خليل الجيزاوي كاتب وروائي مصري بارز، يكتب القصة القصيرة والرواية وله إسهامات نقدية وصحفية عديدة، صدرت له الكثير من الأعمال والكتب، وهو في هذا الحوار يكشف لنا كيف أصبح أديبا، ومن من الكتاب الذين تأثر بهم وأقربهم إليه، كما يطرح رؤيته للحياة الثقافية والإبداعية في مصر والوطن العربي. قال: اعتدت التردد على سينما الهلال الصيفي بحي السيدة زينب بالقاهرة، كي أشاهد أفلام فريد شوقي قبل أن تغلق أبوابها حتى اليوم. ثم سينما الشرق التي أطلق عليها فيما بعد "سينما فريد شوقي" ابن السيدة زينب ولا أزال أتذكر هذه الأفلام مشهدًا بعد مشهد، وأتذكر أن هذه الأفلام قد شاهدتها أكثر من ثلاث مرات خلال العطلة الصيفية أثناء المرحلة الثانوية، أو خلال سنوات الدراسة بكلية الآداب جامعة عين شمس 1982 1985. أتذكر هذه الأفلام: السقا مات 1977، البؤساء 1978، الباطنية 1980، فتوات بولاق 1981، الشيطان يعظ 1981، فتوة الناس الغلابة 1984، الموظفون في الأرض 1985، آه يا بلد 1985، هذه الأفلام هي التي شكلت ثقافة الصورة عندي، بل أنني اختزلت كل هذه المشاهد البصرية في تلافيف الذاكرة، ومتى يحين وقت الكتابة تتوالى عملية الاسترجاع عن طريق (الفلاش باك) فيتلاحق ظهورها في مقاطع أو مشاهد لتمر أمام عيني كأنها فيلم سينمائي قبل الكتابة. وأضاف أن ثقافة الصورة هي التي أشعلت المُتخيل الروائي داخل عقل الكاتب في أن يستمد كثيرًا من عناصره التخيلية من إشكالية الواقع وأحلام شخوصه التي تحاول تجاوز هذا الواقع، فتحلم الذات الإنسانية بالتحليق في تلك العوالم السحرية الأخاذة المليئة بالدهشة والغرائبية، والمُتخيل الروائي يتوق أن يتجاوز هذا الواقع المُحبِط والمُؤلم؛ ليعيش معظم أبطال الرواية تلك العوالم السحرية وقد تحقق بعض طموحاتهم وأحلامهم المشروعة. وأوضح أنه يحاول أن يكتب بعين طفل وهو يرصد دهشة العالم من حوله، يسجل فيها بعض التفاصيل الصغيرة، كأنها عدة مشاهد بصرية متجاورة (كولاج)؛ "لأنني قبل أن أكتب، أتخيل المشهد ثم أرسمه على الورق بتقنية المشهد البصري، حتى عندما يحين دور القارئ يراه حيًا أمام عينيه، بالإضافة إلى امتلاك لغة الحكي، نعم إنني مدين بالحكي إلى جدتي التي عشت معها عدة سنوات، قبل وأثناء المدرسة الابتدائية، استطاعت بطريقتها الشيقة في الحكي أن تأسرني حتى الآن، ولا تزال فترة الطفولة الباكرة والمُدهشة تُسيطر علىّ وتقفز المشاهد المختزلة عند الكتابة مُضافًا إليها رؤيتي الخاصة، وبعض العناصر التقنية التي تتناسب مع طرائق الكتابة الجديدة؛ لكنني أقرر الآن أنه ومع الطرائق المختلفة والمُتباينة للكتابة الحداثية لا يزال الحكى الأكثر إنسانية – من وجهة نظري – قادرًا على توصيل ما أراه يستحق الكتابة". وقال: إنني لا أعيد كتابة الواقع، لكنني أختار من هذا الواقع ما أراه مُناسبًا وصالحًا للكتابة، مُستفيدًا بالكثير من التقنيات الحديثة في الكتابة، تلك التي تُفكك الأطر السائدة والفارقة بين الأجناس الأدبية من (قصة/ رواية/ شعر/ مقال/ مسرحية) بحيث يمكن الاستفادة المباشرة وغير المباشرة من نظرية تداخل الأنواع الأدبية، بداية من توظيف الصفة والموصوف، الخارج والداخل، الزمان والمكان، البينة السردية في دلالة اللغة، البحث عن الرمز ودلالته، خصوصية الحركة داخل المشهد البصري، تتابع إيقاع اللغة مُنتهيًا بجماليات الملمح البصري الراصد للصورة السردية التي تُهيمن على معظم كتاباتي القصصية والروائية. ويشير الجيزاوي إلى أن ملامح الكتابة لديه تتكئ على روافد كثيرة منها: الأول: تيار الواقعية المعنىّ برصد الحياتي واليومي، من خلال وعي الذات الإنسانية، والاستفادة من هذه الذات الفردية والجمعية، وهي تجتر ذلك المخزون الهائل من سراديب دفتر الذكريات، حيث تتكئ عليها قناعاتي الشخصية بأهمية تسجيل الخبرات الحياتية التي مررت بها، والاستفادة بها سواء في وصف شخصية بعينها، أو رسم جغرافية المكان، أو نقل حوار الأحداث الحياتية كما عايشته وشاهدته. والثاني: الاستفادة بالأسطورة والحكاية الشعبية وتوظيفها وتضفيرها مع أحداث القصة، بحيث يحدث تداخل وتناغم بين المتخيل القصصي الواقعي، بتضفير الواقعي بالأسطوري بالشعبي، حتى أن المتلقي لا يستطيع أن يُميز بين ما هو واقعي وما هو أسطوري. أما الرافد الثالث فهو قراءة معظم المنجز الروائي العالمي بداية من: تولستوي، ودوستوفسكي، وجوجول، وتشخوف، ومارسيل بروست، ولورانس داريل، وتشارلز ديكنز، وأناتول فرانس، إلي أعمال أدباء أميركا اللاتينية خاصة: باولو كويلهو وماركيز، وقبل كل هؤلاء العظيم هيمنجواي، بالإضافة إلي قراءة معظم المنجز الروائي العربي بداية من: عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وعبدالرحمن الشرقاوي، وعبدالرحمن منيف، وزكريا تامر، وحنا مينا، وإبراهيم الكوني، وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم أصلان، ومحمد شكري، وعبدالحكيم قاسم، وبهاء طاهر، وخيري شلبي، والطيب صالح، ومحمد البساطي، ويوسف القعيد، وإبراهيم عبدالمجيد، ومعظم ما نُشر من روايات حتى جيل التسعينيات (1990 2000). وأشار إلي أنه استفاد كثيرًا من تقنيات السرد الحديثة خاصة تكنيك رواية الأصوات التي يختفي معها صوت الراوي العليم العارف بكل تفاصيل الرواية الذي يجعل الرواية أحادية الرؤية، لكن في رواية الأصوات تتعدد وجهات النظر المتباينة، وتعكس الاختلاف الفكري والتباين الأيديولوجي بين شخوص الرواية، ومن ثم تضع تفسيرًا للمتلقي لهذه الرؤى المتباينة والمتجذرة عبر منظومة القيم الجمالية؛ لتضع هذه الشخصية مقابل الأخرى أو لتجاورها في الرؤية، عبر تجادلية فكرية تعكس ثقافة شخوص الرواية وانتماءاتها السياسية والفكرية، وجاءت روايتي الأولى "يوميات مدرس البنات" مسرودة بتقنية رواية الأصوات، وكذلك روايتي "مواقيت الصمت". يطمح خليل الجيزاوي إلى أن يترك بصمةً ما في مسيرة الرواية العربية، بل يطمح أن يُجدد أو يُضيف ولو لبنة واحدة في هذا الصرح الخالد، "لكني أعتقد جازمًا أن النقاد وحدهم هم القادرون على تحديد من أضاف، ومن جدد في مسيرة القصة والرواية". أسأله: في روايتك "مواقيت الصمت" يصعب أن تحدد بدقة الحدود الفاصلة بين الواقعي والمتخيل؛ لماذا؟ لأن الواقعي واليومي يبدو أحيانًا أغرب من المُتخيل، نرى الغرائبى يتوازى مع الحياتي، والعجائبى يتعانق مع الواقع المعيش، فواقع شخوص الرواية مع الأحداث المُتشابكة يُصبح سردًا مُؤطرًا يتجاوز ما هو تخيلي وعجائبي وغرائبي؛ ليندرج إلى ما يُسمى بالواقعية السحرية؛ لأننا لا نستطيع أن نفهم طبيعة الإنسان إلا من خلال فهمنا للموروث الشعبي الذي تشكل عبر السنوات الباكرة، ومن خلال وعينا بالحكايات الشعبية المتمثلة في الصور الكثيرة التي اختزلتها الذاكرة عبر سنوات الوعي المُبكر، ومن خلال الحضور الدائم للموالد الشعبية (مولد السيد البدوي، ومولد السيدة زينب، ومولد سيدنا الحسين). • تُثير رواية "مواقيت الصمت" الكثير من الأسئلة بداية من سؤال الهُوية ووصولا إلى السؤال الشائك الذي يتردد همسًا علي ألسنة أبطال الرواية: هل نحن أحرار حقًا؟ وهل يُمكننا البوح بحرية مطلقة؟! بالطبع هذا صحيح، كما أنها تُثير الكثير من الإشكاليات والتساؤلات بداية من أسئلة الصمت الإنساني إلى أسئلة العجز السياسي: كيف نكسر دائرة الصمت بين الأزواج، بل كيف صمت الزوج على إهانة زوجته المكرورة، حتى أنها منعته حقًا طبيعيًا، ودخل في شرنقة الصمت، ووافق على استكمال الحياة معها وسط هذه الحالة من الغبن والقهر، فقط من أجل استقرار الأولاد وسلامهم النفسي؟! ثم كيف نسكت ونضع رءوسنا في الرمال على أكثر من 1000 ألف طفل وطفلة من أطفال الشوارع ينامون في العراء مُشردين ومطاردين، ويتعرضون للاغتصاب كل ليلة وهم يشكلون نواة للبلطجة والإجرام ومعظمهم من حاملي فيروس الإيدز والكثير من الأمراض المعدية في مدينة القاهرة وحدها؟! بل كيف نواجه عجز البنت التي اغتصبت عندما رفضت الإبلاغ عن مغتصبيها وآثرت الدخول في كهوف الصمت المعتمة خوفًا من الفضيحة بين الأهل والجيران؟! وأخيرا ...كيف نوافق بالصمت العاجز على تخريب خصوصية ثقافتنا العربية والإسلامية وتدمير الهُوية العربية تحت دعاوى العولمة وقضية الشرق الأوسط الكبير؟!