هذا كلام عن الفن وليس كلاما عن الثورة ، أو السياسة ، أو قانون العقوبات، أو حتي قيام البعض بمحو الرسومات عن حوائط تروي عن الثورة والدم والشهداء. في كتابه ( Beauty يناقش الفيلسوف البريطاني روجر سكروتون - Roger scruton الجمال كفلسفة وقيمة أخلاقية وروحية، ويقارن بين مفهوم الجمال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وما أصبح عليه حال الأدب والفنّ والموسيقي منذ بدايات القرن العشرين ، بل يعتبر Roger scruton الراب والجرافيتي والفن الشعبي عموما مجرد هراء لأن الجمال هو الغاية النهائية لأيّ منتج فنّي أو شعري أو موسيقيّ. ويضيف: بعد الحداثة تغيّر كلّ شيء. أصبحت غاية الفنّ بشكل متزايد هو أن يزعج وأن يخرّب ويشوه الحرائط ويؤذي العين و ينتهك المسلّمات والقوانين الأخلاقية. لذا ثمّة الآن حاجة ماسّة لإنقاذ الفنّ والأدب الحديثين من الإدمان علي القبح. يتحدّث سكروتون وهو مفكر محافظ - في كتابه عما يصفه بحزب تدنيس الجمال الذي تزعّمه بعض الأدباء والكتّاب الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية مثل جورج باتاي وجان جينيه وجان بول سارتر. ويشير إلي أن هناك فنّانين عظاما حاولوا إنقاذ الجمال من رفضوا أن ينظروا إلي العالم المعاصر وكأن لا شيء فيه سوي القبح والدمامة. ويضيف: كان كلّ من الرسّام ادوارد هوبر والموسيقيّ سامويل باربر يعتبران أن التجاوز المصحوب بالتباهي مجرّد وسيلة رخيصة لإثارة الجمهور وخيانة المهمّة المقدّسة للفنّ وهي تصوير الحياة والكشف عن جمالها. لكنّ الفنّانين الكبار الذين كانوا يثمّنون الحياة عاليا فقدوا مكانتهم مع بدايات حقبة الثقافة الحديثة. وحتي الآن، بالنسبة للنقاد وأوساط الثقافة، فإن السعي وراء الجمال ظلّ دائما علي هامش العملية الفنّية. وأصبحت الفوضوية والفجور والتهتّك علامات نجاح، بينما أصبح الباحثون عن الجمال يُتهمّون بالتنكّر للمهمّة الحقيقية للإبداع الفنّي. وقد تمّ تطبيع كلّ هذا ليغدو عقيدة نقدية راسخة.
ثم يتحدّث المؤلّف بعد ذلك عن تأثير الأوبرا في هذا التغيير فيقول: لقد منحت الأوبرا ثقافة ما بعد الحداثة فرصة لا مثيل لها في الانتقام من فنّ الماضي وإخفاء جماله خلف قناع دنيء وفاحش. وأحد الأمثلة الصادمة عن الدور السلبي للأوبرا يتمثّل في قصّة كونستانزا وبيلمونتي ل موزارت. القصّة تتحدّث عن انفصال كونستانزا عن خطيبها بيلمونتي قبل أن تؤخذ لاحقا لتخدم في حريم باشا تركي يُدعي "سليم". وبعد مؤامرات عديدة يتمكّن خطيبها من إنقاذها بمساعدة من الباشا نفسه الذي يحترم عفّة كونستانزا ويقدّر إخلاصها لحبيبها ويرفض أن يتزوّجها بالإكراه. في هذا العمل يعبّر موزارت عن أفكاره التنويرية عن الخير باعتباره قيمة عالمية سواءً في عرف تركيا المسلمة أو أوروبّا المسيحية. والأوبرا تقدّم درسا أدبيا وأخلاقيا عاليا كما أن أنغامها تكرّس جمال تلك الفكرة وتقدّمها للمتلقي بأسلوب مقنع وجذّاب. لكن المخرج الاسباني كاليكستو بييتو يقدّم هذه الاوبرا برؤية مختلفة. فهو يختار للأحداث بيتا للدعارة في برلين ثم يحوّل الباشا سليم إلي قوّاد وكونستانزا إلي عاهرة! وأثناء سماع المقطوعات الموسيقية الأكثر رقّة في الأوبرا تمتلئ خشبة المسرح بمشاهد الجنس الجماعي والعنف. وفي أحد تلك المشاهد تتعرّض إحدي العاهرات إلي التعذيب ويُقطع ثدياها بطريقة همجية قبل أن تُقتل. الكلمات والموسيقي تتحدّث عن الحبّ والعاطفة. لكن هذه الرسالة تتلاشي خلف مناظر التدنيس والجريمة والجنس النرجسي. هذا مثال واحد عن احد الجوانب المألوفة كثيرا في ثقافتنا المعاصرة. وكلّما كان هناك جمال ينتظر الكشف عنه كلّما نشأت رغبة في تغييب جاذبيّته ومزجه بمشاهد العنف والخراب. وهذا هو حال الكثير من الأعمال الفنّية الحديثة التي تمتلئ بمشاهد أكل لحوم البشر وتقطيع وتشويه أطراف الجسد. بالإضافة إلي الألم الذي لا معني له والذي تزخر به السينما بوجود مخرجين مثل تارانتينو يبدو أن لا همّ لهم سوي إبراز كلّ ما هو مظلم وكئيب في الطبيعة البشرية. في هذا الكتاب يتساءل سكروتون أيضا عن السبب الذي يجعل قطعة من الفنّ أو الطبيعة أو شكل الإنسان شيئا جميلا. هل يمكن أن يكون هناك جمال خطير ومفسد ولا أخلاقي؟ يشير المؤلّف إلي أن نثر فلوبير وأنغام فاجنر وصور فلوبير كثيرا ما توصم بلا أخلاقيتها وأن من أبدعوها إنما كانوا يرسمون الشرّ بألوان فاتنة.
من الصحيح القول أن لوحة ل رامبراندت أكثر جمالا من لوحة ل اندي وارهول وأن معبدا كلاسيكيا أكثر جمالا من مكتب حديث مبنيّ من الخرسانة. وبينما نستمرّ في الجدل حول ما إذا كان هذا أو ذاك أكثر جمالا، يصرّ سكروتون أن الجمال قيمة حقيقية وعالمية متجذّرة في طبيعتنا العاقلة. والإحساس بالجمال جزء لا يتجزّأ من عملية صياغة الحياة البشرية. كما أن الجمال يمكن أن يكون مسلّيا ومزعجا، مقدّسا ومدّنسا. انه يتحدّث إلينا مباشرة مثل صوت صديق حميم. وفي جزء آخر من الكتاب يتحدّث المؤلف عن إسهام الموسيقي في تدمير الجمال وتشويه الذوق فيقول: إن موسيقي الراب مثلا لا تتحدّث كلماتها وإيقاعاتها سوي عن العنف والضجيج المستمرّ وترفض كلّ ما يمتّ بصلة إلي التناغم وغيره من العناصر التي يمكن أن تقيم جسرا مع عالم الأغاني القديمة. هذه الظواهر كلّها تمثّل انتهاكا للجمال، ومعها لا تعود الحياة احتفالا بالفنّ وإنما يصبح الفنّ من خلالها هدفا للانتهاك والتشويه. ويضيف: هناك جوع عظيم للجمال في عالمنا اليوم، جوع فشل فنّنا وأدبنا الحديث في إشباعه. ليس من المستغرب أن فكرة الجمال حيّرت الفلاسفة منذ أقدم الأزمنة. ولطالما تساءلوا إن كان الجمال صفة للعالم أو انه جزء من مخيّلتنا أم لحظة سامية من لحظات الإحساس. هذه الأسئلة وغيرها مهمّة جدّا بالنسبة لنا اليوم، بالنظر إلي أننا نعيش في زمن يتواري فيه الجمال ويذبل. ثمّة ظلال من السخرية والاغتراب تزحف علي ما كان يوما ملمحا مشرقا لعالمنا. وهذه الأيّام عندما نبحث عن الجمال فإننا لا نجد غالبا سوي التفاهه والتدنيس. كتاب روجر سكروتون عبارة عن مجموعة من التأمّلات المثيرة عن الجمال.و يخلص إلي نتائج قد يعتبرها البعض خلافية، جدا ، فربط الجمال بالأخلاق هو الفخّ المنصوب عبر التاريخ ، تاريخ الجمال (التذوق الفني) أنه بالفعل مربوط بالأخلاق، أو لنقل القيم المجتمعية. لنأخذ مثالاً : في القرون الوسطي كان يُنظر بازدراء إلي أي فنان صاحب منتوج مادي (النحّات مثلاً). بينما يُعتبر الشاعر أو الموسيقي صورة الفنان الأكثر رقياً. لماذا؟ جماليات وأخلاق القرون الوسطي تعتبر وريثة لجماليات الاغريق، والاغريق بمجتمعهم الأوليغاركي كان ينظر بازدراء إلي الأعمال اليدوية باعتبارها أعمال العبيد، في حين ان الخطابة والشعر هو ما يفعله ابناء الطبقات الراقية لكن الأخلاق، كما يحاول برتراند رسل تجريدها تماماً، كانت بالنسبة للمجتمع هي الحسن والقبيح. من وجهة النظر النفعية مثلاً (ستيوارت ميل - ديفيد هيوم) فإن الخير هو ما يجلب اللذة، والشر هو ما يجلب الألم. دعنا طبعاً من بعض التوجهات المتطرفة النيتشوية مثل ، اخلاق العبيد - أخلاق السادة
لقد مر المجتمع الإنساني عموماً بالكثير من الصدمات، الفن لم يعد كلاسياً ولم يعد ذوق (البلاط - الصالونات الأدبية او حتي الحفلات )، إن تدهور العلاقات الانسانية في زمن السوق الحر هي سبب التحول في شكل الفن أو الجمال، وفترة الحداثة وما بعدها مرتبطة غالبا بالحروب والاضطرابات السياسية والإقصاء والغضب الشعبي. تدهور ثقة الناس ببعضها (بما أننا ربطنا الجمال بالأخلاق - والأخلاق هي غالباً الكيفية التي يجب أن يتصرف بها الناس تجاه بعضهم). سيؤدي إلي ميل الأفراد إلي البحث عن المتعة في العمل الفني، واذا انتقلنا إلي مستوي أسمي ذوقياً، فسوف يكون (التشارك الوجداني)، والفرد صار يحب العمل الفني الذي يعبر عنه، أو يعبر عن قلقه، مثل أفلام الجريمة والعنف والرعب وسفك الكثير من الدماء .أو أغاني الراب التي تعبر عن مشاكل السود . أو فن الجرافيتي الذي يتوجه نحو الفرد العامل أو إلي المشردين ، الذي يقضون معظم أوقاتهم في الشوارع .. الخ. أظن أن، وجهة نظر الكاتب القائلة بأن الجمال أو الفن الحداثي صار قبيحاً لأنه لم يعد يعبر عن التسامي الأوليجاركي - النخبوي القديم ولم يعد يماثل مقاييس الفن الجمالية التي قد تعجب الحضور في الصالونات الأدبية. أو أشكال الغناء الكلاسيكيي (أم كلثوم ذ عبد الوهاب مثلا ) التي تعجب غالباً جمهور قديم ، مرفة يملك إمكانية الذهاب الي المسرح للاستماع الي احد المطربين . كل هذا أعتبره الصدمة الحقيقية في الذوق الإنساني كله. ويبدو أن ما -بعد الحداثة أظهرت لنا إلي أي حد كان مفهومنا عن الجمال وهميا أو ساذجا، كما يخلص الكاتب.