيل بوتور في كتابه الشهير عن الرواية الجديدة حين أنشأ يقول إن أجمل النصوص الأدبية تبقي إلي الأبد ملتبسة, وغير متممة, لا يقدرها القراء حق قدرها. لا يتحرك الشاعر القوي نحو الاندماج بالآخرين, بل يتحرك باتجاه المكوث مع الذات, وهذا لا ينفي عن كل شاعر تورطه علي نحو ما مع آخرين, ذلك لأن التأثر والتأثير في الكتابة الأدبية بخاصة, أمران طبيعيان, الذي لم يتأثر هو الذي لم يقرأ, وبالنسبة إلي الشعر, لا يستطيع الشاعر الذي لا يقرأ أن يكتب, لكن المهم أن تكون المحصلة كتابة شعرية لها وعيها الجمالي الخاص, والمختلف, لأن الشعر لا ينهض خفاقا إلا بالاختلاف, هذا ما تعلمناه من تراثيه العربي والعالمي, هل كان أفلاطون محقا حين عرف الشعر بأنه ذاك الذي لا يعرف إلا بنفسه!