مقابل غزارة الدراسات والبحوث المَكتوبة حول الأدب وفنونه ومحاولة الدارسين إيجاد لغة معاصرة تُمكن القارئ من فهم رسالة الأديب وتذوق جماليات النتاج الأدبي، نجدُ إهمالاً لفن الموسيقى ونادراً ما تُصادفُ مُؤلفاً بشأنِ الموسيقى، أي الفن الذي يعبرُ عن الإرادة مباشرة من دون الوسيط على حد تعبير شوبنهاور، الكاتب العراقي الراحل نجيب المانع يدرس في كتابه «في الموسيقى والأدب»، الصادر من دار «المدى» 2018، إنجازات رواد الموسيقى والأدب. رأى والتر بارتر أنَّ كل الفنون تطمحُ إلى أن تكون حالة من حالات الموسيقى، لكن يبدو أنَّ الموسيقى لم تُصبحْ محوراً في مدونتنا الثقافية، وعندما لا تنشأ الذائقة على الموسيقى السامية من الطبيعي أن يسود النوع الرديء من الموسيقى الذي يُفسدُ الذوق، إذ ربط الفيلسوف اليوناني سقراط نشوء السلطة المُستبدة بتدهور الذوق الموسيقي. وعن تأثير الموسيقى في حياة الشعوب يعتقدُ المُفكر اللبناني جورج قرم أنَّ أوروبا ما كانت لتجد سبيلها إلى الوجود على الرغم من حروبها وصراعاتها الطاحنة لولا الموسيقى التي حطمت حواجز مذهبية وقومية ودينية. إذاً فإنَّ الموسيقى تُعبرُ عن الهوية الإنسانية وتهذبُ النفوس من الإحنِ وتُمَثِلُ قمة التَحضُر والرقي الفكري. من هنا نفهم قول نيتشه إنَّ الموسيقى برهنت أن الحياةَ ليست خطأً. ويُفضلُها ألفريد دي موسيه على الشعر، معترفاً بأنَّها جعلته يؤمنُ بالله. وما يدعو إلى الاستغراب أنَّ تنشئة الذائقة السوية لتذوق الموسيقى لم تكنْ ضمن اهتمامات مثقفينا ولا المشتغلين في المجال التربوي، وقلما تجدُ في طيات مُصنَفاتهم مبحثاً خاصاً بالموسيقى. صحيح أن عدداً من الأدباء تناولَوا علاقتهم بفن الموسيقى وأبدوا إعجابهم بعبقرية الموسيقيين الكبار، غير أنَّ ذلك لا يفي بالغرض ولا يشفي الغليل، وقد يكون الكاتب العراقي الراحل نجيب المانع استثناءً في هذا المضمار لجهة شغفه الشديد بالموسيقى وتمكنه في تفهم مفرداتها، فضلاً عن ثقافته الأدبية الزاخرة، وهذا ما يلاحظه القارئ في كتابه المعنون «في الموسيقى والأدب»، إذ يدرسُ إنجازات رواد الموسيقى والأدب مُقدماً رأيه حول ما يتمتعُ به عملُ كل مبدع من الخصوصية والتَمَيُز. خارج الحاجز يحملُ القسمُ الأول من الكتاب عنواناً بصيغة السؤال عن إمكان تكوين أذن عالمية، ثُم يؤكدُ المؤلف قدرة الموسيقى على كسر حاجز الاختلاف اللغوي، وبذلك تتحولُ إلى لغة موازية لا يتطلبُ فهمها معرفة نوطاتها أو الخلفية الثقافية لمؤلفيها، لذا فإن الإنسان الغربي يتذوق أصوات أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز عندما ينساق وراء تيارهم النفسي وما يعبرُ عنه الصوت الممتزج بالموسيقى. بالطبع، الموسيقى من المشتركات الإنسانية ويفرق مثقفنا الموسوعي بين ما يسميه بالمشترك الأدنى الذي ينتشر بسرعة ويتضخمُ عددُ متابعيه مثل موسيقى الروك ومباريات كرة القدم كون هذا النوع لا يحتاجُ إلى الإعداد والسمو بالذائقة والإدراك، وبين ما يحتاجُ فهمه إلى رقي عقلي إذ يكون الإقبال عليه محدوداً، لذا فإن مستمعي موزارت أقل ممنَّ يرددون أغاني الروك. عطفاً على ذلك، يطرحُ نجيبُ المانع سؤالاً حول غياب تأثير الموسيقى العربية في العالم مع أن مئات الفنانين العرب موجودون في الحواضر الغربية، ويدلفُ في قسم آخر من مُؤلفه إلى المقارنة بين غوستاف فلوبير، وهو في طليعة صانعي فن الرواية، وبين يوهانس برامس الألماني الذي يصلُ مستوى إبداعه إلى مرتبة سمفونيات بيتهوفن. غير أنَّ الاثنين فلوبير وبرامز كانا شحيحي الإنتاج، فصاحب «مدام بوفاري» يقولُ إن «سلة المهملات أفضل أصدقاء الكاتب»، ويفترضُ المانع تخلي فلوبير عن بعض نتاجاته المهمة لأنه كان شديد الحرص على الصقل والتنقيح، كذلك برامز لم يكن كثير التأليف في مجاله، إضافة إلى ذلك، يخالف الكاتبَ قول ريتشارد فاغنر إن الأوبرا هي كل الفنون أو نهاية الفنون العليا، مُعتبراً كلامه هوساً. ولا يعني ذلك عدم الاهتمام بهذا الفن، بل يبدي المانع إعجابه برحابة الأوبرا وفخامتها، مؤكداً متابعته أصوات أوبرالية، ولافتاً إلى العلاقة القائمة بين موسيقى موزارت وبين الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان. كذلك يشيرُ إلى تأثر بدر شاكر السياب بالموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي، عندما كتب ديوانه المعنون «المعبد الغريق» مقتفياً موسيقى «الكاتدرائية الغريقة» بالكلمات.