فيما يتصاعد الجدل حول مسألة الدراما التلفزيونية التركية ومقاطعتها على الشاشات التلفزيونية المصرية، فإن ثمة حاجة لنظرة ثقافية للإجابة على السؤال المحوري: من الذي ينبغي أن يخاف؟!.. من الأكثر عراقة وابداعا من المنظور التاريخي للدراما المصورة سواء على مستوى السينما أو التلفزة؟ ! وفي الوقت ذاته فإن راهن اللحظة المصرية في صناعة الدراما يثير تساؤلات مثل: كيف عجزت الثورة المصرية عن التأثير على الدراما؟ ولماذا بقى المشهد السينمائي والتلفزيوني الدرامي المصري بعد ثورة 25 يناير دون تغيير؟ وماذا عن مخاطر الغزو الدرامي لدول مثل تركيا؟ وكانت “,”جبهة الابداع المصري“,”، و“,”نقابة المهن السينمائية“,” قد وجهتا نداء لجميع القنوات التلفزيونية الصرية لإيقاف عرض المسلسلات التركية “,”وذلك اتساقاً مع موقف الشارع المصري الذي يرفض سياسات الحكومة التركية التي تعادي ثورة مصر وشعبها العظيم “,”. وحسب تصريحات منشورة قال رئيس التلفزيون المصري شكري أبو عميرة إنه بعد قيام ثورة 30 يونيو وتضامنا مع مجلس ادارة نقابة السينمائيين، تم اصدار قرار بمقاطعة الأعمال التركية وعدم اذاعتها على شاشة التلفزيون المصري “,”. ورداً على موقف الحكومة التركية تجاه ثورة 30 يونيو، أشار أبو عميرة إلى أنه تقرر تجميد بروتوكول مع التلفزيون التركي حصل بموجبه التلفزيون المصري على مسلسل تركي جديد على سبيل الإهداء ولم يعرض هذا المسلسل في سياق “,”مقاطعة الدراما التركية “,”. وعلى الرغم من هذا الموقف للحكومة التركية، فإن تقارير صحفية أكدت أن قطاعات واسعة من الشعب التركي تؤيد شعب مصر في ثورته وترفض مواقف حكومة أردوغان التي جنحت نحو التدخل في الشأن الداخلي المصري بصورة ممجوجة . وكانت نقابتا السينمائيين والممثلين قد دعتا الفنانين والنقابات الفنية والمؤسسات والهيئات الثقافية في الغرب “,”لمؤازرة الشعب المصري ضد الارهاب والمواقف والسياسات والأنظمة الدولية التي تدعم هذا الارهاب لمصالح خبيثة تريد أن تتحكم في تقرير مصير الشعوب “,”. وفي معرض ترحيبه بقرار مقاطعة الدراما التركية على القنوات التلفزيونية المصرية، قال المنتج صفوت غطاس: “,”معظم القنوات الفضائية تمتلك في مكتباتها مسلسلات مصرية تكفي للعرض لمدة ست سنوات مقبلة“,”، فيما ذهب بعض المنتجين الى أن “,”المقاطعة تفتح الباب أمام استعادة الدراما المصرية لعرشها على الشاشة العربية “,”. ولم يقتصر الأمر على الدراما التركية، حيث دعا نقيب السينمائيين مسعد فودة لمقاطعة الأعمال السينمائية الأمريكية، غير ان بعض المعلقين والنقاد تحفظوا على هذا المطلب، منوهين بأن “,”الفن كثيرا ما فضح وأدان مؤامرات حكومات وأنظمة في الغرب “,”. وقال نقيب الممثلين أشرف عبد الغفور في رسالة الى نجوم الفن في العالم: “,”اننا كفنانين نعبر عن ارادة شعبنا نعلن رفضنا للتدخل من قبل أي دولة في شؤوننا الداخلية ونريد أن نحافظ على هويتنا الثقافية ونستعيد تاريخنا الحضاري في التواصل مع العالم “,”. ومن الناحية الواقعية يصعب فرض مقاطعة كاملة على أي انتاج درامي وهو ما كشفت عنه خبرات تاريخية سابقة، ناهيك عن التطورات على صعيد الفضائيات التلفزيونية وثورة الاتصالات التي تجعل مثل هذا الحظر في حكم المستحيل . وعلى الرغم من ترحيب صناع الدراما المصرية بمقاطعة الدراما التركية، فإن الأمر قد يتطلب نظرة أكثر عمقا من منظور ثقافي ينحو نحو “,”التفاعل لا الانفعال ويدرك مدى الثراء التاريخي للدراما المصورة المصرية “,”. ويوما ما قيل بحق في سياق مقاومة التطبيع إن مصر لا يمكن ان تخشى من الثقافة الاسرائيلية وان العكس هو الصحيح بحكم التفوق الحضاري- الثقافي المصري وأصالته الضاربة في جذور التاريخ، ولا جدال أن الأمر يختلف جذريا في الحالة التركية . فهناك علاقات ثقافية وحضارية بين مصر وتركيا كطرفين أصيلين في سياق حضاري تاريخي للمنطقة، لكن ثمة حاجة للتأكيد على أن الدراما المصورة المصرية كانت دوما صاحبة السبق في تلك المنطقة . ومن هنا يقول المطرب الجزائري الأصل والعالمي الشهرة “,”الشاب خالد“,” ان مصر هي المدرسة الكبيرة التي يتعلم منها كل المطربين والفنانين العرب“,”، منوها بأنه “,”تعلم الكثير من الموسيقى المصرية خلال مسيرته الفنية “,”. ان النظرة العميقة للدراما التلفزيونية التركية تكشف عن تأثر واضح بمسألة الشكل، كما يتبدى في رموز تلك الدراما :“,”مهند وفاطمة“,”، ومسلسلات مثل “,”حريم السلطان“,”، و“,”زينب“,”، غير ان تلك النظرة تكشف أيضا عن سبق مصري في هذا الاتجاه مع السنوات الأولى للسينما المصرية التي يزيد عمرها عن ال199 عاما، فهو أسلوب تبناه شيخ المخرجين المصريين محمد كريم . ومحمد كريم هو اول من اشتغل بالإخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة بالمنظر ولوازمه ومحتوياته، وكان يقدم الطبيعة في أجمل صورها وهو ما يتجلى في أفلام مثل “,”زينب“,” و“,”الوردة البيضاء“,”، وقد دارت اغلب أفلامه حول مواضيع عاطفية وغنائية . والسينما المصرية كان لها فضل السبق في ادخال “,”الواقعية“,” في الفن السابع بالمنطقة كلها بابداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم “,”العزيمة“,” ليدشن مدرسة الواقعية في مواجهة الرومانسية المغرقة لمحمد كريم وفق تصور يرى أن من اهم أغراض السينما “,”تعليم الذوق الرفيع للشعب وان الجمال التشكيلي في المناظر والملابس والرشاقة في الحركات هي العنصر الأهم دائما “,”. أما كمال سليم بواقعيته فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقيم “,”شخصيات مصرية نعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية، وفي عام 1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه “,”قاموس الأفلام“,” فيلم “,”العزيمة“,” لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما . بل ان سادول اعتبر هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 “,”يفوق الأفلام الفرنسية والايطالية التي ظهرت في الفترة ذاتها“,”، فيما جاء صلاح أبو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير بخيط الواقعية من جديد ولتعبر أفلامه مثل “,”الأسطى حسن“,”، وريا وسكينة“,”، و“,”الفتوة“,”، عن اللحظة التاريخية المصرية . وتبلور هذا الاتجاه بمزيد من الوضوح في “,”القاهرة 30“,”، و“,”بين السماء والأرض“,”، و“,”بداية ونهاية“,”، و“,”القضية 68“,”، وكان هذا الفيلم الذي دشن ما عرف “,”بالواقعية النقدية“,”، يتحدث عن ضرورة الثورة بعد أن تهدم كل ما عداها، “,”فالثورة ضرورة من أجل النمو والتقدم “,”. وهناك كمال الشيخ، صاحب أسلوب الاثارة والتشويق، فيما لا حاجة للإفاضة في انجازات يوسف شاهين للفن السابع المصري والعالمي وحرفية المخرج نيازي مصطفى وتمكنه من أدواته في أفلام المغامرات والصراعات، وتميز أفلام المخرج فطين عبد الوهاب المفعمة بروح الضحك والمرح، و“,”أستاذية“,” حسن الإمام في افلام الميلودراما . وسيبقى اسم المخرج توفيق صالح طويلا في ذاكرة السينما فيما عرف بأسلوب الواقعية الجديدة المتأثر بالمدرسة الإيطالية مع ابداع مصري خالص وأصيل، كما تبدى في “,”صراع الأبطال“,”، و“,”درب المهابيل“,”، واستحق هذا المخرج الذي قضى مؤخرا، اعجاب وتقدير كل عشاق السينما لإبداعاته الرفيعة المستوى والتي دخلت على الرغم من قلة عددها في قائمة أفضل 100 فيلم مصري . لكن المصارحة تقتضي التسليم بأن ثمة أزمة في الدراما المصرية طالت المسلسلات التلفزيونية وأثارت قلق مثقفين مصريين مثل الشاعر والكاتب فاروق جويدة الذي سبق وأن تساءل بمرارة:“,”لا أدري كيف ستواجه مسلسلات رمضان الزحف التركي الذي اجتاح الدراما المصرية وانتشر على جميع الفضائيات“,”؟ ! ومضى فاروق جويدة متسائلا بشأن الدراما التلفزيونية المصرية: “,”ماذا تفعل مسلسلات رمضان أمام الجمال التركي الرهيب والديكورات والقصور والفيلات، وقبل هذا كله كيف تواجه دراما رمضان الرومانسية التركية التي ألهبت المشاعر وحركت القلوب“,”؟ ! ومع أن فاروق جويدة يؤكد أن “,”المنافسة حق مشروع“,”، فإنه لفت الى أنه “,”أمام الجمال التركي هناك حسابات أخرى“,”، فيما واجهت الدراما المصرية مشاكل حجم الإنفاق الذي تراجع أمام الظروف الاقتصادية الصعبة، وهذه الدراما هي التي شكلت الوجدان المصري والعربي لسنوات طويلة “,”. وكما يقول المؤرخ الأمريكي هوارد زن، في كتابه “,”قصص لا تحكيها هوليوود أبدا“,”، فإن مهمة المبدع، سواء كان يكتب أو يخرج أو ينتج أو يمثل في أفلام أو يعزف موسيقى، ليست فحسب الهام الناس وتقديم السعادة لهم، وانما تعليم الجيل الصاعد أهمية تغيير العالم . وفي الوقت ذاته فإن فيلم “,”جاتسبي العظيم“,”، الذي تألق في مهرجان “,”كان“,” السينمائي الأخير والمأخوذ عن رواية كتبها فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، يعيد للأذهان العلاقة الوثيقة بين الأدب والسينما والدور الذي يمكن أن تقوم به الرواية في رفد الفن السابع بكل ما هو مثير للدهشة ومحقق للنجاح حتى بالمعايير التجارية التي باتت مهيمنة بشدة على السينما المصرية، بينما تبدو هذه السينما وقد فقدت ذاكرتها وتناست أن أعمالا لأدباء مثل نجيب محفوظ ويوسف ادريس واحسان عبد القدوس، حققت لها المجد بطرفيه . فرواية “,”جاتسبي العظيم“,” التي نشرت لأول مرة عام 1925 هي تحفة على مستوى روائع الأدب الخالد، سواء داخل الولاياتالمتحدة أو خارجها، كما هي تحفة في عالم الأطياف التي تبدت في مهرجان “,”كان“,” السينمائي . وإذا كانت رواية “,”جاتسبي العظيم“,” تؤرخ لعشرينيات القرن العشرين كفترة مفصلية ومرحلة تحول في الحياة الأمريكية بأحلامها وثرائها المادي وخوائها الروحي وما يسمى بصخب “,”عالم الجاز“,”، فإن السؤال المثير للقلق بشأن الدراما المصرية: “,”هل سيستمر طويلا غياب ثورة يناير في عمل سينمائي رفيع المستوى ويحظى بالجماهيرية كما عجزت هذه السينما عن صنع مثل هذا الفيلم عن حرب السادس من أكتوبر التي تحل هذا العام ذكراها الأربعون؟ ! نعم الدراما المصرية سواء على مستوى الشاشة الكبيرة أو الشاشة الصغيرة، تبدو حيرى وعاجزة ثقافيا وابداعيا عن التكيف مع متغيرات ومتحولات ما بعد ثورة يناير، فثمة حالة في السينما المصرية على وجه الخصوص من التخبط والشعور الحاد بعدم اليقين . ان تاريخ الفن السابع لن ينسى أسماء مصرية مثل يوسف شاهين وشادي عبد السلام وصلاح ابو سيف وسعيد مرزوق وصلاح مرعي، الذي كان أحد أعظم مهندسي الديكور في السينما المصرية، ان لم يكن السينما العالمية، وعرف بديكوراته شديدة الواقعية وعظيمة الخيال، وهنا بالتحديد يكمن الحل لأزمة الدراما الراهنة التي تذهب بالنفوس حسرات!.. فهل تفعلها الدراما المصرية وتعود ثقافيا للواقعية الفنية والخيال الخلاق، أم تترك الساحة للآخرين ليفعلوا أفاعيلهم منفردين بالساحة والشاشة كبيرة كانت أم صغيرة؟ ! واذا كان المخرج الايطالي “,”انطونيني“,” هو صاحب مقولة ان “,”أكثر ما يثير انتباهي في هذا العالم هو الإنسان وتلك هي المغامرة الوحيدة لكل منا في الحياة“,”، فللدراما المصرية أن تركز على هذا الإنسان وأن تتطور أكثر خاصة وان الجماهير المصرية والعربية تؤازرها . في مفترق الطرق لابد من وضوح الرؤية لتبقى مصر دوما منارة للإبداع والجمال.. الوطن الهادر بالثورة يتطلب دراما تعبر عن اللحظة المصرية.. عن الانسان المصري الذي يسير في الدرب ليقدم للدنيا أمثولة مصرية لا تموت.. يا لها من أمثولة ! أ ش أ