الأعوام الثلاثة الماضية شهدت تراجعا في الأعمال التي تقدّمها النوعية الثانية، وأغلقت قنوات فضائية أبوابها في وجهها، ما ساهم في زيادة العقبات. تزايدت المخاطر التي يحملها شيوع الاحتكار وتحوّلت إلى أزمة كبيرة للإنتاج الدرامي في مصر، وأدت إلى انسحاب عدد كبير من الجادين والضالعين في سوق الإنتاج، وأصبحت الأعمال التي تقدّم تخضع في غالبيتها لأهداف وأهواء المتحكمين الجدد، الذين تخضع تصوراتهم لأفكار استهلاكية بغيضة، ولم تعد عقولهم تهتم بالمضمون، بل بالتركيز على الشكل وكيفية ترويج الأعمال، بصرف النظر عن التأثيرات المجتمعية والثقافية والفنية الناجمة عنها. تفاقمت أزمات الإنتاج المصري وعكست نفسها على نوعية الأعمال التلفزيونية التي جرى تقديمها مؤخرا، ويؤرخ بعض النقاد للفترة التالية لثورة يناير 2011 في مصر لبداية التراجع، ويرون أنها أطاحت بسوق الإنتاج الجاد، فبعد أن كان الأمر بيد الإنتاج الحكومي، ممثلا في التلفزيون المصري ومدينة الإنتاج الإعلامي، انسحب الطرفان من المشهد بسبب تراكم المشاكل، وأصبح المتحكم الرئيسي في سوق الإنتاج الدرامي عددا من المنتمين إلى القطاع الخاص، معظمهم تتحكم فيهم رغبة عارمة في تحقيق الربح وفقا لاعتبارات تسويقية، مع وجود قلة كانت تحاول تقديم أعمال جادة، لكنها خرجت من المشهد. شهدت الأعوام الثلاثة الماضية تراجعا في الأعمال التي تقدّمها النوعية الثانية، وأغلقت قنوات فضائية أبوابها في وجهها، ما ساهم في زيادة العقبات، وفتح المجال أمام من يروجون لأعمال تتناول قضايا عنف وبلطجة وإثارة، بلا مضمون حقيقي، أدت في النهاية إلى انصراف قطاع من الجمهور عن مشاهدتها. وقال المنتج صفوت غطاس إن مسلسله “بالحب هنعدي” مشروع درامي كبير، كان سيعود به إلى الساحة الدرامية في رمضان الماضي بعد انقطاع دام ستة أعوام منذ تقديمه مسلسل “الهروب” للفنان كريم عبدالعزيز، لكن تم تأجيله بسبب عدم القدرة على تسويق العمل وصعوبة عرضه على أي فضائية عربية. وأكد ل”العرب” أن ثمة احتكارا متجذرا في سوق الإنتاج تسبب في تعطيل الكثير من المشروعات الفنية الجادة، لذلك اكتفى بتقديم فيلمين، هما “نوم الثلاثاء” للفنان هاني رمزي و”للحب حكاية” للمطرب رامي عياش، خلال فترة ابتعاده عن الدراما التلفزيونية في السنوات الماضية، معترفا بأن الحالة الدرامية التي تسيطر على المشهد الآن غير مرضية له، وأساءت في تناولها لبعض القضايا الجادة، مثل صورة المرأة التي ظهرت أحيانا في أوضاع تقلل من قيمتها ودورها في المجتمع. وأوضح أن وجود الاحتكار في سوق الإنتاج أفضى إلى فشل التسويق لدى الكثير من المحطات الفضائية، بصورة أثرت على جودة المنتج المقدّم على الشاشة، وهو ما يفسر رداءة الكثير من الأعمال وسطحيتها الثقافية، والأخطر أنها بدأت تطرد نظيرتها الجيدة. وأشار غطاس إلى خطورة ارتفاع نسبة المنتجين الذين ظهروا على الساحة مؤخرا ورهنوا أنفسهم لتحكمات ومزاج القائمين على بعض القنوات الفضائية، في ما يتعلق بشكل العمل واسم النجم الذي يحمله، الأمر الذي لا يقبله المنتج المخضرم الذي اعتاد إدارة مشروعه من وجهة نظره الإنتاجية السليمة، والتي تراعي متطلبات المجتمع وحاجاته الرئيسية. ما قاله غطاس يكشف عن جانب مهم من الصورة، لكن هناك جوانب أخرى لها، تتعلق بتكوين ما يمكن وصفه ب”اللوبيات” الإنتاجية، فقد تشكلت جماعات ضغط، فرضت قبضتها على السوق، ونجحت في تسويق أعمالها من خلال استثمار علاقاتها المتشعبة بجهات في الداخل والخارج، سهلت الترويج لأعمالها بشكل أكبر من غيرها. ويرى المنتج هشام شعبان أن أزمة الإنتاج المصري الحالية تتمثل في تحكم جهات إنتاجية بعينها في المشهد الإنتاجي، بل التسويقي أيضا، مستشهدا بما حدث في رمضان الماضي، عندما خرجت أعمال من سوق العرض المصري في اللحظات الأخيرة، مع أنها تحمل أسماء لنجوم كبار مثل الفنان محمد هنيدي في مسلسله “أرض النفاق” والعمل الدرامي البديع “لدينا أقوال أخرى” للفنانة يسرا، واضطر الجمهور إلى متابعة العملين عبر قنوات فضائية عربية. وتساءل هشام شعبان في تصريحات ل”العرب” كيف تقوم جهة إنتاجية بمنح مبلغ مالي ضخم للممثل الواحد في تعاقدها معه، في وقت تطالب فيه “لجنة الدراما بالمجلس الأعلى للإعلام” الدولة بتخفيض التكلفة الإنتاجية للعمل الواحد؟ ووصف هذه التصوّرات بأنها “مدمرة لصناعة الدراما”، وضرب مثلا بالدراما السورية التي تربعت على الساحة العربية في العقد الأول من الألفية الجديدة، لأن النفقات كانت تذهب إلى إنتاج صورة وإخراج ومضمون جيد، مع تخفيض واضح لأسعار النجوم الذين كانوا من الممكن أن يشتركوا جميعا في عمل واحد، وتكفيهم ميزانية بضع حلقات في أي عمل مصري. وربما تكون خطوة تأسيس اتحاد لمنتجي الدراما التلفزيونية ضرورة هامة لإنقاذ مصير عدد كبير من المنتجين، وهو ما يؤكده شعبان، الذي نوّه بأنهم طالبوا به منذ فترة، “ولم يكن هناك اتحاد قوي من المنتجين بشأن تأسيسه، ما أدى إلى تضارب المصالح بين الجهات الإنتاجية والقنوات الفضائية”. وتوقع حدوث انتفاضة من قبل رؤساء المحطات الفضائية خلال الفترة المقبلة لتصحيح المسار الخاطئ، الذي يضر بسمعة مصر وأعمالها الدرامية، في وقت بدأت فيه صناعة الدراما العربية تشهد تطورات لافتة. وفي المقابل، كان للمنتج أحمد الجابري رأي آخر، حيث قال ل”العرب”، “الدراما المصرية لا تزال بخير، والمشهد الإنتاجي التلفزيوني الذي يشير إلى كثافة غير المتخصّصين، ربما تخرج منه بعض الأعمال الجيدة”. ولفت المنتج، الذي خرج مسلسله “خط ساخن” للفنان حسين فهمي من العرض في رمضان الماضي، إلى أن الأزمة ليست فقط على مستوى التحكم في صعود وهبوط الفنانين، بل في دخول عدد من مخرجي الإعلانات أيضا إلى الساحة الدرامية، ما جعل الأعمال المقدّمة في مرتبة أقل، ما يضرّ بالصناعة، وبات من الصعب إيجاد عمل مصري مكتمل الأركان، من حيث الجودة والمضمون. وأوضح الجابري أن الدراما التلفزيونية تعيش فوضى بين منتج يصعد بقوة ويسيطر على المشهد الإنتاجي، وآخر يخرج من السوق، ما يلقي بظلاله على تعثر المنتجين، وهو ما ينسحب أيضا على بعض الفنانين، ما يجعل بعضهم يضطر إلى تخفيض أجره، مع الظروف التسويقية الصعبة المسيطرة على الفضائيات المصرية.