اهتم أستاذنا اهتماما خاصا بدراسة مناهج البحث فى الدراسات الأدبية، ونظريات النقد الأدبى، مع تمتعه بذائقة أدبية رفيعة، ذات حساسية شديدة ودقة ووضوح. بالإضافة إلى ثقافة موسوعية، وفهم دقيق لأعظم ما أنتجته البشرية من نماذج الإبداع الأدبى والفنى. وذائقة محفوظ من نوع خاص جدا، يتسم بالرحابة المدهشة، والانفتاح على كل أشكال الإبداع الإنسانى، فهو لا ينتمى نقديا إلى تيار أدبى بعينه، فى مقابل تيار آخر، ولا ينتمى لمدرسة فنية بذاتها، فى مواجهة مدرسة أخرى، إذ إنه قادر على تذوق مختلف المدارس الفنية، وجل التيارات الأدبية. وعلى مدى سنوات طويلة كنت أقرأ له أعمالى الأدبية، والأعمال المنشورة بالصحف والمجلات الثقافية، فقد كان شديد الاهتمام بمتابعة الأجيال الجديدة من الكتّاب، وتذوق التيارات الإبداعية الحديثة. وهذا لا يعنى أنه كان يقبل كل شىء، إذ كان بسرعة يفرز الغثَّ من الثمين، ويقيّم الإبداعات المختلفة تقييما موضوعيا، فيه قدر كبير من السماحة والتشجيع. فهو يشير بوضوح إلى مناطق الحسن والجمال، وقد يلفت النظر بلطف إلى مناطق الضعف والترهل فى العمل الفنى. ورأيى أن محفوظ إذا وجد الوقت الكافى لكتابة المقالات النقدية، والدراسات الأدبية لكان من أعظم نقاد العصر، ولننظر إلى مقالاته الأولى، أو مقاله الشهير فى الدفاع عن فن القصة والرواية، فى مواجهة عملاق الأدب العربى، عباس العقاد، الذى تحيز لفن الشعر، ورفعه فوق فن القصة والرواية، فإذا بالشاب نجيب محفوظ يرد عليه بأدب وقوة وفهم وحصافة، ويؤكد أننا لا يجب أن نُعلى فنًّا على آخر، لأن لكل فن مجاله ومحبيه، ثم يقول عن فن القصة و: «شعر الدنيا الحديثة». هذا التعبير البليغ الذى كتبه محفوظ وهو فى الثلاثين من عمره، وما زلنا نردده حتى الآن. ورغم نجاح الأستاذ وشهرته التى عمت الآفاق، فإنه لم يتعال على النقد قط، فعلى عكس نزار قبانى الذى قال إنه لم يستفد من كل ما كُتب عن شعره، كان الأستاذ يحترم النقد ويقدره. وهذا لا يعنى أن كل ما كتب عن محفوظ كتب بطريقة إيجابية، على الإطلاق، فثمة نقد موضوعى، وآخر غير موضوعى، وهناك نقد «أيديولوجى» كالذى كُتب عن أدب محفوظ فى فترة الستينيات، إذ أطلق عليه البعض تعبير: «كاتب البرجوازية الصغيرة»! وقد قرأ الأستاذ دراسة عن إحدى رواياته فوجدها مليئة بالرسوم البيانية، والمثلثات، والمربعات، ولم يفهم منها شيئا، فإذا كان مؤلف الرواية لم يفهم النقد المكتوب عنها، فما بالك بحال القراء؟! وليس كل مبدع عظيم يصلح لأن يكون ناقد اعظيما، فهذه موهبة، وتلك موهبة أخرى، وإن كان ثمة من امتلك الموهبتين معا، وهم ثُلة نادرة، كطه حسين، ويحيى حقى، ومحفوظ. ومن ثم فقد خسرنا ناقدا عظيما، إلا أننا كسبنا، بلا شك، المبدع العالمى نجيب محفوظ.