وربما تستمد هذه الأهمية عظم أثرها من كثرة المهتمين بها، وفي هذه الآونة بدأت تسيطر علي ألباب النقاد والكتاب في قضية خلافة أمير الشعراء في ساحة الشعر العربي، فالآراء متباينة والانتخاب أمر صعب للغاية خاصة وأنه قد مر علي هذه الإمارة قرابة ثمانية عقود من الزمان، وإعادة تسمية الأمير بات أمراً صعباً للغاية في ظل عدم وجود شكل نموذجي للشعر يتم اختيار الأمير من بين كتاب هذا النموذج.. وقد كان للناقد الراحل رجاء النقاش رأي في هذه القضية فرأي" أن شوقي كان يحظي بما يشبه الإجماع علي زعامته للشعر العربي في عصره وكل دارس منصف للأدب العربي يجد أن ذلك كان أمراً طبيعياً، لأن شوقي كان صاحب عبقرية شعرية كبري، نجد ذلك في استيعابه المدهش للغة العربية وإحساسه بما في هذه اللغة من إمكانات فنية كبيرة، ونجده في هذا الشلال من الموسيقي المتنوعة البديعة التي تملأ بها دواونيه.. ونجده بعد ذلك في هذا الاتصال النادر بين شاعرية شوقي وحياة الناس في عصره، فما من صغيرة أو كبيرة تمس حياة العرب في مصر وخارجها إلا ولها في شعر شوقي صدي فني قوي وجميل، فقد كان شوقي مسلما عربياً حساساً لكل ما يتصل بأمته الكبيرة وكان حريصا علي أن يكون هناك صدي في شعره لكل أفراح الأمة وأحزانها ومن ثم كان شوقي أميراً للشعراء في عصره بإجماع شعراء هذا العصر وأدبائه ما عدا قلة قليلة لم يستطع صوتها أن يؤثر علي مكانة شوقي وزعامته الأدبية، موضحاً أنه من ناحية أخري كان الرأي العام العربي كله يعتبر شوقي هو المعبر عنه والناطق الشعري باسمه، وفي تلك الفترة كان الشعر كله ينطلق من مدرسة شعرية واحدة وهذه المدرسة هي الداعية إلي تجديد الشعر العربي بدون الخروج علي قواعده الأصلية الراسخة القديمة في ظل تلك الاعتبارات جميعاً كان شوقي يستحق إمارة الشعر، ولم يكن هناك من ينافسه في ذلك. وأشار "النقاش " إلي أنه له ملاحظتان في هذا السياق الأولي هي أن الشعر العربي الآن في حالة انقسام شديد بين مدارس متناقضة أشد التناقض وشعراء يختلفون عن بعضهم البعض أشد الاختلاف ولكل شاعر أنصار أشداء وخصوم أشداء والمدارس الشعرية تتربص ببعضها البعض في حرب أهلية شعرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأدب العربي كله، وفي ظل هذه الأوضاع لايمكن اختيار أمير للشعر العربي الآن ولا أن يختار قوم أميراً، فإن اختار قوم أميرا سوف يخلعونه في نفس اللحظة، وسوف يعتبرون أنه اختيار يناقض الشرعية الشعرية ولا جدوي من محاولة في اختيار أمير للشعراء العرب الآن، لأن الظروف الأدبية العربية تشبه الظروف السياسية أي أنها تخلو من الاتفاق بالإجماع أو ما يشبه الإجماع. والملاحظة الثانية للنقاش أن البعض يقولون إن إمارة شوقي للشعراء كانت قائمة علي مجاملة مصر، فالسبب فيها هو هذه المجاملة وليس سبباً أدبياً خالصاً والرد علي هذا الكلام هو أن اختيار شوقي لإمارة الشعر كان اختياراً شعبياً بعيداً كل البعد عن الرسميات الحكومية، وقد كان شوقي أميرا شعبيا للشعر والشعراء ولم يكن أميراً حكومياً ورسمياً. و يري الشاعر أدونيس أن إمارة الشعر مسألة اجتماعية - سياسية، وليست مسألة شعرية بحصر الدلالة شعريا، فوحدة الشعر في معزل عن كاتبه وقارئه هو "الأمير" أمير الثقافة، لأنه هو اللغة التي تحمل المعني وصورة وكينونة وصيرورة، وهو ما تؤكده التجربة التاريخية العربية بالنسبة إلي شعرنا العربي والأمير هنا كلمة مفرغة من أية دلالة سياسية "إمارة الشعراء" أمر آخر يمكن أن يختار عدد من الشعراء في أية لغة سواء قليلة أو كثيرة "أميرا" لهم لا عليهم يكون رمزا لحرياتهم وإبداعاتهم وتجاربهم الشعرية، ويكون هذا الاختيار تعبيراًَ كريماً وحرا عن الاعتراف بإنجازه الشعري ويكون تحية له كريمة وحرة. ويستطرد: غير أن هذا مما يتعذر تحقيقه بين الشعراء العرب، فكل منهم أمير وكل يعمل علي "خلع" الآخر فيما يتصل بشوقي أكرر ما قلته سابقاً عنه في "الثابت والمتحول" الجزء الرابع. وخلص إلي أنه إذا نظر إلي شوقي تاريخيا في إطار "الاتباع" أو "الإحياء"، فإن له مكانة كبيرة، ولعلها أن تكون المكانة الكبري في وقته، أما إذا نظرنا إليه شعرياً وإبداعياً في المطلق، فإن شعره لا يقرأ بوصفه رؤية للإنسان والعالم فريدة وخلاقة، وإنما يقرأ بوصفه استعادة وتذكرا. ويوضح الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: أنه تبقي من شوقي ما تبقي من أي شاعر حقيقي .. قصائد والمقطوعات والأبيات المتفرقة.. والنقاد الأوروبيون يعتقدون أن عشر قصائد باقية تضمن للشاعر حياة باقية.. وفي اعتقادي أن شوقي ترك أكثر من عشر قصائد.. يكفي أن نتذكر بعض ما قاله في الزمن والموت، ولا أظن أن ما تركه غيره من كبار الشعراء العرب يزيد عما تركه شوقي، الذي لم يستطع شاعر غيره أن يعبر هذا الزمن الذي مضي علي رحيله ويصل إلينا.. أو يملأ هذه الساحة العريضة ويخاطب الجمهور الواسع سواء عن طريق الغناء أو عن طريق المسرح، وشوقي شاعر رائد متعدد المواهب خاطب البسطاء ورواد المقاهي، كما خاطب المثقفين ورواد المسارح والصالونات الأدبية، ونظم القصيدة الغنائية والقصيدة المسرحية والمسرح الشعري مأساة وملهاة. ويقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم: أعتقد أن بعض أعمال شوقي هي أعمال خالدة وعصية علي النسيان وفي الأساس كما أري قصائده العروبية الشامية، لأن مثل هذه القصائد مثل سلام من صبي بردي، ودمع لا يكفكف يا دمشق وياجارة الوادي "القصائد الشامية كما أري قدرت قصائد شوقي الشعرية أكثر من قصائد المناسبات والاجتماعيات والعلاقات الاجتماعية.. لو بقي له يبقي له القليل، ولكن هذا القليل يكفي لأن يحفظ له موقعه المتميز في الشعر العربي عبر كل العصور وهذا ما بقي من شعر شوقي.. شوقي الإنسان شخصية إشكالية.. لم يكن عربياً تماماً، مصرياً تماماً.