بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    سعر الطماطم والبطاطس والخضار في الأسواق اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    انطلاق المؤتمر الدولي السادس ل«تكنولوجيا الأغشية وتطبيقاتها» بالغردقة    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    إغلاق مطعم "عز المنوفي" بالمنصورة لمخالفات صحية وعدم وجود ترخيص    أبرز تصريحات الرئيس السيسي خلال اجتماعه لمتابعة خطط تطوير شبكات الاتصالات ودعم قطاع تكنولوجيا المعلومات    «تحالف الراغبين»: مستعدون لإرسال قوات ردع إلى أوكرانيا بعد وقف القتال    لاريجاني: نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية للبنان لكننا في جميع الظروف نقف إلى جانبهم    زلزال بقوة 5.8 يضرب شرق الجزائر قرب الحدود التونسية    بين السَّماء والأرض.. زائر ليلي يُروّع أهل تبسة الجزائرية على التوالي بين 2024 و2025    لاريجاني: إسرائيل طلبت وقف الحرب بعد فشلها أمام الصواريخ الإيرانية    احتجاجات غاضبة أمام مقر نتنياهو تتحول إلى مواجهات عنيفة    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    رضا عبد العال: يانيك فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    أمير هشام: الأهلي سيقوم بتحويل قيمة جلب حكام اجانب إلى الجبلاية    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    أحمد شوبير يكشف موعد عودة إمام عاشور للمشاركة في المباريات مع الأهلي    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    المرور في مصر.. منظومة ذكية لحماية المواطنين وخدمات طوارئ 24 ساعة    ضبط تشكيل عصابي للتنقيب عن الآثار داخل منزل في الدقهلية    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان ملتقى «السمسمية» القومي الثالث    مهرجان القلعة.. أمسية صوفية مع ياسين التهامي وعمرو سليم يتألق على البيانو    حظك اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025.. طاقة جديدة وفرص مهنية في انتظار كل برج    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    "بفستان جريء".. نادين الراسي تخطف الأنظار من أحدث جلسة تصوير    "روتانا" تطرح أغنية "زمانك دلوقتي".. أولى أغاني ألبوم شذى - فيديو    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    ماذا يحدث لكليتيك إذا توقفت عن السكر والملح لمدة شهر؟..النتائج مفاجئة    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    الرمادى: محمد السيد من مصلحته التجديد للزمالك.. وفتوح لا يستحق البيع    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    في غياب الأهلي.. فتح باب حجز تذاكر الجولة الثالثة للدوري    قرار هام بشأن البلوجر «شاكر محظور دلوقتي» في اتهامه بقضية غسل الأموال    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    4 أبراج «مرهقون في التعامل»: صارمون ينتظرون من الآخرين مقابل ويبحثون عن الكمال    «الأغذية العالمي»: نصف مليون فلسطيني في غزة على حافة المجاعة    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    حماية المستهلك عن البيع الإلكتروني: تعديل قانوني مرتقب يُشارك شركة الشحن مسئولية الغش التجاري    وائل القباني عن انتقاده ل الزمالك: «ماليش أغراض شخصية»    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    رغم وفاته منذ 3 سنوات.. أحمد موسى يكشف سبب إدراج القرضاوي بقوائم الإرهاب    فاجعة وفاة تيمور تيمور.. 10 إجراءات بسيطة قد تنقذ حياتك من الغرق    عيار 21 الآن في الصاغة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 18 أغسطس بعد الانخفاض الأخير (تفاصيل)    أمينة الفتوى توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    حلاوة المولد، طريقة عمل السمسمية في البيت بمكونات بسيطة    وزارة العمل تعلن عن 11 فرصة عمل للمصريين في الأردن برواتب تصل إلى 350 دينارًا    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس جامعة الوادي الجديد يتابع سير التقديم بكليات الجامعة الأهلية.. صور    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    إصلاح الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال بلاّطة يبني للعالم جغرافيا من نور
نشر في نقطة ضوء يوم 05 - 01 - 2017

هو من الفنانين الأكثر استعصاء على الإمساك والتأويل. فلوحاته "الحروفية" كانت تمتلك من الصرامة الآسرة ما يجعلك إما تقبلها في حيرتك أمامها، أو تواربها في سطوتها عليك. فمع أن كمال بلاطة بدأ بلوحات تشخيصية تعبيرية في منشئه بالقدس، إلا أن مسيره التكويني بروما والولايات المتحدة، جعله يفتتن بالحرف العربي ويحوله إلى علامة استهواه فيه المربع، فتربَّع عليه في تأويلات بصرية متناسلة للحرف الكوفي. هكذا عرفناه في الثمانينات، حين شاهدت أول سيريغرافية له معلقة في مكتب المرحوم عبد الكبير الخطيبي. وهكذا تعرفت عليه في مقامه بالمغرب في 1993-94، حين كنت ألاقيه غالبا في المعارض بالرباط أو حول تجربة صديقه التشكيلي الراحل محمد شبعة.
قد يستغرب البعض من فلسطيني يحمل في مسقط رأسه بلده وقضيته، أن يتجه إلى التجريد، في الوقت الذي كان فيه أغلب الفنانين الفلسطينيين المُجايلين له يصورون قضيتهم بالشخصيات والرموز المعبرة عن حرارتها ومفارقاتها. بيد أن كمال بلاطة، الذي يتقن الرسم إتقانا، فضل أن يميز منذ البداية بين الممارسة التشكيلية والممارسة الغرافية. فقد أنجز لهذا الغرض أكثر من مائتي ملصق. أما في منحاه التشكيلي فقد كانت تنويعاته على الحرف أكبر من أن تكون حروفية لأنها جردت الحرف من حرفيته لتغوص به في التخطيط، وفي التشكيل الهندسي. ظلت أعمال الفنان عبارة عن تأملات شبه صوفية تستبطن العالم في قلب المعمار الهندسي للوحة. وإن كان المتصوفة يفضلون الدائرة لتناسقها الأملس الذي يجعل العالم عبارة عن دورة لانهائية، فإن بلاّطة يدمج هذه الدائرة الخفية في قلب تربيعاته، كما ليعبر عن حدة الرؤية للعالم وعن زواياها الجارحة.
هذه الصرامة القاسية آتية من بناء اللوحة وفقا لتوافقات وتراكبات وتداخلات تتناسج فيها الخطوط والأشكال تبعا لحس موسيقي عميق. فمن الحرف إلى البناء المعماري يبلور بلاّطة نسيجا معماريا architexture تتحلل فيه الألوان وتمنحه روحا جديدة. فهوى الفنان بالمعمار الإسلامي يتجاوز الزخرفية ليبسط جذوره في "عقلية" التناسجات التي انبنى عليها المعمار الإسلامي. غير أن هذا التجذر نفسه يستحيل إلى جماليات مغايرة تنهض على تأويل وتركيب جديدين، ينتجان معنى مغايرا للأصل ومتعة بصرية باطنية تنسلخ عن المعنى المفترض. يقول بلاطة بهذا الصدد، معللا هذه الصرامة القاسية: "في عملي حساب تام لكل تفصيلة في العمل الفني- على طريقة الأيقونوغرافي… لأني أعتبر التصوير"الرسم" عِلْماً حيث نرسم حرفاً أو نضع لوناً على مساحة بيضاء".
يستقي بلاطة هذا التعامل الجمالي المنهجي من تكوينه الأولي في فلسطين، ثم في ما بعد من ثقافته وتكوينه التشكيليين. وهو وإن كان من شبابه مفتونا ببول كلي إلا أن صرامته تحيل بالأكثر على تنظيرات كاندنسكي. إن هذا التوجه الذي لحظناه أيضا لدى فنانين عرب آخرين كمحمد المليحي ومحمد شبعة وبشكل أقل لدى شفيق عبود، ظل يعبر عن بحث راديكالي عن هوية بصرية عربية مواربة في نظرتها للواقع. وحين يطرح على كمال بلاطة علاقته بفلسطين باعتبارها علاقة إشكالية وعلاقة هوية نراه يجيب: "الوطن تحوّل إلى متابعة فكرية وعاطفية، وأنا محاط بأناس أغراب: في إيطاليا أتكلم الإيطالية، في أميركا أتكلم الإنكليزية، في فرنسا أتكلم الفرنسية، في ألمانيا حالياً أتكلم الألمانية، هكذا كما تراني أحمل وطني في لوحاتي... عندما كنت بعيداً عن الوطن، تسنى لي أن أنظر عمودياً في نفسي. وكلما ابتعدت أغور في أعماق القضايا الجمالية التي جاءت من التراث العربي الإسلامي، فهي تحتوي على مادة عظيمة للإبداع".
يبني بلاطة عمله التشكيلي على الفرادة. فهو لم يكن قط "حروفياً" حتى وهو يستعمل الحرف العربي، بل يدمجه في منظور جمالي وعاطفي أشمل. وهذه التجربة قادته لأن يسير أبعد في تأمليته الجمالية، كي يمنح للحسي نعومة الفكر وخصوبته. فالذاكرة التي تنطبع في جسده هي التي حملته على هوى الترحال لأن يقص أجنحة الحنين فيها، كي يتبنى لغات العالم، أو بالأحرى كي يحول القضية إلى شجرة شخصية قابلة لأن تنبت في حضن الفن العالمي. ففي تجربة بلقيس التي بلورها من سنتين، نراه يرتاد الأسطورة بالكثير من الشفافية كي يقرأها لا بوصفها حكاية وإنما باعتبارها نبعا لألوان الأرض. بيد أن ثمة دوما حكاية تنسجها سمفونية التفاعلات الهندسية. هكذا صارت الخطوط، صارت تتوارى كي تتحول اللوحة إلى ستارات ترسم متاهة ذهنية للتفكير التأملي لمعمار يدعونا بشكل تساؤلي إلى أن نجد وجهتنا فيه. وأخال أن بلاطة وهو يبني جغرافياته تلك بهذه التجريدية الصارمة يدعونا إلى أن نمنحها من محسوسنا. فالعالم بتحولاته حين يسكن اللوحة ينصهر فيها حتى ليكاد يفقد فيها عذريته السائلة.
تذكرني أعمال بلاطة الأخيرة التي عرضها بلندن في العام الماضي بقصائد هولدرلين في صدوحها الأسطوري؛ حيث الإنسان يتحوّل إلى صوت والنبر إلى نشيد. وأنشودة الفنان هنا تتغنى بإيقاعية لا مجال فيها للذات من حيث هي معاناة حسية بقدر ما هي صعود لأعالي الفكر في عز المعاناة. فهذا الفلسطيني لا يتشبه بقضيته كي لا يَفقدها في خضم محسوسيتها القاهرة. إنه يفتح للفلسطيني طريقا آخر ليتسامى بمعاناته وجراحه ويحولها إلى قضية وجودية. كما يذكرني بقصائد روني شار التي تحول العناصر إلى كتابة لا تنصاع للمرئي إلا لتجعل منه صرحا يبلور رؤية فلسفية للكون. هذا التسامي المزدوج هو ما يجعل بلاطة فنان النور بامتياز وذلك الساحر الذي يخلق عالمه بالنور فقط. النور مادة اللوحة، والجمال الخالص نسْغها والتشاكلات سبيلها للحلم.
ثمة فعلا الكثير من الحلم والمأساوية في تلك اللوحات، وشتات حكاية تسعى لأن تتخلص من وقائعها. فخلف ستارات التأمل الجمالي والصمت الهادر، تغدو جراح الهوية والوجود أشبه بالخيوط الدقيقة التي تتسلل لعيوننا من خلال ثنيات الأشكال الصارمة. وفي التراكبات نجدنا نتصفَّح الحكاية المحجوزة، ومعها الذاكرة التي تشتغل على الفراغ. وفي فراغ المعنى يبلور كمال بلاطة تضاريس صحرائه الخاصة. ويبني مدينته من سراب النور، ويدعونا لمحراب لا يتبدى فيه سوى نور الآلهة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.