من يشتري (لا) للبيع مع تخفيضات هائلة. ربما هي جملة أطلقها الممثل محسن الأزرق وهو يحمل القلم بين أصابعه ويدور بين الجمهور ليعلن ان لا شيء بعد يستحق المواجهة، فقد وصل الأمر الى بيع القلم وما يمكن أن يشكله من احتجاجٍ وعنفوان وتحدٍّ على الواقع المرير الذي يعيشه الإنسان العراقي. في مسرحية "حذائي" للمؤلف والمخرج الشباب علي العبادي ثمة جرأةٌ وثمة خيوط ٌعديدة يعلنها من خلال العرض المسرحي الذي تفجّرت فيه طاقات الممثل الأزرق الى مدياتٍ أوسع، وهو خريج أكاديمية الفنون الجميلة. العبادي الذي وظّف فكرته بطريقةٍ جمالية لا تخلو من العاطفة لكنه لا يرتكز عليها، ولا تخلو من المباشرة لكنها تنطلق من التفاعل مع المخيلة والعقل لإنتاج الوعي.. لغة المسرحية قد تكون مقاربة للغة الإخراج المسرحي.. فما بين شاعرية النصّ وشاعرية الإخراج ثمة جمالٌ يوحي بأهمية العمل. "حذائي" ربما تحمل العديد من التأويلات.. فردة حذاء يحملها الممثل الوحيد في المسرحية التي أنتجت فعلا مونودراميًا قائما على المحاكاة ما بين حركة الممثل ومفعول المفردة، التي أنتجت المشاهد المتعاقبة المتصلة بفردة الحذاء التي تغيب عن الواجهة في المسرح، لكنه موجودة من خلال فعل الاحتجاج، وتحضر في العرض فتمنح اللغة معيارية الانزياح من المألوف إلى التأمّل.. ومن العاطفة الى العقل.. ومن العقل الى التأمل: "الى متى تبقى حذائي عاقرا؟ الى متى اتخفى من نباح الايام هنا، حينما أايامك كلها فصلا واحدا ألا يعني أن هناك فوضى؟ ... موت... موت... كل شيء خارج نطاق التغطية إلا أنت أيها الموت". ربما هي جملة ضمن عشرات الجمل الحافلة بالشاعرية التي اتخذتها لغة الاحتجاج والتحوّل من منطق الروي الى منطق التحكم بالتفاصيل، ومن منطق الفعل المسرحي الى فعل المونودراما الذي يريد تحويل مشهد الدمية الخارجة من دلوٍ مملوء بالدم وهو دلو الحياة والمتجمع الذي يغترف الناتج، بدلاً من الماء، فإن المحاكاة مع الألم قد تبدو فيها من الهستيريا الكثير. وهو ما يمكن أن يعلن أن الإغتراب عن الوطن هو احتجاج ضمني وإن الحذاء مكانٌ آخر قد يكون بديلاً لأنه هروب، وإنه أيّ الحذاء معادلٌ موضوعي للحلم في إيجاد حلّ للغربة مع الحذاء والغربة مع الروح والغربة مع الوطن. وهو الأمر الذي انعكس بشكلٍ إيجابي على حركة الممثل الوحيد الذي راح يجول بمكان العرض، ليكون وحدةً فاعلة مع تفاصيل المنطق من جهة، وتفاصيل الإتيان بالتدقيق المنطقي لماهية التأويل الحاصل بالنسبة للجمهور. فما بين الاحتجاج على الأسماء التي يحملها الناس كعناوين لتضحى مقصلة للأحلام، لكنه يعود لمخاطبة الحذاء بين كلّ احتجاجٍ واحتجاج، وكأن بؤرة الحدث تكمن في معرفة الخفايا التي يشكلها الحذاء، ليس بمعنى الإهانة، بل بمعناه السلوكي الذي استثمره العبادي ليكون جزءا متحركاً في دوامة الفعل، وإنه حرّك الشيئية في اختزال المعنى، فيكون الحذاء هو حاصل جمع كل الممكنات التي تسيطر عليها الحروب، وإنه اللافتة المهمة لما بعد الموت، وإنه المكان الذي يتجمع فيه الألم. وما بين الحذاء والأحلام ثمة وشيجة واحدة وخطّ مستقيم لتكون الأشياء رخيصة.. فيتلاعب الممثل الأزرق في تكوين ملامح الصوت والحركات في تأنيب هذه الوشيجة وهو يعلن: "أرخص ما في الكون أحلامنا... في كلّ يوم وأنا أرى الكناس وهو يزين وجه الشارع .. أرى أحلامنا أصبحت تحت مكنسته تتدحرج بلا رحمة الى سلة النفايات...هكذا هو المعنى في بلدي للامعنى المتخم بأبجدية الفوضى... ما أقسى المرء حينما يكون صوته أكبر من فعله؟ ما أقسى أن تخلق منتظرا في محطة هجرتها القطارات وتآكلت سككها؟". ولهذا فإن كل شيء يباع وتحول الى مادةٍ ربما لا أحد يستهلكها، وصار الضياع بؤس الخرائط ويهز جذوع النخل العراقي فيساقط دمعا وموتا واحتجاجا وأحذية مفردة خلفهّا كل إنسان عراقي خاض الحروب، أو تأثر بها أو إنه كان ضحيةً بسببها حين قتل أباه أو أخاه أو أمه، أو صادرت حريته والحرب والسلطة، وجهات الموت واحد .. حينها لا معنى إن يكون للقطارات حركة بعد أن تآكلت سككها فيكون المعنى متخماً بأبجدية الفوضى. صوت احتجاج مسرحية "حذائي" صرخة رجل عراقي عانى الكثير في ظلّ الراهن اليومي والملتبس عبر فضاءات الدم، بعد أن فقد الأمل في واقعه المرير خوفه منه هرب في قعر حذائه باحثاً عن فضاءٍ فيه شيء من الطمأنينة وهو يعيش صراعاً مع ذاته ما بين أن يخرج من الحذاء ويتحمل عفونة الخارج، أو يبقى داخله ويتحمّل عفونته. هكذا يفصّل العبادي فلسفة نصّه ويحمله طاقةً إضافيةً للتأويل ويمنحه معنى آخر للقصدية.. ولأنه المؤلف والمخرج فإن حركات الممثل كانت تأخذ من أبجدية تلك الموائمة، ما بين الفكرة في الكلام والفكرة في الإخراج. فكان العمل من جنس المونودراما (الممثل الواحد) لذا حاول فيه العبادي أن يشظي الحدث من خلال تشظية المكان وتشظية المأساة ذاتها، ومن ثم محاولة تجميعها في خندق الفكرة الأساس، سواء من خلال العنوان وما يحمل من ثيمة أساسية (حذائي) ولم يقل "الحذاء" لأن في ذلك تعريفاً عاماً وهو أرادها أن تكون تابعةً ونابعة لكلّ من يشاهد العرض المسرحي، وكأنه هو نفسه صاحب الحذاء. ولأن المؤلّف شاعر والمخرج فنان خريج أكاديمية الفنون الجميلة ويسعى لإكمال الماجستير فانه أراد أن يخرج من عنق السرد واللغة الشاعرية التي حملت جرأته، لنقد كل شيء، حتى في تناسل الحزن وأنواعه وإيجاد أكثر من طفّ بعد معركة الطف الأولى التي استعان عنها المخرج بقطعة قماشٍ سوداء من تلك التي تحمل في الزيارات العاشورائية: "لهيب نار الطف يتجدد كأنه نذر سنوي علينا ايفاءه، في العاشر من محرم اوقدوا لنا شموع بؤسهم وحقدهم حتى تناسلت بطريقة رثة. ما عساي فاعل، وأنا يومياً أرفع بريد الدمع والاه الى الرب، لم أكن أعرف ان الموت لعبة يتسلى بها من يرغب في ذلك، بالأمس قتلوا رضيع وحفيد النبي وابن بنت نبيهم، والان اقف أنا المعتوه أمامهم عارياً الا من تلك (اللا) ليتني لم احملها لأذوق أنواعا شتى من العذابات سأهديها لهم". لذا فقد حاول التخلّص من السرد والخطابية الى الفعل الدرامي، وإعطاء حركة الممثل ميزانين من خلال توزيع حركة الممثل والديكور والإضاءة على فضاء العرض لالتقاط الكلمة مع تقاسيم الوجه ونبرة الصوت وتنقّل قدميه وانعكاسه على الانكسارات التي يحملها رجلٌ عراقي صاحب الحذاء، والذي قد يكون أيّ واحد من الجمهور. ولهذا كان للفعل الدلالي أكثر من خاصية للاغتراف من ينبوع الفكرة الأساس من خلال الميزانين وحركة الممثل وتعاطيه مع مفردات العرض المسرحية التي أضفت للعرض بعداً دلالياً آخر بما يخدم العرض. تميز وعروض ما يميز العبادي إنه يواصل مشروعه التأليفي والإخراجي والتمثيل كبطلٍ لمسرحياته أو مسرحيات لمخرجين آخرين. ففي حصيلته وهو الشاب كتابة تسعة نصوص وتمثيل 25 أخرى واخراج أربعة عروض مسرحية، ولذا فهو يرى إنه القادر على تجسيد الشخصية على خشبة المسرح، وان عروضه السابقة (حينما تعزف اللاءات، الحقائب السود، عزف نخلة) تحمل ثيمات التحريض والاحتجاج مثلما تحلّ الجرأة في طرح القضايا من مختلف الزوايا، سواء منها الفكرية أو الاجتماعية ليشكّل في هذه الثيمات التحريضية عموداً فقرياً في الخطاب الفكري، على اعتبار أن مقولته إن العرض المسرحي الذي ليس فيه تحريض فني وغائية تحريضية مباشرة وقابلة لحصاد التأويل لا معنى له، بل وكما يقول العبادي نفسه إنها تنتفي حاجته. ولهذا فإن مكان العرض لمثل هذه المسرحيات ربما لا تعتمد على مكان واحد، فهي قد تمثل في الشارع، أو تقدم من خلال المسرح لكنها أي الأمكنة تحتاج الى كميةٍ من الخراب بالنسبة للعبادي نفسيه. وهي تختلف باختلاف الاخراج الذي تناول هذه المسرحية تحديدا من قبل مخرجين آخرين، قدموا هذا النصّ في مسارح عديدة سواء في العراق أو خارجه، وآخرها من قبل مسرح أردني استعان بتقنيات الخراب بما هو متوفر لهم وليس متوفراً للعبادي الذي لا يجد إلاّ أكياس النفايات السود والمكنسة القديمة الدمى القماشية العتيقة التي قد يكون وجدها في أحد المزابل ومسدس لعبة اطفال صيني الصنع من النوع الرخيص. والمسرحية قدمت في أكثر من مكان لإبداع نصها الذي أغرى الكثير من المخرجين فقد مثلما قدمت في الديوانية في عرضيين (مسرح علبة - شارع) قدمها المخرج مرتضى كاظم 2016. وقدمت ضمن مهرجان معهد الفنون الجميلة الثالث فرع الرصافة / بغداد من قبل المخرجة اية شاكر 2016 . وقدمت في كلية الفنون الجميلة جامعة ديالى كانت من إخراج فاطمة إسماعيل 2016 وأيضا ضمن مهرجان المونودراما الاول في معهد الفنون الجميلة فرع الكرخ / بغداد وقدمها المخرج غيث الفريجي 2017. فضلا عن تقديمها في بلجيكا من قبل المخرج العراقي المغترب حامد الدليمي 2017. إن المسرحية سواء قدمت في العراق أو خارجه فإنها تحاول أن تستعين بالنسق لإنتاج الخراب، وأن تستعين بالخراب لإنتاج التحريض، وأن تعتمد على التحريض لإيصال الرسالة، وكل هذا هو محاولة لنفخ الرماد في الحرائق العراقية لعلها تشتعل جمالا. كادر العمل كان مميزا. لا شيء يقال عن محسن الأزرق الذي جسد بطوله الفارع ومران جسده رغم التقدم بالعمر نسبيا حتى ان الشيبات أفادت العرض حين غزت الروح الشبابية، وكان صوته متنقلا عبر نغمات ومقامات عديدة فيما كان تنفيذ وتصميم الموسيقى والمؤثرات الصوتية لحيدر الجبوري الذي اختار الموسيقى التي تلائم العرض وتلائم العاطفة التي تحب سماعها الأذن العراقية .