مايدهشني حقا أن كثيرين يخشون أن يقفوا أمام انتشار النقاب، بل ويذهب الأمر إلي حد أن المحكمة الإدارية العليا تدين المؤسسات التي تمنع دخول موظفيها أو المستفيدين منها بهذا الرداء لا أستطيع أن أتصور أن إرتداء النقاب، وإخفاء الهوية حق من حقوق الإنسان، وصيانة لحرية العقيدة، وذلك ببساطة شديدة لأنه لا يمكن أن يكون هناك حق إنساني أو ديني في أي مجال يبيح التعدي علي حقوق الآخرين، ويهدد أمنهم . وفي هذا المجال أنا لا أناقش الزاوية الدينية أو الفقهية، ولكنني فقط أثير حق المجتمع في التعرف علي هوية من يتعامل معهم. إذا كانت هناك أستاذة جامعية تحاضرفي قاعة للمحاضرات فإن من حق الطلبة أن يتفاعلوا معها ويروا تعبيرات وجهها، وهذا جزء لا يتجزأ من العملية التعليمية، وإلا لكان من الأفضل أن يمكثوا في بيوتهم ويقرأوا كتبهم دون التواجد في قاعة المحاضرات. ومن ناحية أخري، فإنه من حق الأستاذ أن يقرأ في وجوه الطالبات تعبيراتهن ويتفاعل مع هؤلاء المندهشات، أو أخريات متثائبات، أو غيرهن من المتحمسات .. إلخ ، ذلك أن الطلبة هم الذين يلهمون الأستاذ ويساعدونه علي إجادة دوره فكيف له أن يؤدي مهمته مع طالبات متنقبات. وهكذا دواليك في كل الأعمال الأخري. مثلا إذا كانت المتنقبة ممرضة، فكيف يمكن للمريض أن يشعر بالإطمئنان وهو لا يعرف هوية من ترعاه. إن من حق المريض أن يتعرف علي من تعطيه الدواء ويري ملامحها. كيف لمريض أن يأخذ دواء من إنسان لا يعرف هويته، وكيف له أصلا أن يتيقن من أنها الممرضة المعينة وليست إنسانا آخر يدعي ذلك لسبب أو لآخر؟ إن هذين المثلين غاية في الوضوح بالنسبة لحق الطالب والمريض، وكذلك من حق كل إنسان في الطريق أن يتعرف علي هوية من يسير بجانبه، أو يركب معه القطار أو الأتوبيس أو أي نوع من أنواع المواصلات. إن انتشار النقاب بهذه الصورة المتزايدة، والدفاع عن حق اختيار المرأة لما تحب أن ترتديه يخرق حقوقا أخري، ويهدد الأمن. ولقد كتبت سابقا أقول أنه في مدينة يبلغ سكانها الملايين من البشر، يمكن أن يكون النقاب وسيلة لتفشي الرذيلة، والسرقات، والعنف بمختلف أنواعه. والمناقشة هنا ليست هجوما علي المنتقبات، فلا شك أن الكثيرات منهن من يردن أن يتقربن إلي الله، ولكن ليس معني هذا أنه من أجل هذه النسبة من السيدات، يسمح لكثيرات أخريات أن يستخدمن النقاب من أجل كثير من الجرائم. وليست هذه هي الوسيلة الوحيدة للتقرب إلي الله، ولا أريد أن أدخل في جدل عقيم عن أهمية النقاب دينيا، ذلك أن من يفترض أن النقاب ضرورة دينية، فإنني أعتبر أن هذه هي حريته الفكرية، حتي ولو لم أتفق معها. وهناك الكثير من الأحاديث والرؤي الفقهية التي لا تري في النقاب فضيلة أو فريضة بقدر ما كانت عادة. وفي كل الأحوال فإنني علي يقين أن الدين _ كل الأديان _ قد جاءت لخير الإنسان، وأن أي أسلوب في الحياة أو طريقة في التفكير تبخس من حق الإنسان _ رجلا كان أو امرأة، فلا بد أنها نتاج قراءة خاطئة أو رؤية غير واضحة، وأن أي ممارسة بها تهديد للأمن لا يقرها الدين. أقول قولي هذا وأريد أن أذكر في هذا الصدد تجربة لإحدي طالباتي التي أثارت موضوع النقاب في صدد الحديث عن الثقافة وكيف تؤثر علي البناء العقلي الذي نري به العالم. لقد مرت هذه الطالبة بتجربة جديرة بالاهتمام، وكشفت لي أمورا لم أكن علي دراية بها. أولا علمت أن هناك دعاة في مختلف أنحاء مصر، يتخذن من الجوامع مراكز لبث فكر يقوم علي إرهاب المسلم، تحت زعم عقاب الله، ويؤكد علي ضرورة النقاب باعتباره فريضة ودونها فإن النار تكون بئس المصير. كما تبين لي كذلك أن هناك خلايا من البنات يقمن بدعوة زميلاتهن إلي إرتداء النقاب. النقاب إذن هو رمز لهذا التشدد الذي يصحبه دعوة إلي ترقب عذاب الآخرة في كل خطوة، والخوف من كل عمل عسي أن يكون فيه خطأ، وهو ما سيؤدي بشبابنا إلي فقدان الثقة بالنفس، والتردد، والانسحاب من الحياة، والقلق الدائم، وغيرها من المشاعر التي ستفقده تحمسه للحياة، وتطلعه إليها. ثانيا: اكتشفت ان القنوات الفضائية تؤثر تأثيرا قويا علي شبابنا، فلقد وضحت لي طالباتي أن كثيرا من القنوات لا هم لها إلا الحديث عن الفتنة بين الجنسين، وضرورة إرتداء النقاب، وهو ماشجع الكثيرات علي إرتداء هذا الزي، ولا عجب أن أعداد المنتقبات في تزايد مستمر، وأخشي أن تصبح هذه النسبة هي النسبة الغالبة. تعرضت الطالبة المذكورة لهذه الدعوة ، ولكن هذه الطالبة لم تستسلم لما يقال لها. قالت لي أنها قد تأثرت في بداية الأمر مثل غيرها من الفتيات، وإرتدت النقاب، ولكن أصابها حال من الإكتئاب، بالإضافة إلي أنها شعرت أن هذا الزي لا يتناسب مع الحركة، أو الراحة الجسمانية والنفسية، مما جعلها تعيد التفكير فيما تستمع إليه. كانت تتحدث بحماس منقطع النظير وهي تقول أنها قد أصبحت الآن قادرة علي أن تدحض كل إدعاءاتهم، وتستكمل حديثها : "ذلك أنني عندما قرأت في الكتب المختلفة وجدت أن الإسلام قد أعطي الإنسان الأمل في هذه الحياة. الله سبحانه وتعالي أخفي علينا وقت الموت، حتي نظل نحلم ونتطلع إلي المستقبل، وإلا لتوقفنا عن الحلم والأمل. فلماذا يملأوا قلوبنا باليأس والإحباط، ويجعلونا لا نفكر في الحياة، بل نفكر دائما في الموت ويعتبرون أننا نعيش في سجن، لأن الدنيا بالنسبة لهم ما هي إلا سجن كبير. بل إنهم يسجوننا بالفعل في فكرهم". وتقول بكل ثقة: "أنا متأكدة الآن من طريقي وأعرف جيدا ماذا أريد أن أفعل، لأنني صممت أن أستخدم عقلي وأن أفكر في الدين أنه لخير البشر وسعادتهم". إن هذه الفتاة مثل أقرانها من البنات ترتدي غطاء للرأس، وجهها خال من المساحيق، ولكنها بشوشة وضاحكة، مع بعض الألم الخفي الذي يكتسي ملامحها، وقد يكون هذا لأسباب خاصة بها، أو يكون نتيجة لما مرت به من تجربة. ولكن السؤال هو كم فتاة يمكن أن تتحلي بهذه الشجاعة وأن تختار لنفسها وتفكر بعقلها. إن هؤلاء الدعاة الذين يتحدثون بإسم الله يضعون من أنفسهم آلهة، ولا يتركون حتي مجالا للإختلاف في الرأي معهم، وهو ما يهدد مستقبل هذا البلد إذا ما استمر هذا الفكر ينتشر بهذه الصورة. ولكن مايدهشني حقا أن كثيرين يخشون أن يقفوا أمام انتشار النقاب، بل ويذهب الأمر إلي حد أن المحكمة الإدارية العليا تدين المؤسسات التي تمنع دخول موظفيها أو المستفيدين منها بهذا الرداء، ففي الحكم الصادر ضد مجلس إدارة الجامعة الأمريكية بمنع دخول المنتقبات الجامعة، تصدر المحكمة الإدارية العليا حكمها في 9 يونيو 2007 جيء في ديباجة الحكم ما يلي: " النقاب غير محظور شرعا وإنما هو زي مباح للمرأة ارتداؤه وفقا لما تراه تجسيدا لحريتها الشخصية والعقيدة ولا يجوز لأية سلطة أن تمس هذه الحرية وتلك العقيدة". وفي نفس الوقت فإن المحكمة الدستورية العليا، قد أصدرت حكما مختلفا قبلها بعشرة أعوام في سياق آخر، حيث أن قرار منع الطالبات المتنقبات صدر بقرار من وزير التعليم حينئذ، وبعد قيام دعوة قضائية ضده، أحيل الأمر إلي المحكمة الدستورية العليا التي بينت أن عدم إرتداء النقاب أصلح للمجتمع، حيث جاء في هذا الحكم هذه العبارة : إن إلزام المرأة إخفاء وجهها وكفيها وقدمهيا عند البعض، لا يكون تأويلا مقبولا، ولا معلوما من الدين بالضرورة، ذلك أن معني العورة المتفق عليها لا يتصل بهذه الأجزاء من بدنها، بل إن كشفها لوجهها أهون علي إتصالها بأخلاط من الناس يعرفونها ويفرضون نوعا من الرقابة علي سلوكها، وهو كذلك أكفل لحيائها وغضها من بصرها وأصون لنفسيتها، وأدعي لرفع الحرج عنها". ومع تحفظي علي بعض التعبيرات في هذا النص، إلا أنه يتفق تماما مع ضرورة الحفاظ علي أمن المجتمع، وصلاح حاله. ومع ذلك فإن المحكمة الإدارية العليا عادت مرة أخري القهقري، إذ حكمت لصالح الطالبات المتنقبات بعد أن منع عمداء بعض الكليات الطالبات المنقبات من دخول إمتحان الترم الأول يناير 2010، وجاء في حيثيات الحكم النهائي الذي أعلن في 20 ينايروهو حكم غير قابل للطعن: "عدم شرعية قرار رؤساء جامعات القاهرة وعين شمس ووزير التعليم العالي بشأن حظر دخول الطالبات المنتقبات المحاضرات أو الإمتحانات بالنقاب". وأما الأمر المؤسف حقا هو أن يوقف رئيس جامعة القاهرة عن عمله لتصديه لظاهرة النقاب في جامعته. إلي أين نحن ذاهبون؟ هل نحن متجهون إلي الأمام، أم إلي الخلف؟ وأين حكم المحكمة الدستورية العليا الذي لم يحترم؟ ولماذا يتناقض حكم المحكمة الإدارية العليا مع حكم المحكمة الدستورية ومع متطلبات الأمن في المجتمع ؟ هل نحن حقا في القرن الواحد والعشرين؟