يتعقب كتاب "التنبيهات على أغلاط الرواة" لأبي القاسم علي بن حمزة البصرى الرواة في كتب اللغة والمصنّفات مثل: التنبيهات على أبي زياد الكلابي في نوادره، التنبيهات على أبي عمرو الشيباني في نوادره، والتنبيهات على أبي حنيفة الدينوري في النبات، والتنبيهات على المبّرد في الكامل، والتنبيهات على ثعلب في الفصيح، والتنبيهات على أبي عبيدة في الغريب المصنّف، والتنبيهات على ابن ولاّد في المقصور والممدود وغيرهم، وهو الأمر الذي ترك له أثرا واضحا في المعجم العربى وأسهم به مؤلفه في بناء المعجم وتصحيح السقيم في المصنَّفات التي نقدها؛ ولذا طارت شهرة الكتاب في الآفاق في الشرق والغرب، فاستوعبه اللغويون ونقلوا عنه واحتفوا به ومنهم ابن بري والبغدادي في المشرق، وابن سيده، وأبو عبيد البكرى، والبطليوسى، وابن هشام اللخمي في الأندلس. وهذه الدراسة "في النقد اللغوي.. التنبيهات على أغلاط الرواة نموذجا" للدكتور حمود محمود الشويحي أستاذ أصول اللغة المساعد بجامعة الملك خالد، ومدرس أصول اللغة بجامعة الأزهر، والصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالتعاون بين نادي نجران الأدبي الثقافي، استطاعت أن تستظهر قوة ساعد أبي القاسم في بعض الردود، لاسيما في مسائل الاشتقاق؛ فلم يرد عليه البحث أي تنبيه فيه. كما ظهرت براعته في حسم ما حاسته معاجم اللغة الكبار في مستويات التحليل الأربعة كما في رده "المكربات: الإبل تُجلب في البرد إلى أبوابهم حتى يصيبها دخان النار فتدفأ" على أبي عبيد، و"ندأت الشيء: كرهته" على أبي عبيد عن الأموي، و"هجأتُ الطعامَ: أكلته" على أبي عمرو، و"السابياء: باب أحد جحرة اليربوع" على المبرِّد، والشَّذو بالفتح: المِسك على ابن ولَّاد، والزُّبى: الأماكن العالية عليه أيضا، وتفصيله مجمل قول المبرِّد في السانح والبارح، وطول نفسه في الاحتجاج كما في "البحر" وغير ذلك مما هو ظاهر جلى في فصول البحث. ويؤكد د. الشويحي أن فكرة الدراسة قد ولدت فكرة هذا البحث في مرحلةٍ من جمعي لتراث أبى حنيفة الدينوري ورواياته في اللغة في دراستي للماجستير فوجدت علي بن حمزة قد أولى كتاب النبات للدينوري بعض عنايته لنفاسته؛ لأنه عنده لم يصنَّف قبله ولا بعده مثله، فطفقت أجمع ما رواه عن أبي حنيفة وأصححه من كتابه. ويضيف قوة أسلوب أبي القاسم النقدي الجريء، وقوة ساعده في اللغة، وحضور حجته، بالإضافة إلى ما صححه من عيون تراث العربية الأصيل: (الغريب المصنَّف، وإصلاح المنطق، والفصيح، والكامل للمبرد، والمقصور والممدود لابن ولَّاد) ورأيت الشيخ الميمني يثني على عمل الرجل في مقدمة تحقيقه للكتاب منبها على ما في بعضه من مآخذ، فصحَّ عزمي على دراسة هذه التنبيهات لاحقا بالعرض والتحليل والمناقشة خدمة للكتب المذكورة وصيانة للتراث النقدي ودعمه. ثم شرعت ألتمس أدواتي لدراسة ما عزمت عليه، وحصرت مراجعي فيما قبل علي بن حمزة باحثا عما رَدَّ عليه فإن وجدت لقوله سندا من رواية الأكابر قبلته ودعَّمته بما يقَّويه من حجج فضلا عن حججه، وإن وجدتهم خالفوا قوله بما لا يقبل الشك رددته، إضافة إلى التماس الحجج الدامغة من الشعر العربي الصحيح المحتج به وغيره من أقوال العرب، ولم ألتفت إلى قول المتأخرين إلا قليلا لمزيد استئناس بتسلسل الرواية حتى تطمئن النفس إلى النتيجة. ويلفت إلى مسيرة اللغة العربية والداعي إلى تأليف أبي القاسم كتاب "التنبيهات" فيقول إن العربية بقيت بعد انقطاع الوحي محفوظة من الوهن والضعف حتى تقلَّدَ بنو العباس مقاليدَ الحكم بعد زوال الدولة الأموية العربية، فاختلط الناس وكثر اللحن، حينئذ هب اللغويون انطلاقا من غيرتهم على لغة العرب من الفساد يجمعونها من أفواه العرب الخلَّص والأعراب في البادية. ولما فسدت الألسنة كان من واجبهم وضع مقاييسها حفاظا عليها إلى جانب روايتها للأجيال في مصنَّفات تلقاها الخلف عن السلف، غير أنهم اختلفوا في المنهج الذي كتبوا به هذه المصنَّفات تبعا لاختلاف رؤية الرواة وتصنيفهم للغات، فجنح فريق منهم إلى الأفصح والأعلى والأشهر، لا يروُون سواه وهو فريق الأصمعي ومن تابعه كثعلب في فصيحه، بينما رأى فريق آخر أن اللغات على اختلافها حجة ما دامت عربية كأبي زيد ومن تابعه، فتوسعوا في الرواية، وألفت كتب النوادر والغريب، وأخرج منها أبو عبيد مصنَّفه. ثم مال بعضهم إلى انتخال اللغة صيانة لها بعد استشراء اللحن وفساد لغة الناس فألفت كتبٌ في لحن العامة ككتاب الكسائي في لحن العامة، وكتاب يعقوب في إصلاح المنطق، وبعض كتب أبي حاتم، حتى انتهى عصر الرواية بحلول القرن الرابع الهجري. ويرى د. الشويحي أن اللغويين لم يجدوا أمامهم إلا النظر في المروي وتبويبه تارة حسب الموضوعات، وتارة أخرى حسب ترتيب الألفاظ على اختلاف مناهجهم في ذلك، ومنهم من نظر في المصنَّفات التي رويت بغرض التصحيح والنقد لما كانت الكتابة العربية تعاني أول أمرها من مشكلات في التدوين وخلوها من النقط. ومن بين هذه المصنَّفات التي عني صاحبها بتصحيح المصنَّفات والتنبيه على غلط أصحابها فيها أبو القاسم علي بن حمزة البصرى فكان كتابه مصدرا أصيلا في هذا الباب . وتثبت الدراسة أن منهج أبي القاسم في التنبيهات منهج سليم يعتمد في الغالب على الاحتكام إلى الرواية المسموعة المعضدة بالحجج، وقد يجمع بين السماع والقياس في الرد، وإذا تعارض السماع والقياس قدم السماع ورد القياس لاسيما إذا كان له حجة تقويه شعرية أو نثرية، على أنه قد خالف منهجه هذا مرة فوقع فيما أخذه على غيره، حيث رد على المبرِّد "النفَضَة جمع نافِض" لمن يتقدمون العسكر؛ لأنه قياس قاسه والمسموع بخلافه وهو نَفِيضة والجمع نفائض. ثم رد عليه المأمومة للشجَّة لأن الصواب عنده آمَّة والمأمومة أم الدماغ، فاعتمد القياس ورد المسموع عن أبي زيد والأصمعي وأبى حنيفة وكراع. ومن الطريف أنه خالف منهجه في الرد على المبرِّد أيضا فأتى بما نعاه عليه من قبل. كما يقع أحيانا في التناقض، فقد يقر في موضع ما أنكره في موضع آخر من كتابه كما في معنى اللأَى "جعله الثور في الرد على يعقوب: 285، وأنكره في الرد على ابن ولَّاد: 351، وقال: البقرة ولا يقال للثور". وقد يرد رواية ثم يعترف في الرد نفسه بأنها قد رويت كما في رده على أبي عبيد "قادية" بالدال ثم يعترف بروايتها. وقد يظن وهم أحد الرواة فينقده مع صحة قوله كما في رده "ولم يعرفوا صعِد في الجبل" على أبي زيد. وهذه المسألة خاصة فيها نظر دقيق وبحث مستوعب. وقد يحكم بحفظه فقط فيفوته بعض الصواب كما في مبحث أبنية المصادر والأسماء "التَّشنيع، آفِق، أمِيهَة، الجُشْأة، عاضِه، الهَبْر". وقد ظهر لي في غير مرة أن القولين خلاف الصواب، أعني قول ابن ولَّاد ورد علي بن حمزة عليه كما في "قطوطى"، و"الطَّلا".