اعتماد تمريض كفر الشيخ من الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    مستقبل وطن يواصل مؤتمراته الجماهيرية لدعم مرشحيه وحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب (فيديو)    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك» وبالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة.. الأوقاف تطلق (1010) قافلة دعوية بمراكز الشباب على مستوى الجمهورية    تخفيضات تصل إلى 40%.. الداخلية: مد فعاليات مبادرة "كلنا واحد" لتوفير مستلزمات الشتاء بأسعار مخفضة (فيديو)    رئيس شعبة النقل الدولى: توقعات بانتعاش حركة السفن بقناة السويس    تفاصيل قرار جديد للرئيس عبدالفتاح السيسي    الأزهر يدعو حكماء السودان وعقلاء العالم إلى التدخل العاجل والتوسُّط لوقف نزيف دماء الأبرياء في الفاشر بالسودان    الرئيس السيسى يستقبل رئيس إريتريا ويشيد بمشاركته فى افتتاح المتحف المصرى    تقرير أمريكى يكشف ملامح قوة غزة الدولية.. التفاصيل    بمشاركة منتخب مصر - الكشف عن تميمة كأس العالم للناشئين 2025    خبر في الجول - توروب يفسر أسباب تراجع الأهلي.. ويطلب تدعيم 3 مراكز    ضبط كميات من الأغذية المصنعة الغير صالحة للاستهلاك الآدمى بالعاشر    تأجيل محاكمة البلوجر أم مكة بتهمة بث فيديوهات خادشة    لوموند: المتحف المصرى الكبير ركيزة استراتيجية فى خطة مصر الطموحة لمضاعفة السياحة    «ابن أمه ميتعاشرش».. 4 أبراج رجالهم لا يتخلون عن والدتهم رغم كبرهم    قافلة بين سينمائيات تطلق ورشة الفيلم التسجيلي الإبداعي 2026 لتأهيل جيل جديد من المخرجات    معهد تيودور بلهارس ينظم ورشة عمل حول "الاستئصال الجذري للمثانة"    الطريق للسعادة.. 7 أطعمة هتعدل مزاجك مع تغيير الفصول والتوقيت الشتوي    تأجيل النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية 48 ساعة    عاجل- جهّز ساعتك.. طريقة ضبط الساعة مع بدء تطبيق التوقيت الشتوي في الهواتف الذكية (Android / iPhone)    عاجل الأحد المقبل بدء تسليم أراضي "بيت الوطن" للمصريين بالخارج بالقاهرة الجديدة    جيل بعد جيل على كرسى رئيس التحرير    المشدد من 3 إلى 15 سنة ل4 متهمين بحيازة أسلحة نارية وذخائر بشبرا الخيمة    إصابة 6 أطفال بحادث تصادم ميكروباص ومينى باص فى 6 أكتوبر    إقالة مديرة مدرسة في بنها بعد مشادة بين معلمين    ميرتس: علينا استغلال الإمكانات الكبيرة لعلاقاتنا مع تركيا بشكل أفضل    أحمد موسى يتقدم ببلاغات للنائب العام ضد صفحات نشرت تصريحات مفبركة باسمه    أسعار طن الأرز الأبيض والشعير اليوم الخميس 30 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    شوبير يكشف تفاصيل مفاوضات الزمالك مع محمد السيد    شوبير يكشف آخر تطورات حالة إمام عاشور ومشاركته في السوبر المحلي    رئيس مجلس إدارة جهاز تنمية التجارة الداخلية الجديد يبدأ مهام عمله    محافظ شمال سيناء: الوفود الدولية ترى على أرض الواقع جهود مصر في تنفيذ اتفاقية السلام بدلاً من الاكتفاء بالمعلومات المكتوبة    وزير الصحة: أصدرنا حتى الآن أكثر من 115 دليلًا إرشاديًا فى مختلف التخصصات الطبية    هالة صدقي تحتفل باقتراب افتتاح المتحف المصري: افرحوا يا مصريين بهذا الإنجاز العالمي (فيديو)    وزيرة التضامن تشهد احتفالية الأب القدوة.. وتكرم شخصيات ملهمة    هل يتنافى تنظيم النسل أو تتعارض الدعوة إليه مع التوكل على الله وضمان الرزق للخلق؟    مدحت شلبي: محمد عبد المنعم يرفض العودة إلى الأهلي ويفضل الاستمرار في أوروبا    ضبط سلع غذائية فاسدة ودقيق مدعم قبل بيعه في السوق السوداء بأسيوط    بينيا يقارن بين سارابيا وفليك: أكثر صرامة في بناء الهجمة    «نفسي أشتمنا».. يسري نصرالله ينعى المصورين ماجد هلال وكيرلس صلاح    «بالزي الفرعوني وأعلام مصر» .. مدارس الإسكندرية تحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير في طابور الصباح (صور)    محافظ سوهاج يوقف معدية غير مرخصة بالبلينا بعد تداول فيديو لطلاب يستخدمونها    الرئاسة تكشف تفاصيل لقاء السيسي ب رئيس مجلس الوزراء الكويتي    مواصلة جهود الداخلية لمكافحة جرائم استغلال الأحداث والتسول    أسعار النفط تسجل 64.52 دولار لخام برنت و60.11 دولار للخام الأمريكى    الزمالك في اختبار مهم أمام البنك الأهلي لاستعادة التوازن في الدوري المصري    هل يحق للزوج منع زوجته من العمل بعد الزواج؟.. أمين الفتوى يجيب    طريقة عمل طاجن البطاطس بالدجاج| وصفة شهية تجمع الدفء والنكهة الشرقية    توفيق عكاشة: السادات أفشل كل محاولات إشعال الحرب في السودان    ماس كهرباء وراء اندلاع حريق بمحل مفروشات في النزهة    وزيرا خارجية اليابان وكوريا الجنوبية يتفقان على تطوير العلاقات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في محافظة قنا    طابور الصباح فى الشرقية يحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير.. فيديو    السجن المشدد وغرامة 10 ملايين جنيه عقوبة بيع الآثار خارج مصر    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في الشرقية    طريقة استخراج جواز سفر مصري 2025.. التفاصيل كاملة    «فين اللعيبة الجامدة اللي بملايين».. تعليق مثير من مدحت شلبي بعد تعادل الأهلي مع بتروجت    هل يجوز للزوجة التصدق من مال البيت دون علم زوجها؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال بلاّطة يبني للعالم جغرافيا من نور
نشر في نقطة ضوء يوم 05 - 01 - 2017

هو من الفنانين الأكثر استعصاء على الإمساك والتأويل. فلوحاته "الحروفية" كانت تمتلك من الصرامة الآسرة ما يجعلك إما تقبلها في حيرتك أمامها، أو تواربها في سطوتها عليك. فمع أن كمال بلاطة بدأ بلوحات تشخيصية تعبيرية في منشئه بالقدس، إلا أن مسيره التكويني بروما والولايات المتحدة، جعله يفتتن بالحرف العربي ويحوله إلى علامة استهواه فيه المربع، فتربَّع عليه في تأويلات بصرية متناسلة للحرف الكوفي. هكذا عرفناه في الثمانينات، حين شاهدت أول سيريغرافية له معلقة في مكتب المرحوم عبد الكبير الخطيبي. وهكذا تعرفت عليه في مقامه بالمغرب في 1993-94، حين كنت ألاقيه غالبا في المعارض بالرباط أو حول تجربة صديقه التشكيلي الراحل محمد شبعة.
قد يستغرب البعض من فلسطيني يحمل في مسقط رأسه بلده وقضيته، أن يتجه إلى التجريد، في الوقت الذي كان فيه أغلب الفنانين الفلسطينيين المُجايلين له يصورون قضيتهم بالشخصيات والرموز المعبرة عن حرارتها ومفارقاتها. بيد أن كمال بلاطة، الذي يتقن الرسم إتقانا، فضل أن يميز منذ البداية بين الممارسة التشكيلية والممارسة الغرافية. فقد أنجز لهذا الغرض أكثر من مائتي ملصق. أما في منحاه التشكيلي فقد كانت تنويعاته على الحرف أكبر من أن تكون حروفية لأنها جردت الحرف من حرفيته لتغوص به في التخطيط، وفي التشكيل الهندسي. ظلت أعمال الفنان عبارة عن تأملات شبه صوفية تستبطن العالم في قلب المعمار الهندسي للوحة. وإن كان المتصوفة يفضلون الدائرة لتناسقها الأملس الذي يجعل العالم عبارة عن دورة لانهائية، فإن بلاّطة يدمج هذه الدائرة الخفية في قلب تربيعاته، كما ليعبر عن حدة الرؤية للعالم وعن زواياها الجارحة.
هذه الصرامة القاسية آتية من بناء اللوحة وفقا لتوافقات وتراكبات وتداخلات تتناسج فيها الخطوط والأشكال تبعا لحس موسيقي عميق. فمن الحرف إلى البناء المعماري يبلور بلاّطة نسيجا معماريا architexture تتحلل فيه الألوان وتمنحه روحا جديدة. فهوى الفنان بالمعمار الإسلامي يتجاوز الزخرفية ليبسط جذوره في "عقلية" التناسجات التي انبنى عليها المعمار الإسلامي. غير أن هذا التجذر نفسه يستحيل إلى جماليات مغايرة تنهض على تأويل وتركيب جديدين، ينتجان معنى مغايرا للأصل ومتعة بصرية باطنية تنسلخ عن المعنى المفترض. يقول بلاطة بهذا الصدد، معللا هذه الصرامة القاسية: "في عملي حساب تام لكل تفصيلة في العمل الفني- على طريقة الأيقونوغرافي… لأني أعتبر التصوير"الرسم" عِلْماً حيث نرسم حرفاً أو نضع لوناً على مساحة بيضاء".
يستقي بلاطة هذا التعامل الجمالي المنهجي من تكوينه الأولي في فلسطين، ثم في ما بعد من ثقافته وتكوينه التشكيليين. وهو وإن كان من شبابه مفتونا ببول كلي إلا أن صرامته تحيل بالأكثر على تنظيرات كاندنسكي. إن هذا التوجه الذي لحظناه أيضا لدى فنانين عرب آخرين كمحمد المليحي ومحمد شبعة وبشكل أقل لدى شفيق عبود، ظل يعبر عن بحث راديكالي عن هوية بصرية عربية مواربة في نظرتها للواقع. وحين يطرح على كمال بلاطة علاقته بفلسطين باعتبارها علاقة إشكالية وعلاقة هوية نراه يجيب: "الوطن تحوّل إلى متابعة فكرية وعاطفية، وأنا محاط بأناس أغراب: في إيطاليا أتكلم الإيطالية، في أميركا أتكلم الإنكليزية، في فرنسا أتكلم الفرنسية، في ألمانيا حالياً أتكلم الألمانية، هكذا كما تراني أحمل وطني في لوحاتي... عندما كنت بعيداً عن الوطن، تسنى لي أن أنظر عمودياً في نفسي. وكلما ابتعدت أغور في أعماق القضايا الجمالية التي جاءت من التراث العربي الإسلامي، فهي تحتوي على مادة عظيمة للإبداع".
يبني بلاطة عمله التشكيلي على الفرادة. فهو لم يكن قط "حروفياً" حتى وهو يستعمل الحرف العربي، بل يدمجه في منظور جمالي وعاطفي أشمل. وهذه التجربة قادته لأن يسير أبعد في تأمليته الجمالية، كي يمنح للحسي نعومة الفكر وخصوبته. فالذاكرة التي تنطبع في جسده هي التي حملته على هوى الترحال لأن يقص أجنحة الحنين فيها، كي يتبنى لغات العالم، أو بالأحرى كي يحول القضية إلى شجرة شخصية قابلة لأن تنبت في حضن الفن العالمي. ففي تجربة بلقيس التي بلورها من سنتين، نراه يرتاد الأسطورة بالكثير من الشفافية كي يقرأها لا بوصفها حكاية وإنما باعتبارها نبعا لألوان الأرض. بيد أن ثمة دوما حكاية تنسجها سمفونية التفاعلات الهندسية. هكذا صارت الخطوط، صارت تتوارى كي تتحول اللوحة إلى ستارات ترسم متاهة ذهنية للتفكير التأملي لمعمار يدعونا بشكل تساؤلي إلى أن نجد وجهتنا فيه. وأخال أن بلاطة وهو يبني جغرافياته تلك بهذه التجريدية الصارمة يدعونا إلى أن نمنحها من محسوسنا. فالعالم بتحولاته حين يسكن اللوحة ينصهر فيها حتى ليكاد يفقد فيها عذريته السائلة.
تذكرني أعمال بلاطة الأخيرة التي عرضها بلندن في العام الماضي بقصائد هولدرلين في صدوحها الأسطوري؛ حيث الإنسان يتحوّل إلى صوت والنبر إلى نشيد. وأنشودة الفنان هنا تتغنى بإيقاعية لا مجال فيها للذات من حيث هي معاناة حسية بقدر ما هي صعود لأعالي الفكر في عز المعاناة. فهذا الفلسطيني لا يتشبه بقضيته كي لا يَفقدها في خضم محسوسيتها القاهرة. إنه يفتح للفلسطيني طريقا آخر ليتسامى بمعاناته وجراحه ويحولها إلى قضية وجودية. كما يذكرني بقصائد روني شار التي تحول العناصر إلى كتابة لا تنصاع للمرئي إلا لتجعل منه صرحا يبلور رؤية فلسفية للكون. هذا التسامي المزدوج هو ما يجعل بلاطة فنان النور بامتياز وذلك الساحر الذي يخلق عالمه بالنور فقط. النور مادة اللوحة، والجمال الخالص نسْغها والتشاكلات سبيلها للحلم.
ثمة فعلا الكثير من الحلم والمأساوية في تلك اللوحات، وشتات حكاية تسعى لأن تتخلص من وقائعها. فخلف ستارات التأمل الجمالي والصمت الهادر، تغدو جراح الهوية والوجود أشبه بالخيوط الدقيقة التي تتسلل لعيوننا من خلال ثنيات الأشكال الصارمة. وفي التراكبات نجدنا نتصفَّح الحكاية المحجوزة، ومعها الذاكرة التي تشتغل على الفراغ. وفي فراغ المعنى يبلور كمال بلاطة تضاريس صحرائه الخاصة. ويبني مدينته من سراب النور، ويدعونا لمحراب لا يتبدى فيه سوى نور الآلهة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.