على الرغم مما حققته وتحققهُ الرواية التاريخية العربية من تطورٍ وحضورٍ وانتشار؛ إلا أنها، للأسف، لم تلق احتفاء لائقا ونجاحا موازيا في الإنتاج البصري، ومجاراة العالم في استثمار السينما والدراما التلفزيونية لخدمة الثقافة والهُوية، لا سيما في هذه المرحلة العصيبة؛ وهي المرحلة التي استعدّ لها كثيرٌ من البلدان؛ فأعادت برمجة الكثير من سياساتها الثقافية، وكان في مقدمة ذلك سياسة الإنتاج البصري للإبداع الروائي التاريخي، مستفيدة مما تمثله الرواية التاريخية وما يحققه تحالفها مع السينما، خاصة على صعيد اختصار كثير من إمكانات وجهود (التسويق والتأثير والتكريس) في مواجهة (الاستلاب والتذويب) الثقافي، علاوة على ما باتت تمثله من موردٍ اقتصادي مهم من موارد الدخل القومي. وهو ما يمكن قراءته في الطفرة التي تعيشها الدراما والسينما التاريخية لدى كثير من بلدان الشرق في العقدين الأخيرين. كما يمكن ملاحظة آثار هذه الطفرة في قنوات التلفزيونات العربية واعتمادها، في كثير من أوقات بثها حاليا، على أعمال درامية وسينمائية تاريخية (مُدبلجة) مصدر معظمها بلدان الجوار الإقليمي، التي صار المشاهد العربي على صلة يومية بتاريخها وثقافتها، من خلال هذه الأعمال، مقابل إنتاج عربي تاريخي قليل وضعيف جدا، لا لنقصٍ في الإمكانات بقدر ما يعود لقصورٍ في الوعي السياسي بدورها الثقافي وعائدها الاقتصادي والاستراتيجي في معركة الدفاع عن الذات. على ما في الرواية التاريخية العربية من قصورٍ مقارنة بما باتت عليه موضوعات وتقنيات هذه الرواية عالميا؛ إلا أن كثيرا من مشاكلها هي عينها مشاكل الرواية العربية المعاصرة، المتمثلة في معوقات النشر والتوزيع والنقد والترجمة وغيرها من وسائل الاحتفاء والتشجيع بما فيها إنتاجها بصريا. العلاقة بين أدب الرواية والتاريخ علاقة قديمة وجدلية، لكنها تتعزز في المرحلة الراهنة انطلاقا مما باتت تحتله الرواية من أهمية جعلتها، أكثر أجناس الأدب انتشارا عالميا، وهو ما يتم استغلاله في تعزيز مهمتها في صراع الثقافات، من خلال الاشتغال القصصي المُرصع بالخيال على ما يهمله المؤرخون من التاريخ، وفق رؤية وحُرية يُفترض ألا تُجاري الأفكار السائدة مهما كانت سطوتها، ولا تتبنى أفكار القطيعة مهما كان بريقها؛ وهو ما باتت معه الرواية التاريخية حاجة مُلحة ضمن أهم وسائل بث روح الأمل واستنهاض الإمكانات، واستعادة الثقة بالذات والهُوية، وأن بإمكانها تجاوز أخطاء الماضي واستكمال السير بروح جديدة في إنتاج المعرفة الإنسانية. الرواية العربية واكبت الرواية التاريخية العربية مراحل نشأة وتطور الرواية العربية منذ بدايات القرن العشرين، وإن بقيت إصداراتها أقل من إصدارات الرواية الأخرى؛ إلا أنها ظلت تسجل حضورا واضحا وتحقق تطورا مواكبا؛ وهو ما يمكن الاطلاع عليه من خلال تتبع مسارها التاريخي، بدءا ببداياتها مع عدد من أبرز الكُتاب كجورجي زيدان ومعروف الأرناؤوط وسليم البستاني وموريس كامل وآخرين، وصولا إلى جيل علي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار وغيرهما من الأجيال التي تعاقبت على تطوير هذه الرواية، والتي تجاوزت الصبغة السلفية التقليدية بمؤثريها الشعبي والرومانسي، متحققة موضوعيا في علاقتها النقدية الواعية بالتاريخ وفنيا في الاشتغال الجديد على تقنيات الرواية الحديثة، وفق إمكانات الإبداع الأدبي بمؤثريه الخيال والدراما؛ وهو ما يعبر عنه الكثير من أعمال الرواية التاريخية المعاصرة منها، على سبيل المثال: «ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور، «النبطي» ليوسف زيدان، «سمرقند» لأمين معلوف، و«شوق الدرويش» لحمود زيادة وغيرها الكثير. وكانت الرواية التاريخية الغربية قد مرّت في علاقتها بالتاريخ بمواقف ومراحل، بدءا من القرن التاسع عشر وصولا إلى القرن العشرين، حيث اختفت الرواية التقليدية وظهرت الرواية المعاصرة، التي تحولت إلى معاناة التاريخ متجاوزة السرد (المقدس) لأحداثه؛ ليستمر تطورها حتى باتت اشتغالاتها اليوم تشمل موضوعات وتحولات التاريخ القومي الإنساني، بالإضافة إلى تاريخ السير الشخصية، والأحداث المهامة وصولا إلى تاريخ الأساطير، والخيال التاريخي، حتى بات لكل من هذه الروايات جمهورها ومنتجوها دراميا وسينمائيا بما فيها روايات «الفانتازيا التاريخية»، وهو ما يعكس ما صار عليه الوعي الجمعي الغربي بقدرات (الصورة السينمائية)، التي تتجاوز بكثير إمكانات الرواية المكتوبة، ولهذا بات الإنتاج البصري للرواية الناجحة جزءا من تقاليدهم الثقافية. السينما العربية والتاريخ كما سبقت الإشارة؛ فإن الخطوة المُهمة لتكريس تأثير الرواية التاريخية، هي في إنتاجها سينمائيا ودراميا؛ فالحقيقة التاريخية من خلال الصورة السينمائية تكون أكثر اقناعا، لما تتمتع به السينما من قدرة على الاختزال والتعبير والتصوير والإيصال والتأثير والإقناع. تعود بداية علاقة السينما العربية بالتاريخ إلى نهاية أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي في مصر، ومنها انتقلت إلى عدد من البلدان العربية؛ ونالت اهتماما في سورية ولبنان والجزائر. وعلى الرغم من البداية المبكرة للسينما العربية مع الفيلم التاريخي إلا أن مُجمل إنتاجها، خلال أكثر من ستين سنة، لم يصل، للأسف، إلى ستين فيلما، ومن هذا العدد القليل، لا تستحضر الذاكرة الجمعية، للأسف الشديد، سوى بضع أفلام، كفيلم «الرسالة» 1976، الذي مازال حتى اليوم وبعد أكثر من ثلاثين سنة على إنتاجه نموذجا للفيلم السينمائي التاريخي العربي الكبير، الذي تخطى نجاحه حدود اثنتي عشرة لغة، بالإضافة إلى فيلم «أسد الصحراء» الذي حملت نسخته العربية اسم «عمر المختار» 1981، وكلا الفيلمين «الرسالة» و«عمر المختار» هما للمخرج السوري الراحل مصطفي العقاد (1930- 2005)، بالإضافة إلى العقاد، لا يمكن تجاهل تجربة المخرج المصري الراحل يوسف شاهين (1926- 2008)، من خلال إنتاج وإخراج أفلام تاريخية جديرة بالإشارة إليها في هذا السياق مثل «جميلة بوحيرد» 1959 و«الناصر صلاح الدين» 1963 و«الوداع يا بونابرت»1983 و«المصير» 1997. ومن أفلام مخرجين آخرين نتذكر فيلم «القادسية» 1982، وهو إنتاج عراقي للمخرج المصري الراحل صلاح أبو سيف (1915- 1996). إن تنكّر السينما العربية لأفلام التاريخ لا يعود إلى غياب المادة التاريخية؛ فالروايات تملأ المكتبات، وليس لأسباب متعلقة بالسيناريست إذ يمكن الاستعانة بخبرات غير عربية، كما لا يتعلق الأمر بالتمويل الكبير الذي تتطلبه مثل هذه الأفلام، في ظل محدودية ميزانية إنتاج الفيلم العربي، حتى إن كان التمويل مشكلة فبإمكان المُخرج المؤمن بقضيته البحث عن مصادر تمويل كفيلة بإنتاج عمله، وإن تجشم في ذلك بعض المتاعب، كما كان في رحلة المخرج مصطفى العقاد في بحثه عن تمويل لإنتاج وإخراج فيلم «الرسالة» بما يتفق مع رؤيته ومشروعه؛ فكان الفيلم طفرة سينمائية عربية لم تتكرر بعد أكثر من ثلاثين سنة على إنتاجه، حيث حققت عروضه الأجنبية فقط عشرة أضعاف ميزانيته، ومازال حتى اليوم أفضل فيلم عالمي عن سيرة نبي الإسلام محمد… ما معناه أن الإمكانات، وإن شابها قصور، فإن ما تحتاجه السينما التاريخية العربية هو أن يمتلأ القائمون عليها بوعي فكري ورسالي بأهمية هذا النوع السينمائي، ومن ثم الاشتغال من أجل الإبداع والقضية كاستثمار مضمون وأكثر ربحا، يتجاوز المال إلى المجد، كون الأفلام التاريخية الناجحة لا تموت، إذ تبقى جزءا من ذاكرة الأجيال لارتباطها بتاريخهم. وهنا لابد من الإشارة إلى أن قراءة التاريخ العربي سينمائيا لا يمثل تعصبا، بل ضرورة عصرية في الاشتغال على التاريخ باعتباره ثروة بكل ما يتضمنه من موضوعات وتجارب في مختلف المجالات الإنسانية، وبكل ما فيه من حقائق وأساطير وأوهام، التي حسب أحد النقاد، لم تتموضع حتى اليوم بشكلها المطلوب في فن السينما العربي. وانطلاقا مما سبق فإن استنهاض الرواية التاريخية يمثل مرحلة تالية لاستنهاض السينما والدراما التاريخية وتطويرا واستثمارا لها في الوقت ذاته، وهو ما يؤكد العلاقة الوطيدة بينهما والأهمية الكبيرة لهما في خدمة الثقافة وحماية الهُوية، وهو ما يمثل حاجة عربية مُلحة تستدعي إعادة النظر في علاقتنا بهما انطلاقا من وعي جديد وتطوير تطبيقي يواكب اللحظة الراهنة.