إذا كان توني بلير، حينما كان لا يزال رئيساً لوزراء بريطانيا وكان يخطط لسحب أربعة آلاف جندي بريطاني كلهم من المهمة العسكرية التعيسة والمثيرة للجدل في جنوب العراق، قد اعترف حينها بأن البصرة ليست "كما نريدها أن تكون"... فإن الرئيس الأمريكي أوباما الذي كان معارضاً للغزو غير القانوني للعراق، إلي جانب 60 في المائة من الأمريكيين حسب استطلاعات الرأي، لديه اليوم، في سبتمبر 2010، كل الأسباب للتفكير في أن العراق ليس كما يريده الأمريكيون أن يكون. وفي بداية رئاسته، قرر أوباما سحب كل قواته من العراق في نهاية عام 2011، وهو ما تم الشروع فيه بالفعل حيث بقي في العراق اليوم أقل من 50 ألف جندي بينما يتواصل فيه سحب المعدات العسكرية الأمريكية. وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، اتُّهم أوباما بالرغبة في تسريع الانسحاب، والذي يعد الأكبر من نوعه الذي يشمل جنوداً أمريكيين منذ أيام فيتنام السوداء، لكن توقيته يبدو جيداً، إذ تم بموازاة ذلك رفع مستويات الجنود في أفغانستان. غير أنه إذا كان يعتقد أحد أن الجنود الأمريكيين الذين بقوا في العراق، عقب إعلان أوباما نهاية العمليات الحربية في أغسطس الماضي، سيحظون ابتداءً من الآن بوقت أكبر للسباحة والتمتع بحمامات الشمس، فإنه واهم. ذلك أن "عملية الفجر الجديد"، مثلما سُميت البداية الجديدة في العراق، جعلت الجيش والشرطة العراقيين مسئولين عن الأمن الوطني، بينما يتولي الأمريكيون مهمة "تقديم النصح والمساعدة". لكن الأمريكيين، وبدلاً من الاكتفاء بتدريب الجنود والشرطة العراقيين وحراسة القواعد العسكرية الأمريكية، مازالوا يقاتلون ويموتون في العراق. وبالنسبة للجنود الأمريكيين الذين سبق أن خدموا في العراق، سيبدو لهم كما لو أن شيئاً لم يتغير في الواقع؛ فمؤخراً، وعلي سبيل المثال فقط، كانت ثمة عمليات عسكرية في شمال بغداد، وتلقت طائرات "إف 16" الأمريكية أوامر بإلقاء قنابل تزن الواحدة منها 500 رطل علي مواقع المتمردين. ومما لا شك فيه أن واشنطن ولندن ستشعران بالصدمة والاستياء بعد معرفة أن مستوي العنف في العراق اليوم يفوق نظيره خلال فترة ما قبل غزو 2003، حيث يلقي شهرياً مئات العراقيين مصرعهم في الفوضي والاضطرابات التي تعم البلاد. وبالتالي، فإن "عملية الفجر الجديد" تضع تحدياً كبيراً أمام الحكومة العراقية. فهل ستستطيع الدولة العراقية احتواء أعمال العنف التي اندلعت من جديد، رغم أن أيام الحرب الطائفية قد ولت، مثلما نأمل؟ وهل ستكون قيادة الجيش والشرطة قادرة علي مواجهة التهديد الإرهابي، والقضاء عليه بشكل نهائي؟ علي ما يبدو، فإن العديد من العراقيين كانوا سعداء بمغادرة معظم الأمريكيين غير المحبوبين بلادهم، إلا أنهم يتساءلون اليوم حول ما إن كانت تلك فكرة جيدة! لقد اعتمد الأمريكيون، بعد سقوط صدام حسين، علي قوتهم النارية الهائلة وكميات ضخمة من الذخيرة؛ كما قاموا علي نحو ذكي بتشجيع قوة سنية شبه عسكرية لعبت دوراً أساسياً في طرد تنظيم "القاعدة" من معظم العراق. غير أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته، المالكي، لم يثق في هذه القوة وأهملها، ونتيجة لذلك بدأت اليوم مجموعات مرتبطة بتنظيم "القاعدة" تكثر وتنتشر، مجموعات سيكون من الصعب إزالتها مرة أخري. وقد ساد قلق في واشنطن عندما أعلن رئيس أركان الجيش العراقي مؤخراً أنه ستكون ثمة حاجة إلي الأمريكيين حتي عام 2020. وشخصياً، لا أعتقد البتة أن أوباما سيقوم نتيجة لذلك بتعديل مخططاته للانسحاب من العراق؛ غير أن ثمة خبراء عسكريين في أمريكا يقرون بأنه إذا كان مستوي الجيش العراقي قد تحسن كثيراً، إلا أنه مازالت لديه مشاكل كبيرة، ومن ذلك مثلاً ضعف عمله الاستخباراتي ومحدودية الدعم الجوي العراقي. أما في المملكة المتحدة، التي قامت لأول مرة منذ 65 عاماً بتشكيل حكومة ائتلافية بين المحافظين والديمقراطيين الأحرار في غضون بضعة أيام، فثمة تعجب واستغراب لأنه لم يتم بعد تشكيل حكومة مناسبة في بغداد، بعد مرور حوالي ستة أشهر علي الانتخابات. والحال أنه بدون زعامة سياسية واضحة، فإن العراق سيكون في وضع خطير في ظل انتشار الإرهاب وجيران صعاب المراس، علماً بأن بعض أولئك الجيران لديهم أهداف داخل الحدود العراقية. ومن المحزن بالطبع رؤية نواقص وإخفاقات السياسيين الكثيرة في بغداد، غير أن تشكيل حكومة ائتلافية يتطلب وضع مصالح الشعب العراقي طويلة المدي فوق المصالح الضيقة للأحزاب السياسية، لاسيما وأن التحديات كثيرة وكبيرة، ذلك أن الفساد متفش جداً، حسب منظمة الشفافية الدولية، والوظائف داخل الإدارات والوكالات الحكومية نادراً ما يتم الفوز بها بفضل الجدارة والاستحقاق، وإنما بالمحسوبية والعلاقات العائلية. ومعلوم أن المالكي يترأس كتلة حصلت علي 89 مقعداً، في حين تسيطر كتلة إياد علاوي، وهو رئيس وزراء سابق آخر، علي 91 مقعداً غير أن الرجلين نادراً ما يتبادلان الكلام، ناهيك عن الانخراط في نقاش جاد. وقد قدم الأمريكيون بعض الأفكار من أجل الخروج من الطريق المسدود، لكن انعدام الثقة مازال هو السائد. لقد عارضتُ بشدة غزو عام 2003 وصُدمت جداً بما آل إليه الوضع في العراق خلال مرحلة ما بعد الغزو، غير أن هذا ليس هو الوقت المناسب لكي يلقي العراقيون باللوم علي الأجانب. إن العراق، باحتياطياته النفطية الكبيرة، لديه الكثير ليقوم به، وتاريخ عظيم ليبني عليه، وعلي العراقيين أن يقودوا بلادهم إلي الأمام.