السؤال عن الفن، عن قراءته وفهمه، تذوقه والتفاعل معه؛ يحيلنا الى السؤال عن الجمال، وعلم الجمال "الاستطيقا"، الذي ظهربمعنى"فلسفة الجمال"لفهم الظواهروالخبرات الجمالية وتفسيرها، في القرن الثامن عشر؛ في مؤلف الفيلسوف الألماني بومجارتين "تأملات فلسفية في ماهية الشعر". وقد خاض الفلاسفة والمفكرون، الأدباء والفنانون، القدامى والمحدثون؛ في ماهية الجمال وسؤاله الملح "ما الجمال". هل هو موجودموضوعيا لذاته فيما ندركه من موجودات، أم هو صورة عقلية كصورة الخير والشر. والشق الأخير هو ما ذهب إليهافلاطون وثلة من الفلاسفة.فيما ذهب الفيثاغوريين الى التماثل والنظام في فهمهم للجمال، وذهب سقراط الى ربط الجمال بالأخلاق والعدالة والخير والمنفعة. وفي عصر النهضة رأى كانط الجمال أو النشاط الجمالي بشكل آخر،فهو اللعب الحر للخيال العبقري من وجهة نظره. وقد يطول الحديث حول سبر الجمال وتنظيراته.فكل ما قيل صحيح لحد ما بتقديرنا، لانزياحه عن نسبيةالادراك الحسي والعقلي، واسقاطاته على طبيعة فهم المُدرَك وتذوقه بما يشيعه في النفس من سرور وألم، أو قبح وجمال. وهذي ثنائيات متداخلة ومتصلة لا ينقطع حبلها السري،متغلغلةفيالتركيب السايكولوجيوالبنيان المعرفي للمُدرِك. وثمة فرق بين الجمالوالمكون الجمالي للفن، فهذا الأخير غير مرئي بصريا، لكنه يبعث انفعالات حسية جميلة، كالدهشة والرغبة في الاستكشاف والمغامرة،التأهب للتأمل ومساءلة الذات والآخر. لوحة "الصرخة" للفنانالنرويجي ادفارد مونك على سبيل المثال، لوحة بشعةبمقاييس الجمال الشكلي أو الظاهري، لكنها حافلةبالمكونات الجماليةالتيتشعرنا برهبة وجودية، بغموض وقلق يحفزانعلى الاسترسال والتأمل.فالجمال قد يُبعث من القبح إذا تضمن الأخير في ثناياه مكونات جمالية. ويصح هذا فيالثنائيات المتضادة، وهي في الحقيقة وحدات متصلة كما اسلفنا؛ كثنائية الخير والشر، والسرور والألم. عود الى بدء،سؤال الجمال يحلينا بدوره الىسؤال الحرية، لأزلية العلاقة الوظيفية الخلاقة بين هذه الأقانيم الثلاثة لو جاز لنا التعبير..الفن والجمال والحرية.. وقيل في معارج الزمان: الحرية معبد الفنون..والحرية أم الفنون تصديقما قيل يحفزنا علىالتساؤل، وبعد تصديق جان جاك روسو: كيف تمخضت البشرية إذن،عن فنون راقية وهي مكبلة بسلاسل العبودية على مر العصور.. كيف خرّجت عظماء في شتى الفنون، في النحت والرسم والموسيقى والشعر وما إليه؛رسخوا في الذاكرة الجمعية.. أين وجد فنانو المجتمعات المقهورةمعابد حرياتهم فأبدعوا، وانتجوا فنا رفيعا، وأسسوا مدارس فنية تتبنى نظريات شتى فلسفية وسايكولوجية، كيف نظرّوا في الجماليات تحت سقوف كالحة، لا تستر أفضية الشرور والدمامة. هل فعلا الحريةمعبدالفنون، أم انها مقولة واعدة من مقولات الفنتازيا الفكرية الخلاقة.. لا يحار المرء في الإجابة عن تساؤلات كهذه لو تسنى له فهم الحرية،وعلى أنها وقبل أي شيء؛إنعتاق من الداخل، اصغاءيقظلما لا يمكن سماعه، تحديقمتواصل بما لا يمكن رؤيته، إصراردؤوب على الخلق من العدم،ولو في عالم مصغر..عالم الأنا..عالم نشأة الحرية وترعرعها.. أن يتمردإنسان على نفسه،أن يقوى على تحريضهالعتق نفسه من نفسه؛سيخلصالى تشييد معبد حريته الخاص.ويكون قد أعد نفسهللخلق والابداعولو في مجتمع تكبله السلاسل، ولو في بطونالمعتقلات والسجون أوعلى أقفاء الجحور الموحشة.سيهرعللتماهي مع الفنون وتحسّسها بشكل أفضل، خالٍ من العصبيات المدمرة لآفاق العقل البشري اللامحدودة، واسراءاتالذاتالهائمةبينالحقيقيوالمتخيل.فمهما ابتعد الإنسان عن واقع بيئتهالمعاش الى واقع آخر حقيقي أو متخيل، أقترب- أدريا أو لا أدريا- من واقع بيئته بمايسقطه عليه هذا الواقع من مخاضات بالغة التعقيد؛ محطما، أو متصادما معه أو هاربامنه، مزحزحا إياه الى ضفةأخرى يريدها،وبما تجترحهملكات ذاته المعرفية والسايكولوجية. ولسايكولوجيا الفنان الأثر الأبلغ على منجزه الفني، ولسايكولوجيا القارئ بالمقابل، الأثر الأبلغ في طبيعة قراءته و تذوقه. يمكننا القول هنا، أن لا وجودلمتخيل مطلق فيما أنجزه الإنسان منذ بدء الخليقة، وربما اساطير الشعوب والأمم خير مثال. فهي من الهزيع الملبد التكوينلاسقاطات الواقع، ومحاولةلتشكيله من نقطة البدء، تحليله وفهمه، صياغته بشكولغرائبية خارقة؛ متخيلة من مسوسه (أي الواقع). ولو صح ما نقول، فتجريد أي عمل ابداعي متخيلمن مسوسه الواقعية،أو نبذه لفقدالواقعية أو التقليل من قيمته؛ لا يبدو سويا. وقد أتفق الباحثون المنظرون في الفن، على أنه غاية بذاته و جوهر، ولا يحتمل فرض الغرض عليه. أو تحييده لتحقيق أغراضغائية محددة. وإذا كان لابد من الوقوف على غرض الفن وغايته، فبتقديرنا ما ذهب إليه هيجل صحيح لحد ما، إذ رأى الهدف النهائي للفن لا ينفك عن إيقاظ النفس والروح، ودفع الواقع الى مثاليته أو روحانيته. فنسخ الواقع والطبيعة،لا يُعد فناًابداعياُ بنظر الكثير من الفلاسفة مثل افلاطون وافلوطين وهيجل وكروتشه على سبيل المثال لا الحصر.فرغم ما تتصف به النسخة منجمالية، يبقى الأصل أفضل دائما،أدق وأكثرحيوية.و رغم العلاقة الوثيقة بين الفن والجمال، فليس كل جميل نعده فنا بالضرورة. ومن جهة أخرى، إذا كان في الواقع والطبيعة حيوات متنفذة توقظ النفس والروح، فنسخها نسخا نقلياالى عالم الفن لا يحرر قيمة مضافة على مستوى الابداع الفني مالميُزحزح النسخالنقليالى نسخ تكويني يغير طبيعة الواقع أو طبيعة الطبيعة بشكل أو آخر، و بما يزرعه الفنان من عاطفة وخيال لخلق المكون الجمالياضافة للجمال الطبيعي المنسوخ عن الواقع أو الطبيعة. والذي عده هيجل (أي الجمال الطبيعي) أول صور الجمال السانحة التي تحفز الملكات الوجدانية والعقلية على خلق مكونات جمالية مبتكرة في المنجز الفني. و الفن بصفته غاية لذاته، أرفع من أن نحيله الى مدونة من مدوناتالتاريخ المنهكة بأغراض وغاياتمتصادمة. ولا يصلحل "سموه وجوهريته" للتسخيرك ذاكرة تاريخية تعصف بها الأيديولوجيات المتصارعة. ويصلح بتقديرناك مدونة أو ذاكرةروحية خلاقةلا تمسها العقلانيات الصارمة ولا تترجمها. ما يعتمل في الداخل الإنساني من شعور بالخير والشر، بالجمال والقبح،و بما ينزاح عن هذه المنظومة الهائلة المتضادة، المتداخلة والمتراكمة زمنكانيا،وما يضطرمفي عمقه من مكنونات اللاشعور والذات الجريحة؛ تسري به الروح خارج زمنكانيته أو داخلها، لتسقطه في عالم ساحر ..أسمه الفن.. لقراءة هذا العالم الساحر دون أن نهتك سحره بعصبية ما، ثمة ضرورة الى "ذكاء تذوقي"، قد يفتقده الكثير من الأذكياء. فثمة "عصبيات" تضاهي العصبية القبلية قد تبدو محمودة، لكنها أشنعمنها بتقديرنا، ليس لما لها من آثار سالبة في التعاطي مع الآخر، مع المجتمعوالعالم وحسب؛ فتأثيرها على قراءة الفن وتثمين الطاقات الابداعية المُحررَة في عوالمه؛ أكثر شناعة. فالفن الذي يعده الثقات الكبار ملاذا للإنسان منذ القدم ولغة عالمية سامية بهويتها الإنسانية، لا يساقالى "غاية" تخدم بيتالعصبية أو صعيدها، ولا يكرس كوسيلة عقلانيةأو منطقيةلبلوغ غاية غير غايته. وإذا كان لابد من (تبجيل) الفن بغاية دخيلة لتعذر فهمه كجوهر وغاية، فلتكن غاية الفنان نفسه فيما يريد، ومن نسيج جوهره الوجودي والوجداني؛ وليس غاية مفروضة. فالفنبصنوفه، غريمالقيود والفروض والإملاءات الخارجية، هذا لو صدقنا أن الفنان لا يشتغل ويبدع إلاّ في معبده الخاص، معبد حريته وأناه المتحررة، فلا يرى العالم من حوله إلاّ كما يريد أنيراه، ومثلما يريد أن يفلسفه أو يتصوره. فلا غلو في وجود علاقة صميمية بين الفن والفلسفة. نختم هذا الجزء بمقولة شاسعة الدلالة لأشهر رجالات النهضة، الفنان ليوناردو دا فنشي: "الرجل العاقل يكيّف نفسه مع العالم، بينما الرجل الغير عاقل يصر على تكييفالعالم وفقاً لنفسه، ولهذا كل تقدم..يعتمد على الرجل الغير عاقل." سنحاول في الجزء الثاني الوقوف على بعض الصُعد لعصبيات منظورة، كثرما يصار الى فلسفتها- بذات العصبية- الى قيم إنسانيةراقية.. فاتن نور June, 29, 2012