الهجوم علي أحد الرموز الشعرية النبيلة.. لا ولن يهدم هامتها أو يحرك من قامتها.. بل غالبًا ما يكون ذلك سببًا في زيادة ذلك الرمز حتي لو كان في عداد الراحلين.. وما حدث أخيرًا من نقد جارح وشديد اللهجة لشخصية راحلة تمثل رمزًا جميلاً.. لها في الشعر إمارة علي القلوب.. هو الشاعر الجميل الثائر الغاضب والرقيق "أمل دنقل".. لقد عاش يصارع في فترات مختلفة بين أنات القلم ونزيفه الدامي.. وبين ذلك المرض اللعين الذي اعتصره.. وقد كانت هزيمة يونيو 1967 بؤرة جُرحه وبداية شهرته حينما نراه متألقًا في قصيدته "زرقاء اليمامة"، وهي الجريئة التي أكدت خطاه في عالم الشعر.. وحذره العديد من الأصدقاء من نشر هذه القصيدة حتي لا تناله المتاعب وتدركه المصاعب.. لكنه أصر علي نشرها مسميا ديوانه باسمها "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".. أذكر من قصيدته: "أيتها النبلية المقدسة/ لا تسكتي/ فقد سكت سنة فسنة/ لكي أنال فضلة الأمان/ قيل لي "اخرس.." فخرست/ وعميت/ وائتممت بالخصيان/ ظللت في عبيد عبس/ أحرس القطعان/ أجتز صوفها/ أرد نوقها/ وأنام في حظائر النسيان" إلي أن يقول: "أنا الذي ما ذقت لحم الضأن/ أنا الذي لا حول لي ولا شأن...." يتبين لنا من خلال هذه المقاطع الشعرية الجميلة أنها تعبر عن روح شاعر عظيم.. وكما تعودنا أن هناك من يحاولون الإساءة إلي القامات الراسخة في قلوب الناس عبر العديد من أنواع الفنون والآداب.. وآخر هؤلاء تلك الكاتبة التي وصفته بأنه "لا دينيا" وكم آلم هذا الوصف كل الذين عرفوا وأحبوا أمل دنقل.. وربما يكون ما قيل عن عدم توفيق في فهم أحد النصوص الشعرية من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" حيث يقول: "المجد للشيطان/ معبود الرياح/ ومن قال "لا" في وجه من قالوا "نعم" من علم الإنسان تمزيق العدم/ من قال "لا" فلم يمت/ وظل روحًا أبدية الألم...." هنا يقصد شاعرنا كما فهمنا وتعلمنا.. إن المجد هنا ليس للشيطان إبليس ولكن المقصود للشيطان سبارتاكوس.. ذلك العبد الشجاع الذي قال "لا" عندما أحس بنفسه وهي تشتاق للحرية.. قال "لا" في وجه "القيصر" مما مجد اسمه وظل علي كل لسان وراحت روحه الشجاعة تزرع في نفوس العبيد بذور الشجاعة لتجعلهم في الصفوف الأولي في ميدان الصراع.. للأسف هنا فهم البعض ربما نظرًا لقراءتهم السطحية أو المنحازة أن "دنقل" يمجد "إبليس" وبذلك يكون قد كفر.. والمناسبة التي حركت في الشاعر روح كتابة هذه القصيدة هي تذكر الشاعر لتلك الجموع المحتشدة في سن الإسكندر بمدينة الإسكندرية.. وقد سارت محنية الظهور كأنها قطيع من شق لا تملك صوتًا عاليا يقول "لا".. مع أن السائد هو "نعم" والمقرونة دائمًا بالنسبة المشهورة 99.99%.. كان الشاعر يقول للجمهور أن يقول "لا"! لماذا أيها الأحباء تطعنون شاعرنا وهو في رحاب الله.. لماذا الإدانة الظالمة.. تذكرت في عودة إلي الوراء الشاعر الخالد أبي العلاء المعري الذي طعنوه وكفروه.. ونشر كتابه الشهير "زجر النابح" عري فيه جهلهم وفضح زيف ما كتبوا واعتبر ما قالوه "هوهوة الكلاب" أو عوي الذئاب.. وعجيب ورائع أن يحدد "أمل" يوم انتقاله من هذا العالم الفاني.. وكان ذلك إبان زيارة صديقه العظيم د. جابر عصفور له بالمستشفي حينما قال "أنا حاموت بعد بكرة" وفعلاً ودع الحياة الأرضية في موعد حدده! لقد كان عقل وقلب أمل دنقل مرجعية جميلة لعالم الروح.. حيث كان متدينًا يعرف عقيدته وكان شديد الاحترام للأديان السماوية.. متأثرًا بجميعها فنجده مثلاً يستعير كلمة "الإصحاح" فيقسم إحدي قصائده إلي عشرة إصحاحات قصيدة "سفر ألف دال".. كذلك قصيدة "مزامير" والتي احتوت علي ثماني مزامير وقصائد.. كأن الشاعر يعزف علي أوتار كلمات السماء.. من خلال ثقافة لا تعرف الإلحاد أو التمييز.. كان شديد الإيمان بربه.. أقول لتلك الأقلام اتقوا الله في شاعر مصري عظيم.. ترك لنا مع أشعاره الرائعة الجميلة ذكري توجد في قلوبنا رغبة قوية نحو احترامه وتقديره.. للأسف لم يختلف عليه سوي من حقدوا عليه. في نهاية كلمتي عن شاعر أحببته اختار من قصيدته "العراف الأعمي" هذه الكلمات: "وأخيرًا عدت/ أحمل في صدري حسمت الطاعة وبلا/ ساعة/ ما جدوي الساعة في قوم قد فقدوا الوقت!!".