تمثل عملية التنمية بمفهومها الشامل كلمة السر أو مفتاح الحل وربما سبب الأزمة في سودان ما بعد الاستفتاء المرتقب علي انفصال الجنوب في 9 يناير المقبل، سواء جاءت النتيجة لصالح الانفصال أو لصالح الوحدة. وسواء حدث هذا أو ذاك سيعاد طرح إشكالية التنمية وفقا لأطر مختلفة وأسس متباينة تنطلق من حقائق جديدة قد تفرض علي أرض الواقع بعدما يصل قطار نيفاشا للسلام إلي محطته الأخيرة. وتمثل المناطق الثلاث وهي أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق أو ما تُعرف بمناطق التماس مع الجنوب، المحور الأبرز في هذا السياق باعتبار أنها ستكون الأكثر تأثرا بالأوضاع الجديدة. وإذا كانت أبيي الغنية بالنفط قد حددت طريقها تقريبا عبر التحكيم الدولي ومنح أهلها حق التصويت علي مصيرهم، فإن جنوب كردفان مثلا -وهي صاحبة أطول حدود مع ولايات الجنوب- حصلت علي ما يعرف "بالمشورة الشعبية" التي ستحدد الموقف من اتفاقية نيفاشا عبر مفوضيات برلمانية ربما تنتهي بمفاوضات مع الحكومة المركزية. وستبقي الأوضاع الاقتصادية لولايات التماس عرضة لمزيد من الاضطراب بسبب التداخل الجغرافي والسكاني، إضافة إلي تمازج ثقافي لافت. وبرأي الباحث في مجال التنمية الاجتماعية والبشرية الحاج حمد محمد خير فإن مشروعات التنمية التي تتم في الجنوب -الذي حسم توجهه نحو الانفصال- لا طائل من ورائها، لهذا يطالب بتحويل هذه المشاريع إلي ولايات التماس ومناطق النازحين حول الخرطوم، حتي تكتسب المصداقية اللازمة. ويشير محمد خير إلي أعداد متزايدة من النازحين من بؤر التوتر خشية اندلاع مواجهات، ويعتقد بأن أغلبهم اختار الهجرة الداخلية بدلا من التوجه إلي دول الجوار، حيث يتعرض كثيرون منهم -كما يقول- للتجنيد الإجباري في صفوف قوات حكومية وأخري متمردة. كما يري أن تعثر التنمية جعل الكثيرين يشعرون بالظلم والتهميش، بما يدفع بعضهم للانخراط في أوساط دعاة الانفصال. بدوره يشير عضو وفد الحكومة لسودانية لتحكيم لاهاي محمد عثمان السماني إلي ضرورة توفير بدائل تنموية حقيقية للقبائل التي ستتضرر حتما جراء ترسيم الحدود السياسية. وهنا يشير السماني إلي أن واضعي الحدود السياسية لم يأخذوا في اعتبارهم حركة الرعاة جيئة وذهابا خلف المطر والمرعي، دونما الانتباه إلي أي فواصل أو حدود. وبرأيه أيضا فإن السودان بأسره يحتاج إلي تنمية شاملة، فهناك مناطق في الشمال "لا تقل فقرا وتخلفا عن مناطق بولايات التماس أو بالجنوب". ويحذر السماني من تجاهل عملية التنمية، مشيرا إلي أن هذه المناطق تبقي مفتوحة علي احتمالات كثيرة لما فيها من تعقيدات قبلية كثيرة تجعلها عرضة لمزيد من التوتر. كما أن قرب جنوب كردفان من دارفور مثلا يفتح الباب أمام تساؤلات عن احتمال امتداد التمرد وظهور أوراق ضغط أخري، مع استغلال حالة الامتداد والتمازج القبلي بين الجانبين. ويعتقد السماني أن الحلول التنموية يجب أن تكون الخيار الأول، فالعمل العسكري "سيزيد الأمر تعقيدا"، خاصة مع انفصال الجنوب المحتمل. وهنا تجب الإشارة إلي أن ثمن انفصال جنوب السودان عن شماله سيكون غاليا للجنوبيين وسيكلفهم التنازل عن بعض ثروة البترول للشمال. كما أن خطوط أنابيب هذا البترول تمر عبر الشمال الذي يقدر قيمة هذه الثروة كرافعة اقتصادية أساسية، الأمر الذي يستلزم الدخول في مفاوضات جادة وحقيقية بين الشمال والجنوب لتجنب فتح أبواب جديدة للصراع. وفي هذا السياق تبرز قضية تقاسم الثروة وتحديدا الموارد البترولية، وهي من أكثر القضايا تعقيدا كما يقول الدكتور حسن محمد نور أستاذ الاقتصاد بجامعة النيلين. وإلي جانب تقاسم الثروة، تبقي قضايا الإحصاء وترسيم الحدود تضاف إلي عوامل التوتر والخلاف. ويحذر محمد نور من "انفراد" شريكي الحكم بالقرار، مشيرا إلي أن ذلك سيؤثر علي مستقبل السودان بدولتيه وعلي أنظمة الحكم والنظام السياسي بالبلدين في حال الانفصال. كما يحذر من مخاطر إقليمية إذا امتدت عدوي المطالبة بالانفصال تحت وطأة الضغوط الاقتصادية لتشمل الجوار الأفريقي، باعتبار أن الأمر قد يشكل سابقة تصلح للتأسيس عليها إذا توفرت قوة الدفع إقليميا ودوليا. وتمثل جنوب كردفان إحدي بؤر التماس مع الجنوب والمرشحة لمزيد من التوتر، ويخشي سكانها تحول الولاية إلي ساحة حرب ومواجهة جديدة بين الشمال والجنوب. يذكر أن مساحة جنوب كردفان تبلغ نحو 82 ألف كلم2، ويقطنها أكثر من مليوني نسمة، وهي تقترب من المركز الجغرافي للسودان، وتتمتع بأرض مطرية خصبة، كما أنها من أولي المناطق الشمالية التي تأكد وجود البترول فيها. وباستثناء القطن، يعتمد السكان علي الرعي بشكل أساسي رغم خصوبة الأرض، حيث تغيب المشاريع الزراعية فضلا عن عمليات تأميم لصالح الحكومة وحروب ونزاعات قبلية متتابعة فاقمت سوء استغلال الأراضي وجعلتها من المناطق الأكثر فقرا. يشار إلي أنه في حال عدم حسم خلافات الحدود وتقاسم الثروة وتحقيق المشورة الشعبية لتطلعات أهالي جنوب كردفان والنيل الأزرق، فإن عدة ملايين من سكان تلك المناطق الملتهبة قد يجدون أنفسهم إذا انفصل الجنوب ضائعين بين حكومتين ودولتين متنافرتين، لتبقي التنمية كلمة السر في المرحلة المقبلة.