ستتواضع طموحاتي في هذا السرد. على أن أقبض على هذا السيل من الأفكار وأن أحكي محبة لأصدقائي الذين أصدع رؤوسهم بالأفكار العظيمة التي لاتخرج عن حدود أذنّي، لا ليست أفكاراً لفيلم تسجيلي أو لرواية، بل مجرد مقال لقراء سينسون سريعا هذه الجولة أو ينفضون أيديهم وهم يلهثون خلف أسماء شوارع ومناطق وحيوات لاتمسهم مكانا أو زمانا. لكن فلتطيعوني قليلا ولتستسلموا لهذا الدفق، فأنتم وحدكم الجديرون بهذا الهوس التفاصيلي. مالي أحدث ضميرا جمعيا غائبا. هذا إفتراض وقح بثمة إمكان أن يكون هناك واحدا واحد، فأنا لم أصدق في المرآة ذلك الصباح أني ذاك الواحد الذي يختار ملابسه المتواضعة إستعدادا لرحلة على هيئة قوس واسع في مدينة القاهرة. المهمة هي زيارة كبرى أخواتي تهنئة لها بالحمل المتأخر. هي تسكن في طرف خارجي لمحافظة القليوبية (شمال القاهرة) أسفل سلم أسمه «حسنين» يلي سلم شهير قبل نزلة مسطرد على الدائري أسمه «أم بيومي». ومنذ ركوبي ميكروباص الدائري من ميدان الرماية (غرب الجيزة) وسلم السيدة أم بيومي الواقعة على قطر ثلاث محافظات سيعبر بها الميكروباص حاضرا على لسان راكب عجوز يسأل عن أجرة التوصيلة محلفا السائق ألا ينسي تنبيهه قبل «أم بيومي» بقدر كاف. ما حاولت الملابس المتواضعة إخفاءه فضحته علبة حلويات «مونجيني» الملونة التي حملتها كأخ كبير من المفترض ألا يدخل على شقيقته «بإيد فاضية». فضحتني برجوازية العلبة وحرصي عليها الذي كلفني نظرة حاقدة من السائق لإصراري الجلوس بها في ممر العربة معطلا النازلين والطالعين في مسيرة الإنسلال بخفة. الطريق الدائري الذي يحيط بالقاهرة الكبرى كالمعصم من الخارج يبلغ طوله 42 كيلومتراً، يمر على الأطراف الخارجية لثلاث محافظات تشكل سويا إقليمالقاهرة الكبير، الجيزةوالقاهرةوالقليوبية، في أطرافها الشمالية الجنوبيةالشرقيةالغربية البعيدة، والتي كانت منذ عشر سنوات فقط أراضي زراعية هي الباحة الخلفية للعاصمة، تدور عليها مشاريع التصنيع والتجارة الرثة الخدمية لمدينة معصورة. ومع الإزاحة الطبقية والمعاملاتية للأجيال المدينية الجديدة تغوّل الطوب الأحمر في تلك المساحات وباتت كتلة لابأس بها من عمالة المدينة الرثة تسكن المناطق أسفل الدائري. العائلات الفقيرة في الثمانينيات والتسعينيات في أحياء كبولاق وشبرا وإمبابة والمطرية (تركيبة عشوائيات التحضر المديني في سبعينيات القرن الماضي بإصطلاح العالمة جليلة القاضي) تحول أبناؤهم من ورثة الفقر لسكنى الهامش الخارجي للإمتدادات الزراعية. إنتقل أهالي إمبابة إلى ترسا وظهير فيصل. ابناء المطرية ذهبوا لأم بيومي وبهتيم وضواحي شبرا الخيمة.هكذا خرجت كتلة سكانية كبرى للحراك خارج العاصمة بمنطقها القديم. أجيال بالكامل لاتعرف وسط البلد ولا تتخذه مزارا أو محطة للإنتقال. يطوف الآلاف يوميا عبر الدائري من خارج المدينة إلى خارجها دون أن يلمسوا روحها، الآف يتنقلون عبر وسائل النقل الجماعي الطائرة أو الزاحفة على ذلك الثعبان الأسمنتي الذي وصلهم أخيرا بمناطق الصناعة والخدمات على أطراف المدينة. المشهد جبار عندما تنطلق من أمام سفح الهرم فجأة لتمر فوق النيل الباذخ في الوراق، من طريق القاهرة الصحراوي وطريق الفيوم الصحراوي وطريق الواحات الصحراوي لتمر على طريق الإسكندرية الزراعي فالإسماعيلية الزراعي فالإسماعيلية الصحراوي فالسويس الصحراوي إتصالا ودون إنقطاع. تدرك لا محالة وجود ذلك العقل المستتر المشكل لحيوات الملايين على خريطة، كيف أنه، وبالقلم الرصاص، في ليلة، إتخذ قرارا بمصير أخيلة وثقافة وعلاقات إجتماعية وإقتصادية بجرة قلم مركزية. تسكن أختي بعد سلم أم بيومي. سائق الميكروباص الذي لم يحرك ناظره المسطول عن علبة الحلويات الشهية على ساقيّ، سائق الميكروباص الذي لايسمح بالتدخين فيما هو يدمن «البرشام»، المستمع إلي تأوهات»محمود الليثي» بطل أغنية السيجارة البني الشعبية الشهيرة، سخر مني وأنا أتلعثم بإسم السلم. أنزلني أمامه ليتسلمني مشهد الحقل الممتد والمهجور المنبسط أسفله. السلم منحوت في قلب الكوبري الكبير إبداع أهلي صميم. لنحو كيلومتر تسير داخل ممر ترابي يقسم هذا الحقل الذي تعفنت نباتاته. في الطريق تشم رائحة روث البهائم الريفية التي تعيدك لريف الصبا. أستمع لروك القصبة لرشيد طه ميمما وجهي شطر العمائر الطوبية التي تمتد كنصل بارد في نهاية الأفق. تسكن»سلوى» في ظهر الصف الأول لهذه العمائر. في زيارتي الأولى والوحيدة لها بعد الزفاف إنتقلت عبر خمس وسائل مواصلات لتصميمي الوصول إليها عبر مركز المدينة، وان أستسلم لقدر «مزاج القلم الرصاص القمعي» راكبا قوس الدائري الكامل لهو إكتشاف متأخر بأخيلة غربتي عن المدينة، المدينة كما أعرفها في تاريخ عائلتي القاهرية. أنا هاني درويش، إبن قرن من عشوائية المدينة كما أقرأها في كتاب «التحضر العشوائي « لباحثة المدينة والعمران جليلة القاضي. كنت أتخيل قبل قراءتي لكتابها الصادر حديثا عن المركز القومي للترجمة ودار العين أني فقط ومع أخوتي أعراض لعشوائية الجيل الأخير من أسرة مهاجرين على نمط أول القرن. في كتابها الرائع تكشف أن عائلتنا القاهرية (من ناحية أمي) لم تسكن يوما إلا العشوائيات عبر قرن من الزمن، حضر جدي لأمي من قريته في وسط الدلتا(بعد أن إستقر أبوه إبن الهجانة المصري السوداني في قرية وأحب وتزوج من فلاحة) إلى القاهرة متطوعا في الحرس الملكي. إشتري في جنوبالقاهرة «خرطة» من خرط منطقة «سيدي التونسي»، على حدود مقابر القاهرة. فعليا إشترى جدي مقبرة وبني عليها بيته العائلي ليتكون حي التونسي النظامي على مقابر الصدقة الشهيرة. تقول جليلة القاضي إن نمط إسكان المقابر في بداية القرن العشرين هو البداية الحقيقية لعشوائيات القاهرة القديمة وتضرب نموذجا- أنظر للحظ- بحي التونسي الذي ظهر للوجود في عام 1917. بالمناسبة جدي محمد الصادق إبراهيم هو من مواليد هذا العام. وتكمل جليلة أن هذا النمط تزامن مع نمط آخر عشوائي ظهر في سكن مهاجري الريف المنازل الكبيرة في أحياء القاهرة الخديوية الشعبية، حيث استولت عائلات مهاجرة على بيوت كبيرة في أحياء الخليفة والسيدة زينب وباب الشعرية والجمالية بعد أن هجرتها عائلات تجار نهاية القرن التاسع عشر. كانت كل عائلة تسكن غرفة وتتشارك مع باقي العائلات حماما مشتركا. في أحد هذه البيوت بحي الخارطة في جبل القلعة سكنت أخت جدي أم سليمان التي ربت أمي اليتيمة في غرفتها بدرب الخرطبلي، وفي هذه الغرفة ولدت أنا في العام 1974. قبل أن تتوه عزيزي القارئ ، وكي تصدق صدمتي أصبر قليلا. فأمي من مواليد عام 1951، وهو بالصدفة العام الذي ترصد فيه جليلة القاضي بالأرقام والإحصائيات دخول الموجة الثانية من عشوائيات القاهرة الممثلة في ظهور حي المطرية في شرق القاهرة. ولتكتمل المصادفات الرائعة، يتزوج أبي المهاجر من نفس قرية أمي في الستينيات (هاجر مراهقا إلي القاهرة في عمر 16 عاما ليعمل في شركة قطاع عام للتشييد والبناء) من جارته الحسناء التي تسكن حي الخارطة بالقلعة. بعد فترة خطوبة طويلة تزوجا في حي المطرية الناهض حديثا والمخطط على قاعدة تصنيع ثورة يوليو في عام 1972. هل تذكر عزيزي القارئ أني من مواليد العام 1974 وأن أمي ولدتني في غرفة جدتي ، تذكر التاريخ فقط، فجليلة القاضي ترصد الدفعة الثالثة من عشوائيات القاهرة في نفس هذا العام (1974) وتعطي نموذجا له بأحياء عين شمس والمرج وعزبة النخل، والأخير أي عزبة النخل ستنتقل له أسرتنا المنهارة طبقيا عام 1987. أنا إذن أبن قرن من عشوائية مدينة القاهرة. في عمر الخامسة والثلاثين وبعد الآف المعايرات للمهاجرين بأصولهم الريفية، أكتشف أنني لم أكن يوما قاهريا لا بالميلاد ولا بالوراثة، أو أن مدينة القاهرة في تمددها الأخطبوتي قد غيرت جلدها مئات المرات ونزعت عني شرف المدينة. (ملحوظة؛ لا تحزن رفيقي القارئ، سأرفق المقال بخريطة توضيحية للمسارات الحياتية السالفة) لنبدأ الحكاية من نصف فصلها الأول، عود على بدء. تسكن أختي شارعا عرضه نحو خمسة أمتار وأسمه خالد بن الوليد. الشارع مظلم فالبنايات تصل للدور الثامن دون شريحة سماء كافية ودون مصعد. على السلم يطبع كل شخص هويته الدينية في شكل منحوتات وكلمات للتبارك على أبواب الشقق. الألوان مبهرجة ومتباينة وفقا لدرجة إنحطاط الذوق من دور إلى آخر. صلبان وصور للعذراء أمام آيات قرآنية، بل أن أختي التي تعمل في مجال حقوق الإنسان والتنمية تهرول في شقتها فيما ثلاث قراءات قرآنية تصدح كخلفية، أولها من تلفزيون قناة الناس الذي يدور بلا مشاهدين، ثانيها من راديو إذاعة القرآن الكريم في المطبخ لطرد الأرواح الشريرة (فهي تتركه شغالا حتى وهي خارج المنزل)، والثالث مشغل الكاسيت بتلاوة سعودية متباكية. أختي التي حصلت على إجازة لمراعاة حمل مشكوك في إكتماله (نتيجة عيب خلقي) تزوجت من شاب رائع كان أبوه يعمل في مصنع ياسين للزجاج في شبرا الخيمة، مفخرة ستينية أخرى، حماها مهاجر صعيدي بكي في عرس أصغر أبنائه، الزوج يعمل في هيئة الإنتاج الحربي. إنتقال أسرتهم من الصعيد لشبرا لضواحي الدائري مر في دائرة قطرها كيلومترات قليلة، ولكنها تعمر بالحنين المتأسي على إنهيار طبقي وحمد وشكرانية على تمرغ العائلة في بواقي تراب الميري الستيني. تدور سلوى عكس عقارب زوجها في رحلة الدائري، هو يتجه شمالا شرقيا إلى مدينة السلام وهي تكمل إلى حلوان عبر القطر الدائري الآخر. وهي وزوجها لا يعرفان مصير طفلهما في تركة الدائري المستقبلية. أخرج من عندها بالطرق القديمة فأرصد كيف أمتلأت الفراغات بين الأحياء من الداخل، فصغيرا، حين كنت أسكن حي المطرية، كان شرق الحي المنتهي عند ترعة الإسماعيلية هي أدغال الزراعات، الآن أجيء من شرق شرقه قاطعا أعلى الترعة عبر أحياء لكل منها وسط بلدها الخضاري. شارع شركات البترول (لاحظ التسمية زمن الخلاء) تحول إلى شريان طويل حضاري ملتحم يربط الضفة الغربية لمحافظة القليوبية بالضفة الشرقية لآخر أحياء القاهرة شرقا. في الشارع الطويل امتدت أبراج سكنية أكثر تحضرا عشوائيا-بتعبير جليلة-من ضفاف أختي المجاورة للتاريخ الزراعي. أتأمل راكبا الميني باص الكبير عبوري على أحياء ولدت من العدم، ومحل للنظارات الشمسية «مجدي وفاروق» يردم الشارع الكبير إعلانات كل خمسة أمتار. ثمة حيوات وتجارة وركاب ووجوه في المربعات المتتالية. لكن كيف إحتل هذا المحل وماذا يبيع من نظارات شمسية لمن هم تحت خط الفقر هنا- كل هذه المساحة، أتخيل كم دفع للسلطات المحلية ثم أري الحل بعيني. تنتهي الإعلانات أمام المحل بيافطة عملاقة بإسم المحل تحتوي صورة الرئيس مبارك وجملة»سلامتك ياريس» تليها إشادة بالمحافظ وقائمة من القيادات الأمنية. الرحلة تتواصل عبر ميكروباص آخر فمترو الأنفاق من محطة غمرة. لم أكن اتخيل هذا الترابط المواصلاتي بين أحياء أسمع عنها فقط في صفحات الحوادث اليومية. لا وجود للمواصلات العامة. فقط ميني باصات وميكروباصات وتكاتك(جمع التوك توك الباكستاني الشهير). اصل دائخا إلى قلب العاصمة في وسط البلد الأصلي، أصعد لعمارة الخيديوي الشهيرة في شارع عماد الدين. عمارة يمتد تاريخها لنحو قرن ونصف ويقع بها نادي طلاب الجالية اليونانية بالقاهرة، أسأل عن طريقة حجز النادي لحفل خاص ليلة رأس السنة. بالمناسبة كنت أدخل هذه العمارة صغيرا ففيها فرع لشركة والدي جرى بيع شققه لاحقا بعد خصخصة الشركة. أبي مات وعاد جسده للبلد في قلب الدلتا. أنا دائخ ومنهك من طول التجوال الذي لا أعرف أين سينتهي. لن أرسل جسدي للأرياف، لكن حتى القاهرة بت لا أعرفها ، منك لله يا جليلة القاضي، كان يكفيني الوهم لحياة أخرى. أين يمكن أن أضع رأسي بعد كل هذا العمر؟ عن المستقبل