تفارق سهير المصادفة في روايتها الجديدة «بياض ساخن» العوالم التي رسمتها من قبل، حيث المزج بين الحكاية الشعبيّة والحكايات الغرائبيّة واللامعقول في سياق الرواية كما فعلت في “لهو الأبالسة”، أو الحديث عن المتغيّرات التي وقعت بعد ثورة يوليو 1952 مستدعية عثرات النهضة التي بدأت جذوتها في عهد محمد علي ثمّ توقفت بل وعادت إلى الوراء كما في رواية «ميس إيجبت» أو تداخل التاريخ مع الحاضر كما في «رحلة الضباع». تقدم المصادفة في “بياض ساخن” عالما تقع تخومه على الحدّ الفاصل بين العقل والجنون، متاخمة حدوده مع اللحظة الراهنة التي نعيشها عقب أحداث الثورة، فالإطار الزمني الذي تدور فيه الرواية لا يتجاوز السنة بعد الثورة، حيث الأحداث تبدأ بعد الإعلان بتنصيب الرئيس الجديد عقب الثورة، وتنتهي الأحداث مع البشائر التي كان ينتظرها أخو البطلة الضابط مجدي التوني، الذي أبعد بعد الثورة وحلّ الجهاز الذي ينتمي إليه، كما تسرد الحكاية أيضا عبر شخصية البطلة المنقسمة على نفسها بين العاقلة والمصابة بالانفصام بين لولا وعبلة. هكذا تدور أحداث الرواية مسجّلة أدق التفاصيل عن الشخصية المزدوجة في لحظات وعيها وهي تستعيد الماضي وفي لحظات جنونها، التي تجعل منها شخصية أخرى بعيدة كلّ البعد عن الرّاوية، فتقف على بعد منها، وإن كان محايثا، فترسم جوانبها المختلفة وحالات الأرق التي سببتها للأسرة في نوبات هذا الانفصال. تخلق السّاردة من حالة التقسيم التي تشكِّل بها نصها إلى عشرين فصلا بالتناوب بين لولا وعبلة، حالة من التشتّت للقارئ، فيهيّأ له أنّه أمام شخصيتين مختلفتين، لكن إزاء حالة تماهي السّاردة مع شخصية عبلة، وهي تسرد عنها بدقة وباقتراب هو ما يدعو إلى الشك، ثمّ يتحوّل الشّك إلى يقين في نهاية الرواية خاصّة في الفصل الأخير الذي جاء دون عنوان عكس الفصول التسعة عشر السابقة له، يتضح أن كلتيهما شخصية واحدة، وعندما تأتي حالة الانفصال تكون عبلة، لكن ما إن تذهب حتى تعود لولا إلى طبيعتها المتزنة. تأتي علاقة العمة فاطمة بلولا لتكون هي الدليل الحاسم على أنهما نفس الشخصية في كلتا الحالتين. في لحظات اليقظة من النوبة والوعي، نتعرّف على شخصية لولا صاحبة اللّغات الخمس، والتي تعمل مترجمة في الأممالمتحدة، وعلاقتها بزوجها سامي المتوترة، وأيضا بأبنائها الثلاثة، وعلاقتها بعمتها فاطمة التي تفتح لها بابا لاسترجاع تاريخ العائلة من ذاكرتها، فتقدّم التاريخ المنسي أو المجهول لهذه العائلة. وفي لحظات نوبتها تطوف بنا لولا وهي عارية في شوارع القاهرة، فتكشف لنا عن وجه آخر لها، يميل إلى الجانب الإنسانيّ في علاقاتها بالمهمّشين الذين ارتبطت بهم، وتعاطفها مع حكاياتهم وآلامهم. الاحتجاج بالعري لا تكشف السّاردة عن أسباب مرض عبلة بالانفصام إلا في نهاية الرواية، فتقرن بين إصابتها بالانفصام في الشخصية أو الجنون، وبين انتماء ابنها أحمد طالب بامتياز في الطب إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو ابنها من زوجها المهندس سامي الذي تدينه على طول خط الرواية ناسبة إليه انعدام الذوق في تصميمه للعمارات. شخصيات الرواية جاءت كاشفة لبعد آخر من جوانب الشخصية المصرية، التي أصبحت تعاني الهشاشة والخوف والاستسلام للمصير والإخلاص، وأيضا عرّت سلوكيات البعض كما حدث في فندق الإسكندرية حيث التجسس بالكاميرات على النزلاء، ومنها أيضا موقف الضابط معها على المحور، أو ردّ بعض الناس إزاء سلوكياتها، وكأن هذا المرض وسيلة تعرية للصورة الزائفة التي يتعامل بها البعض مع الآخر. فتتوازى عبلة مع أخيها مجدي ضابط أمن الدولة السابق، صاحب الغراميات والفتيات، في التنديد بما حدث وإن كان في التنديد به يذهب إلى وجود مؤامرة، ومع حالة اعتكافه في البيت إلا أنه كان مصرّا على استعادة هيبته، من خلال الاتصالات التي كان يجريها مع أصدقاء، توّجت في النهاية بأحداث 30 يونيو، دون إشارة صريحة. تعرية لسلوكيات البعض تنوّع السّاردة في الشريط اللغوي بين الفصيح الذي هو سمة لازمة للسّرد، والعامية الملاصقة للواقع في حواراتها، وإن كانت العامية تكتب في بعض الأحيان وفقا لقواعد الفصيح، وهو ما أفسد طبيعتها. يتميّز السّرد بالاعتماد على التشبيهات التي جاءت جميعها لتعكس ثقافة الكاتبة بخصائص الحيوانات وطبائعها، وتغلب هذه الأوصاف على وصف طبيعة البشر “تمشين طول… وكأنك طرزان”، وتشبّه عبلة أثناء نومها بالزرافة، ومنها أيضا قولها “تجري في الظلام بمهارة وطواط”، وتشبه رئيفة هانم عند إنجابها ب”النعامة التي تنجب في الخمسين” والعمّة فاطمة تقول عن أم لولا إنها “مثل الجمل لا تنسى من ظلمها أبدا”. إلى جانب التخييل فإن الكاتبة تعمد إلى بثّ معلومات حقيقية ومعارف لها مرجعية علميّة على طول خط الرواية، وهو ما أعطى مذاقا جديدا في المراوحة بين الأدبيّ والعلميّ داخل نصّ قوامه التخييل، فيميل بالسّرد في أحد جوانبه إلى السّرد المعرفي، كأن تسرِد عن طبائع الحيوانات وأسرارها، مثل أن العنكبوت له ثماني أعين، أو أن عدد ساعات نوم الزرافة 3 دقائق، وعن طبيعة النسور أنها لا تموت وإنما تنتحر واقفة، ومنها أن الحيّات لا تطيق رائحة الشيح، والنمل لا ينام والتماسيح لا تستطيع أن تحرك ألسنتها. وهناك أيضا من المعلومات التي تأتي كنوع من تصحيح لأخطاء رائجة كأن تورد أنّ من كسر أنف أبا الهول هو رجل دين اسمه “محمد صائم الدهر” وليس كما نسب إلى بونابرت، وأوّل من قسّم أيام الأسبوع إلى سبعة أيام هم البابليون، وليس إلى عشرة أيام كما هي عند الفراعنة. لا ينفصل البعد السياسيّ عن الرواية على الرغم من أنّها نحت في مسارات سوسيولوجية وأيضا نفسية، فمنذ بداية الرواية تقدّم الكاتبة إدانة كاملة لجماعة الإخوان المسلمين، واستغلالهم الثورة والشباب لتحقيق مجد لهم، بل لا تقتصر الإدانة على هذا، وإنما تضع شخصية ممثلهم الذي وصل إلى الحكم بانتخابات، موضع انتقاد دائم، ويصل الأمر إلى التشكيك في نجاحه، حيث تشير إلى الفارق الضئيل بينه وبين المرشح الثاني، كما تدين حملة الإسراع في إعلان نتائج الانتخابات من قبل جماعته، كنوع من المصادرة على قرار اللجنة، أو من قبيل استغلال الإخوان لشباب الثورة ليكونوا في الواجهة، لكن أخطر هذه الاتهامات تكمن في أن سبب مرض عبلة مرجعه انضمام ابنها إليهم قبل الثورة. انتهت الرواية بفصل كاشف للشخصية، عادت فيه عبلة إلى طبيعتها، وهي في المستشفى، وإلى جوارها العمة والأبناء الثلاثة، في إشارة إلى أن عودة عبلة ارتبطت بعودة مصر، بعد أن عادت لها هويتها على نحو ما رأت المؤلفة.