صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتاب "الثقافة الموسيقية"، من تأليف الصاغ صالح عبدون ومراجعة محمود أحمد الحفني، ويتناول الكتاب الثقافة الموسيقية من جوانبها كافة؛ فهو يعرض في البدايةً بحثاً فيه إيجاز وإنجاز عن فلسفة الفنون وماهية الجمال وأهمية الموسيقى وميزاتها الفائقة وإمكاناتها في التعبير عما هو غير ملموس وعما يتعلق فقط بالعالم الداخلي. ويضرب الكتاب مثالاً بقدرة الموسيقيين على التعبير عن موضوع وجود الإنسان في هذه الدنيا ومروره فيها، من أين أتى وإلى أين يذهب؟، ونضاله وسط هذا الخضم من المآسي، ثم كفاحه ضد مصيره المؤلم ومحاولاته الواهنة ليعيش حياة كريمة في هذه الدنيا العاصفة رغم كل شيء، ثم ينتقل إلى هواية الموسيقى، فيتحدث عن ارتباط الإنسان بها واعتباره إياها أفضل أنواع اللهو، فهي توجده في حالة يعبر خلالها عن استمتاعه بالحياة. * كيف بدأ الاهتمام بالموسيقى؟.. يخبرنا المؤلف أنه عندما تجاوزت البشرية طفولتها الحضارية وشرعت في الأخذ بأسباب النظر إلى ما وراء الأشياء والنفاذ إلى عمق الوجود، للوقوف على حقائقه العامة، بدأت الفلسفة تأخذ دورها الطليعي في بناء الحضارات الإنسانية، تطلع العلماء والمفكرون إلى تكوين صورة ذهنية مثلى لما يجب أن يكون عليه الأفراد والأمم، وارتأى حكماء الإغريق أن الإنسان المثالي هو الملمّ بالعلوم العقلية من الرياضيات والفلسفة، وما تشعب عنها من علوم كالطبيعة والميتافيزيقا وعلم النفس، وهو الملم أيضاً بالرياضة البدنية، درايةً وممارسةً، ثم بالموسيقى التي تهذب النفس وتسمو بالروح، غير أن العصر الحديث طغى فيه الاهتمام بالآلة والاختراعات، وتراجعت القيم الروحية العامة، كما تراجع الاهتمام بالإنسان ذاته، لأن معيار التفوق هو القوة، والقوة إنما تكمن في اقتناء الآلة والسيطرة عليها مع التوسع وفرض النفوذ على الأمم الضعيفة، فالغاية المثلى هي التفوق المادي بصرف النظر عن المشاعر والأحاسيس والروح الصافية، وأصبح الإنسان في نظر البعض لا يختلف عن الحيوانات، وهنا فزع المصلحون والفلاسفة وعادوا للنداء بضرورة تربية النشء تربية شاملة تنمي قدراتهم الذهنية وملكاتهم، وتزرع فيهم أيضاً حب الفن والجمال والبعد عن النفعية الخالصة والحس الانتهازي، وكانت الموسيقى إحدى أهم المجالات التي عُنِي بها المصلحون لأنها تسمو بالعواطف وتمحو آثار الحقد والأثرة وغلظة القلوب. والفنون الجميلة عامة تقوم على أساس محاولة اكتشاف نواحي الجمال في حياتنا، وإبرازها في صور ملموسة عبر وسائل معينة، فالموسيقى مثلاً تظهر لنا الجمال الكامن في الأصوات عبر توليفها بحيث تصبح أنغاماً يمكن عزفها بالآلات المختلفة كالناي والعود والكمان، والعاملون في هذه الفنون تكون ذائقتهم على قدر كبير من الرقي والإحساس المرهف، وهم يحسنون الاختيار ويتقنون التعبير عن أوجه الجمال التي لمسوها، ويملكون الموهبة في توصيلها إلى عموم الناس حتى يتأثروا بدورهم وينعكس الفن على سلوكهم العام، وعندما يتعلم الإنسان كيف يستسيغ الفن ويقدّره، يقف على بعض أسرار الجمال وينفر من كل ما هو قبيح، ويعرف كيف يوجد لنفسه إحساساً بالمتعة يضفي عليه البهجة والسرور. ويتساءل المؤلف: كيف يرى الإنسان الجمال؟، والسؤال الأكثر إلحاحاً ما هو الجمال نفسه؟، لقد راود هذا السؤال كثيرين، وبعضهم أكدوا أن الجمال ليست له تعريفات أو مقاييس، ومنهم "أناتول فرانس" الذي قال: "أعتقد أننا لن نعرف بالضبط لماذا يقال عن أي شيء أنه جميل!!"، ورأى البعض أن التناسب والملائمة بين الأشكال والنغمات هو أساس الجمال، فعندما نرى شكلاً منظّماً يضفي هذا علينا شعوراً بالارتياح والسعادة، والعكس إذا رأينا شكلاً متنافراً أو غير محدد النسب. ويرى الفيلسوف "سبينوزا" أن إحساس الإنسان بجمال شيء ما يكمن في رد الفعل الذي يحدثه الشيء في نفس المتأمل له، وليس في جوهر الشيء ذاته، فيما أكد "إيمانويل كانط" أن جمال الشيء يأتي من كمال تكوينه والترتيب بين أجزائه، ليؤيد بذلك وجهة النظر التي رأت الجمال في التناسب والملائمة، وبشكل عام يمكن القول - في حالة الموسيقى - إن محب الموسيقى كلما زاد سماعه لها وخبرته بها، زادت احتمالية حسن تقديره وسلامة ذوقه. ويخبرنا المؤلف أن الموسيقى من بين الفنون كلها، تمتاز بقدرتها الفائقة على التعبير عما يكمن داخل النفس من عواطف ورؤى وأحاسيس، وهي لا ترتبط بأيّ مؤثّر خارجي، ويمكن حسبانها لغة عالمية تخاطب أعماق الإنسان بما هو إنسان، وليس بما هو كردي أو عربي أو بريطاني، فعندما يسمع الإنسان العربي مثلاً سمفونية ألّفها أحد موسيقيي الغرب العظام، فإنه يطّلع على أفكار ومشاعر قد لا يفهمها بلغة هؤلاء الموسيقيين، فالموسيقى إذن وسيط إنساني بالغ الروعة والأهمية ويتفوق على اللغة نفسها. ورغم كل ما سبق، ينظر بعض الناس - أو أغلبهم - إلى الموسيقى كشيء ثانوي يسمعه في وقت فراغه، أو ربما حين يزاول بعض الأعمال ويحتاج معها إلى ما يسلّيه، ونادراً ما نجد شخصاً عادياً يهتم بالموسيقى لذاتها، وبالتالي يصعب عليه أن يتصوّر شخصاً ما يهتم بسماع الموسيقى اهتمام مُحبِّ الأدب بقراءة شكسبير وهيمنجواي. وتزداد العلة في بلادنا العربية التي لا يحتمل بعض مواطنيها سماع الموسيقى وحدها، إذ يجب أن تكون مصحوبة بالغناء، وقد انحدر فن الغناء بدوره وأصبح متخماً بكل رخيص من الكلمات والمعاني، والأدهى والأمر أن بعض التيارات المتطرفة استطاعت أن تلقي في روع الجماهير أن الغناء محرّم ويوجب غضب الله ومقته، فمتى يشعر الناس في بلادنا بأهمية الفن والموسيقى؟!!.. لست أدري.