غلاف الرواية محيط - خاص صدرت رواية (مواقيت الصمت) للروائي خليل الجيزاوى عن الدار العربية للعلوم للنشر بيروت وبالاشتراك مع مكتبة مدبولى للتوزيع بالقاهرة ومنشورات الاختلاف بالجزائر، راصدًا فيها اللحظة التاريخية الراهنة في المجتمع المصري مع استدعاء للماضي القريب، بما يمثل قاعدة لاستشرف آفاق المستقبل من خلال شخوص وأحداث الرواية، عن طريق تقنية رواية الأصوات التي تبين وجهات النظر المتباينة لشخوص الرواية المفعم بالتناقضات، المتصادم مع أجواء شديدة المحاذير، ومجتمع يُحكم بقبضة حديدية خانقة لكل التيارات السياسية التي تخالفه. الجيزاوى استفاد في روايته من الموروثات الشعبية والسرديات المتناقلة في إحداث التناغم بين شخوصه؛ ليعبر بها عن الاشتباك والتقاطع مع قضايا الواقع المعيش بكل تفاصيله المشاهدة، مع بيان لحجم الاستلاب الكبير الذي يقع على المجتمع بأسره دون وعي أو بوعي غير قادر على فعل التغيير؛ لتجيء الرواية كإشارة للانعتاق أو بشارة للتمرد على هذا التنميط المفضي على الإفراغ. رواية (مواقيت الصمت) هي الرابعة له في سياق مشروعه الإبداعي، الذي بدأ برواية «يوميات مدرس البنات» التي صدرت عام2000، تلتها رواية «أحلام العايشة» عام 2002، ثم رواية «الألاضيش» 2003، بجانب مجموعتين قصصيتين جاءتا بعنوان «نشيد الخلاص» عام 2001، و«أولاد الأفاعي» عام 2004. وتأتى رواية مواقيت الصمت؛ لتشكل محطة جديدة مختلفة، ونقلة مهمة في رحلته مع كتابة الرواية، يتساءل الجيزاوى في الرواية: ماذا يحدث حين تلسع الحبيب أضواء الشهرة ويصعد درجات المجد، بعد النجاح الكبير الذي حققه في شركة مقاولات الهدم والبناء التي سعت بطلة الرواية لتعيينه فيها؟ هل يتنكر لها بعد قصة الحب الساخنة والتي أعطته ذات ليلة كل شيء؟ ولما خذلها سافرت إلى باريس لتكملة دراستها العليا، وحين عادت من باريس بعد عشر سنوات؛ لإجراء بحث يرصد ظاهرة أطفال الشوارع بالقاهرة، من خلال منحة دراسية لمدة شهر، وجدت أن الدنيا كلها تغيرت، الناس في الشارع التي سكنت وعاشت بينهم خمسة وعشرين عاماً، لم يعرفوها، بل أنكروها، فقررت مواجهة الجميع، حينئذ يتشابك مصيرها مع أحوال الأمكنة التي تقيم فيها أو تتجول دروبها، نجدها قد تحولت إلى هائمة على كورنيش النيل، بائسة، محرومة، وحيدة، تلك هي حال هند الشخصية الرئيسة في فضاء الرواية التي تنسال على فصول الرواية من خلال رسائل من طرف واحد، من هند أو هبة إلى سعيد أو سيد. الرواية تصور معاناة المرأة مع مجتمعها هبة الشخصية الغامضة تطارد هند حيناً، وتتلبسها حيناً آخر، من خلال أسطورة قديمة وحكايات شعبية نسجت حولها، ومن هنا يبدأ التأويل؛ لمحاولة فهم فصول الأسطورة التي تتداخل مع فصول حياتها، ونجد مساحة للبوح كبيرة بين أب زاهد في الدنيا، شبه مقيم بجوار ضريح أم هاشم، وأم متسلطة ديكتاتورية، تمارس القهر على الزوج والابنة معاً، وتحاول هند الإفلات من رقابتها، في محاولة مستميتة للبحث عن حريتها، هذه الأم نجدها دائما تحتل خلفية المشهد حيث تعيش وحيدة في فيلتها بمصر الجديدة بعد سفر ابنها؛ ولأنها شخصية مادية انتهازية، يحدث التصادم بينها وبين الزوج الذي زهد في زخرف الدنيا، ونجد أن هند تختار العيش مع أبيها في شقة السيدة زينب، بينما الابن ينتقل للإقامة معها قبل أن يقرر السفر إلى لندن لاستكمال دراسة الطب،وتتقاطع حياة شخوص الرواية ويتداخل مصيرها ومصير الأماكن التي يعيشون بها، وهكذا تتحقق نبوءة الأسطورة، فتموت الأم في ظروف غامضة، ويلحقها الأب بعد عدة سنوات وبنفس الظروف الغامضة أيضاً، وهكذا تعيش هند حياة بائسة، شريدة، تطاردها روح أختها التوأم هبة التي ماتت صغيرة، وهكذا نشاهد فصول الأسطورة وهو تدور بين رحى الموت والحياة؛ لتنسج خيوطها العنكبوتية من جديد حول هند، تطاردها الأشباح، فتعيش دائما على حافة الجنون، وتفشل محاولاتها المتكررة في الانتحار. وقد قدم الناقد الكبير د. عبد المنعم تليمة أستاذ الأدب العربي والنقد الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة الرواية في كلمته للغلاف الأخير قائلا:يصوغ هذا العمل الروائي مواقيت الصمت للكاتب خليل الجيزاوى اللحظة التاريخية الراهنة في المجتمع المصري، ويجعل هذا الراهن الماثل مركزاً يستدعي الماضي القريب الذي مهّد له وأنتجه. تثير رواية مواقيت الصمت الكثير من الأسئلة بداية من سؤال الهوية ووصولا إلى السؤال الشائك الذي يتردد همساً علي ألسنة أبطال الرواية: هل نحن أحرار حقاً؟ وهل يمكننا البوح بحرية مطلقة؟ أبطال من قلب المجتمع هذا السؤال المراوغ يطرحه الروائي خليل الجيزاوى من خلال عدة تقنيات ومفردات الكتابة، أجاد الكاتب الإمساك بها وبحرفية شديدة من خلال هذا التكثيف الشديد، وبلغة شاعرية ومواجهات حوارية تبوح بمكنونات النفس من خلال المولونوج الداخلي الذي يعطى مساحة للبوح، هذا البوح الذي يمنح شخوص الرواية وجوداً حياً وحاضراً من خلال المشهد البصري الماثل عند قراءة تفاصيل المشهد الروائي، فيعطى مساحة للقارئ أن يتخيل المشاهد المروية وكأنها ماثلة أمامه وشاخصة وتتحرك مثل لقطات سينمائية، وهذه الطريقة تنتمي للمدرسة البصرية في الحكي، تحقق للقارئ مزيداُ من التواصل الحميم مع الكاتب والرواية. ومن هنا نلمس معاناة أم شحته، وصراع الأدب المتأرجح بين الداخلي والخارجي، الأم العنيدة والمتسلطة حد العجرفة، شحته وصراعه مع الكبار، هيمه صبى المقهى وأحلامه الكبيرة، هند وصراعها مع توأمها هبه طوال فصول الرواية، جنينه زعيم أطفال الشوارع وحاميهم وانكساراته المتتالية، مهندس سعيد الفاتح صاحب أكبر شركات لمقاولات الهدم والبناء وحلمه وهو يرشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب أن يصبح وزيراً في تشكيلة الوزارة الجديدة التي تعقب الانتخابات مباشرة، أو النماذج المختارة من أطفال الشوارع وهم يحكون بألسنتهم قصصهم الدامية والموجعة، ومنهم نتعرف كيف يهرب هؤلاء الأطفال، وكيف يعيشون وينامون في الشوارع، بل كيف يواجهون برد الشتاء ومطاردات الشرطة الدائمة لهم؟ رواية مواقيت الصمت تعيد طرح الأسطورة الشعبية التي تعانق الحكايات الشعبية، هذا المزج الساحر بين الواقع المعيش والأسطورة الخيالية باعتباره جدلا قائماً بين الواقعي والخيالي المشحون بالكثير من الأسرار الغامضة والأحداث غير المنطقية، التي لا يمكن فهمها إلا من خلال فهمنا للأسطورة أو الحكايات الشعبية التي تروي (حكاية التوأمين) وهما يتنازعان ويتعاركان علي الحياة في لوحات حياتية مشحونة بالتوتر، وربما بدافع خفي للتحرر من ممارسات القهر التي مُورست ضدهما، أو تربيا عليها من خلال آليات القمع المختلفة التي تشكلت من خلال الصراع الدرامي بين هند وتوأمها هبة. الحي الشعبي بطل أيضا بالرواية استفاد الكاتب من توظيف الأسطورة التي تتردد في الحكايات الشعبية عبر حواديت الجدة سواء في الريف المصري أو الحارة الشعبية، تلك العوالم السحرية الغامضة التي تثير شهية القارئ، بل تجعله متلهفاً بمتابعة أحداث الروية المليئة بالأحداث الشيقة والممتعة معاً. تتكئ رواية مواقيت الصمت في الكثير من أحداثها إلى أبعاد أسطورية تشتبك مع أحلام أبطال الرواية وسط حي السيدة زينب، وهي تمثل أحلام الطبقة المتوسطة مقابل أحلامهم بالثراء والانتقال للحي الراقي حي جاردن سيتي المقابل لهم مباشرة، مثلما فعل عضو مجلس الشعب السابق، أو مثلما فعلت أم هند بطلة الرواية التي تمردت على الحياة في السيدة زينب/ الحي الشعبي، وأقامت في فيلا بمصر الجديدة، أو من خلال الأحلام المبتورة للطبقة المتوسطة في شارع الناصرية، هؤلاء الذين يشكلون ملح الأرض، هذه الشخصيات التي تتغلغل في بنية الواقع المعيش ومكوناته الفكرية، وهو ما يؤكد أن الرواية رواية مكان. رواية مواقيت الصمت رواية تعيد قراءة الواقع في ظل المتغيرات اللاهثة في المجتمع الجديد من خلال صور الفضائيات والانترنت التي تصيب الكثير من أفراد الحي الشعبي بالحسرة والضياع، فبطلة الرواية تعانى من القهر الاجتماعي الذي فرض عليها مبكراً، حيث تعاقبت على حياتها الكثير من صور القهر، حيث مارست عليها الأم كل وسائل القهر والتعذيب باعتبارها نذير شؤم وأن الخراب آت على البيت لا محالة، كما يقول الحكاية الشعبية/ الأسطورة التي تصدرت بدايات فصول الرواية السبعة كنص موازى للنص الروائي، وقد عانت بطلة الرواية كثيراً من ضرب الأم لها، حتى اعتقدت أنها ليست أمها، بل زوجة أبيها، وهكذا فرّت بنفسها عند أمها الثانية أم شحتة التي أرضعتها طفلة. كذلك عانت بطلة الرواية من سيطرة قوى خفية وغامضة طوال حياتها، لم تعرف طبيعة هذه القوى الخفية إلا في آخر صفحات الرواية، عندما اعترفت روح أختها التوأم التي ماتت صغيرة بأنها احتلت جسدها قسراً، بل تلبست روحها وحاولت بشتى الوسائل أن تعزلها عن المجتمع، حتى تتقوقع وتتشرنق حول نفسها، كل ذلك حتى تظل خاضعة مقهورة وتطيعها وتتصرف وتأتمر بأوامرها، وخارج البيت نراها تعانى من قمع المجتمع الذكورى الذي نجح في نسج خيوطه العنكبوتية حولها، ويوم أن نجح في الاقتراب منها بعد انتقال أمها العيش في فيلتها الجديدة بمصر الجديدة، وفض بكارتها بعلاقة حميمة، نراها لم تقاومه، لكنه بدلا من أن يقترب منها أكثر، نراه يدفعها للانتحار أكثر من مرة، بعد أن دخلت روحها منطقة الأرض الخراب وأصيبت بنوبات متكررة للاكتئاب، حين ابتعد ونأى عنها بعقيلة القمع الذكورى للمرأة، وأنها وحدها يجب أن تتحمل الخطأ . ولقد نجحت بطلة الرواية أن تخرج من أسر هذه الدائرة المغلقة وتفر بروحها المريضة من قمع هذه المؤسسات، بالسفر إلى باريس مدينة النور، لتشفى روحها من أمراض المجتمع وتستطيع استكمال دراستها العليا لدرجتيّ الماجستير والدكتوراه، حيث اختارت علاقة الأدب بالمجتمع كتخصص دقيق، وعادت لاستكمال الجزء التطبيقي على أطفال الشوارع في القاهرة؛ لتطبق عليهم ما توصلت إليه من نتائج بحثية، كي تساعد هؤلاء الأطفال، وتقدم لهم طوق نجاة أو ترشدهم إلى طريق الخلاص من التشرد والضياع.