يوم الجمعة قبل الماضي أدركت لماذا تحولت قناة "الجزيرة" إلي "بعبع" يطارد الإعلام الرسمي المصري، وأصبحت بمثابة الهاجس المخيف الذي يؤرق هذا الإعلام، ليس علي الصعيد السياسي والاخباري فقط، وانما علي الصعيد الثقافي أيضاً؛فالقناة التي أشاعوا أنها مجرد "علبة كبريت" تتحرك بخطي وئيدة، وتنجح يوماً بعد الآخر في استقطاب شرائح عديدة من المشاهدين العرب بوجه عام، والمصريين علي وجه الخصوص بقدرتها الفائقة علي معالجة موضوعاتها بعمق ورصانة والمام كاف بكل القضايا التي تطرحها، بدليل الحلقة التي قدمتها يوم الجمعة عن "الرقيب"؛فعلي عكس الشائع والمعتاد في البرامج المصرية التي تُقدمها القنوات المصرية، الحكومية والخاصة، لم تتوقف عند "الرقابة" بمفهومها الضيق، وانما انطلقت لتتناول دور "الرقيب" في الصحافة والسينما والانترنت وأدركت حجم المتغيرات الراهنة والثورة المعلوماتية، فتوقفت عند "رقيب الانترنت"، ثم فاجأتنا بالحديث عن ظاهرة "رقيب المطبعة"، الذي جاء كنتاج لحمي التطرف التي اجتاحت المجتمع المصري في الأعوام الأخيرة، وأدت كما قال بجرأة الكاتب الصحفي خالد السرجاني، إلي تكليفهم من قبل بعض رؤساء الهيئات المسئولة عن النشر في مصر إلي فرض رقابة علي الكتب والإصدارات، وكتابة تقارير عما تتضمنه، وابلاغها لرؤسائهم للعمل علي مصادرتها قبل الطبع، بحجة تدارك المشاكل التي يمكن أن تنجم عن خروجها للنور، وقد تتسبب لهؤلاء "الرؤساء" في مشاكل هم في غني عنها أقلها "الاطاحة بهم من كراسيهم"! رقابة دخيلة تنزع عن أجهزة الرقابة سلطاتها، واختصاصاتها التي خولها لها القانون، لم تعد مقصورة علي "عمال المطابع" وحدهم، وانما عبرت عن نفسها أيضاً من خلال دعاوي الحسبة التي يتطوع البعض برفعها للمطالبة بمصادرة الابداع، بحجة حماية المجتمع من شروره، كما فعل يوماً الشيخ يوسف البدري، الذي عاد من خلال الحلقة المهمة لاتهام الشاعر حلمي سالم بأنه تجاوز في حق المجتمع، وأيضاً القس عبد المسيح بسيط الذي بدا سعيداً بأن "الكنيسة" قمعت مبدعي فيلم "بحب السيما" ليكونوا عبرة لغيرهم، وبالتالي لا يشجعونهم علي التطاول علي الكنيسة ثانية علي حد قوله (!)، كما تذكرت الحلقة ما أقدم عليه الكاتب الصحفي ابراهيم سعده عندما حرض الدولة ضد فيلم "ناجي العلي"، وعلق علي موقفه بمرارة الفنان محمود الجندي أحد أبطال الفيلم المغدور به، بينما لخص المخرج ابراهيم البطوط الأزمة بجملة بليغة وموحية عندما قال:"بقينا كلنا بنراقب بعض" وبسخرية لاذعة ربط الكاتب الصحفي سعد هجرس بين بزوغ ظاهرة "الرقيب الخاص" وتطبيق سياسة "الخصخصة" التي نادت بها الدولة" (!) فالحلقة التي أعدها عبد الله الطحاوي وأخرجها عبد الرحمن عادل، نجحت في رصد ظاهرة "الرقيب" الذي عاني منه المبدعون المصريون في شتي المجالات، وفي مختلف العصور، وأوحي بأن الدولة تغير جلده كلما اقتضت الظروف، وهو ما أكده الحوار مع أحد المدونين عبر الشبكة العنكبوتية "الانترنت"، وكما استعانت الحلقة بالخبراء مثل: د. رفيق حبيب أستاذ علم النفس والاجتماع وكمال مغيث الخبير والباحث بالمركز القومي للبحوث التربوية لم تتجاهل أهمية التجربة الشخصية للمتخصصين مثل: المخرج رأفت الميهي والكاتب الصحفي كارم يحيي والكاتب الصحفي حسين عبد الرازق والناقد السينمائي محمود علي صاحب التجربة العريضة في تتبع مسيرة الرقابة علي السينما، والموثق لتشريعاتها المتعاقبة، وكذلك د. سيد خطاب الرئيس الحالي للرقابة. أما ذروة إثارة الحلقة فتمثلت، بحق، في استضافة رقيب قديم علي الصحف أدلي بشهادة مهمة للغاية عن الفترة التي كانت تدار فيها الصحف المصرية، في عهد عبد الناصر، بواسطة الرقيب الحكومي، وتأكيده أن كتابات الاستاذ محمد حسنين هيكل لم تكن تخضع لسلطة "الرقيب" ثم اكتملت الإثارة بالعبارة التي قال فيها الناقد علي أبو شادي إنه فخور بالفترة التي عمل فيها كرقيب، وجاء الرد سريعاً علي لسان عبد الستار فتحي مدير عام الرقابة علي الأفلام العربية والأجنبية بقوله:"ماحدش بيبقي فخور لما يبقي رقيب"! بالطبع كانت القضية في حاجة إلي أكثر من حلقة للإلمام بكل تفاصيلها، وتغطية جوانبها المهمة كل علي حدة، ومن ثم تصبح الفرصة لتقديم شهادات متاحة أكثر، لكن شيئاً من هذا لم يحل دون الاحساس بأن "الجزيرة" قدمت درساً بليغاً في كيفية تناول مثل هذه القضايا الحساسة والشائكة بشكل فيه من الرقي الكثير، كما قدمت برهاناً عملياً علي أنها لا تعتمد علي المال وحده، كما يشيعون، بل العقلية التي تجعلها تقترب من موضوعات قد تبدو مستهلكة للبعض، لكنها تعيد صوغها ببراعة، وتؤكد أيضاً أن "علبة الكبريت" يمكن أن تُشعل الساحة بقضايا حيوية، وهو ما تعجز عنه الملايين المهدرة بلا عقل!