العصر الإسلامي الأول هو العصر الذهبي لتدوين العلوم؛ ففي أقل من خمسين عاما من آخر الدولة الأموية إلى صدر الدولة العباسية كانت أغلب العلوم قد دُونت ونُظِّمت، خصوصا علوم الرياضة والمنطق والفلسفة وعلم الكلام.. وكان نشاط المسلمين في ذلك يسترعي الأنظار ويستخرج العجب، فقد نظم العلماء أنفسهم فرقًا كفرق الجيش، كل فرقة تغزو الجهل أو الفوضى في ناحيتها حتى تخضعها لنظامها، ففرقة تغزو الجهل أو الفوضى في ناحيتها حتى تخضعها لنظامها، وفرقة للغة، وفرقة للحديث، وفرقة للنحو، وفرقة لعلم الكلام، وفرقة للرياضيات، وهكذا، وهم يتسابقون في الغزو والانتصار وتدوين العلم وتنظيمه، تسابقت قبائل العرب في الفتوح والغزوات، كل قبيلة تود أن تكون السابقة في الميدان، ووجد في ساحة الميدان العلمي قواد بارزون يتنافسون في الابتكار، فإذا فاز أبو حنيفة بوضع الفقه، ثارت حماسة الخليل بن أحمد فيضع العروض ويرسم المنهج لمعجم اللغة.. كما قال جاء في ضحى الإسلام، ووفيات الأعيان لابن خلكان. وكان لكل علم من هذه العلوم -سواء العلوم النقلية أو العقلية منهج خاص في التأليف والبحث والدراسة.. فمنهج العلوم النقلية كان يعتمد على الرواية وصحة السند، ونجد أن المشتغلين بالحديث (المحدثين) كانوا مشغولين بجمع الأحاديث واختبار أسانيدها؛ لمعرفة جيدها من رديئها، فضلا عن دراسة الرواة لمعرفة أسانيدها ومعرفة أحوالهم ..إلخ. أما المفسرون، فكانوا يعتمدون على نقل ما روى عن الصحابة والتابعين من تفسير الآيات.. ومثل ذلك يقال في علوم اللغة والأدب، فاللغوي يروي ما سمع من العرب أو يروي ما سمع من أعرابي أو عالم، وكثيرًا ما يذكر السند مثل ما نراه في كتاب الأغاني للأصفهاني.. هذا بالنسبة للعلوم النقلية. أما العلوم العقلية، كالرياضيات والطبيعة والطب والفلك -والحديث للأستاذ أحمد أمين- "كانت تعتمد على معقولية الحقائق وامتحانها، إما من طريق المنطق، أو عن طريق تجربة الحقائق وامتحانها عمليًّا، فإذا ذكرت حقيقة فقلما يعنون بقائلها، ولكنهم يعنون بوضعها تحت قواعد المنطق، وهل من قوانينه ما يؤيدها أو ما ينقضها؟ وكذلك قد يمتحنونها عمليًّا ليرقبوا نتيجتها فيحكموا عليها بالخطأ أو الصواب.. وثمة علوم أخرى أخذت بالمنهجين كالفقه، فكثير من الفقهاء لم يعتمدوا على المنهج الأول من الاستدلال بآية أو حديث فقط، بل استعملوا الدليل المنطقي في تأييد مذهبهم والرد على خصومهم.. وهكذا. وكان لكل منهج أثر كبير في أصحابه من حيث الأخلاق العلمية والصفات العقلية، فالأولون قصروا اتجاههم على التحقق من صحة النقل، ولم يحكموا كثيرًا مقياس العقل، وكرهوا أن يصغوا إلى نقد الناقد يُحكِّم المنطق في عملهم، والآخرون أطلقوا لعقلهم العنان، ولم يشاؤوا أن يقتصروا في ذلك على دائرة أبحاثهم، بل حاولوا أن يطبقوه على علم الكلام والفقه والنحو بل واللغة، فكان التنافس المحمود بين الطائفتين"... على أية حال نقول: إن هذا التنافس والصدام لم يعطل سير الحركة العلمية ولا تطورها ولكنه أثراها، بل ظل المسلمون طوال حياتهم العلمية يعتمدون بصورة معينة على هذه الثروة التي وضعت في هذا العصر.