تمهيد: في افتتاحية مجلة الرسالة والتي اختار لها الأستاذ أحمد حسن الزيات (صاحب المجلة ومديرها ورئيس تحريرها) عنوان "شروح وحواشي" وفي العددين الصادرين بتاريخ 15يوليو، وأول أغسطس 1933 كتب مقالين متتالين تناول فيهما بث شجونه ولوعة فراقه للشاعرين الكبيرين بعد عام كامل علي فراقهما.. فالأول وهو حافظ إبراهيم بك (1872-1932) أما الثاني فهو أحمد شوقي بك (1868-1932) ومن المعروف أن حافظ إبراهيم يعتبر من الشعراء المصريين ذائعي الصيت، وقد عاصر أحمد شوقي، ولقب بشاعر النيل كما لقب أيضاً بشاعر الشعب، وكان المذكور إحدي عجائب زمانه، ليس فقط لجزالة شعره، بل لقوة ذاكرته التي مكنته من استيعاب الآلاف المؤلفة من القصائد العربية القديمة والحديثة، فضلاً عن مئات الكتب والمُطالعات الاخري، أما الثاني فهو أمير الشعراء، حيث اعتبره البعض أحد أعظم شعراء العربية في جميع العصور، وله العديد من المسرحيات الشعرية الشهيرة مثل: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلي، وأميرة ألأندلس، وشريعة الغاب وغيرها، وقد تميزت العلاقة ما بين حافظ وشوقي بالحميمة الشديدة والصداقة القوية، حيث تلازما لفترات طويلة حتي خلال رحلات الثاني العديدة إلي الخارج، ويقال أنه ساهم في مهمة منح حافظ لقب البكوية. نص المقال: الشعر بين أميريه: عام مضي أو كاد علي يومي حافظ وشوقي! فهل شعب القلوب الدامية عنهما سلوان، وعزي النفوس الآسية متهما عوض ؟ لا يزال الجزع يهفو بالأفئدة علي مستقبل الشعر اليتيم، ولا يزال الصمت الموحش يقبض الصدور في خمائل الوادي، بلي، نشط في مصر القريض، وتجاوبت الأفراح النواهض بالأغاريد، ولكن أصواتها الناعمة الرخوة لم تملأ الاسماع ولم تطرد الوحشة، ولاحت في سورية المهاجرة مواهب النبوغ، ودلائل القيادة، ولكن البعاد يبدد الصوت القوي، والاغتراب يوهن الجهد الجهيد. كان اسم حافظ واسم شوقي علمين علي الشعر في العهد الأخير، وكان الناس يؤمنون بقوة أدبية لازمة تظاهر نهضتنا، وتساير ثقافتنا، في هذين الشاعرين، فكلما خفقت القلوب لنزوة من الألم، أو لنشوة من الأمل، أصغت الأسماع تنتظر من رياض "الجيزة" أو ربي "حلوان" تلحين هذه العواطف، أو تدوين هذه المواقف. فلما خلا مكان الرجلين وقع في الأوهام وجري علي بعض الأقلام أن تلك القوة زالت، وأن زمان الشعر ذهب! فحاول عشاق الأدب ورواض القريض أن يقروا في الرءوس سلطان هذا الفن، ويقرروا في النفوس وجود هذه القوة، فحشدت جماعة "ابولو" جميع وحداتها، وعزفت جوقتها علي جميع آلاتها، وشرفت الصحف والمجلات بفيض القرائح الشابة، ودعا الكهول القرح إلي عقد موسم للشعر، والزمن الذي يمحص الأشياء فينفي البهرج الزائف ويثبت الحق الصريح، هو الذي يعرف مكان هذه الجهود، من عالم الفناء أو من عالم الخلود. موسم الشعر: وقع في نفس الأستاذ "الهراوي" (شاعر مصري كبير) منذ شهرين أن يدعو الشعراء إلي مواضعة الرأي في إقامة موسم للشعر، فلبي فريق، وتأبي فريق، ورأت جماعة أبولو في الدعوة احتكاراً لفضل الفكرة، واقتصاراً علي بعض أغراض الشعر فأهملتها، ثم قررت أن تقوم هي بمهرجان سنوي جامع، ثم سعي بين الجماعتين ساع من حُسن النية وشرف القصد فاتفقتا علي العمل معاً، ثم اجتمع اعضاؤهما في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، ونظروا في نظام الجماعة ومنهاج العمل، ومضي الشعراء الموظفون يلتمسون من معالي وزير المعارف شرف رئاسة الموسم فأجاب المُلتمس، ثم اضطربت الالسنة والأقلام بالفكرة التي قام عليها، والغاية التي يقصد إليها، فلم نخُض مع الخائضين، وإنما تحدثنا إلي القائم بالدعوة نستجلي منه الغرض فما أجاب إلا جمجمة، فقلنا ليس في الأمر إذن إلا قصائد تُنشد علي المسرح، وتصفيق يدوي في المحفل، ثم ريح لينة تذهب رخاء بهذه الأصوات إلي مجاهل الأبد. ولكن موسم الشعر تولي أمره نفر من كبار الأدباء فرسموا خطته وعينوا وجهته، ونشروا ذلك في بيان للناس فجعلوا وجوده أمراً لا شك فيه، وتسجيله عملاً لابد منه. أصبحت "جماعة موسم الشعر" بحكم البيان المنشور، مجمعاً أدبياً له وسائله وله أغراضه، فأما وسائله فقرض الشعر الفصيح ووضع البحوث في الأدب، وإلقاء المحاضرات في الموسم، وأما أغراضه فإقامة موسم عام للشعر العربي في مدينة القاهرة، والعمل للاحتفاظ في الشعر العربي بقوة الأسلوب ووضوحه، والجري علي ما تقتضيه ضوابط اللغة من الصحة، وما تتطلبه خصائص البيان من بعد الأسلوب عما يضعفه أو يفنيه في غيره أو يقطع صلة حاضر بماضيه، وتقريب ما بين الشعر العربي وغيره مع المحافظة علي السنن العربي والعمل لتنوع أغراضه وفنونه وأخيلته ومعانيه، وإبراز الحياة الحاضرة والمدنية القويمة في صورها الصحيحة، والمحافظة في الشعر علي الذوق العربي مع مماشاته لحاجات العصر وروحه، وتوجيه الشعراء إلي القيام بحاجة العامة والتلاميذ من الشعر في أغانيهم وأناشيدهم، وحفز مواهب الشعراء إلي تهيئة السبل لظهورها والانتفاع بها، وخدمة اللغة العربية ونشر آدابها وتقويم ملكاتها وتنمية ثروتها من الألفاظ والمعاني والأخيلة، وتوثيق الصلات الأدبية بين مصر والأقطار العربية الاخري. ثم يستطرد الكاتب قائلاً: ان "مجلة الرسالة" تؤيد هذه الأغراض السامية من غير تحفظ، وتدخر غبطتها بها وتصفيقها لها ليوم التنفيذ، فإن صوغ الأماني ووضع ألأنظمة وإذاعة العزم شئ، وتجويد العمل وتنفيذ الفكرة وتحقيق الغرض شئ آخر، ولعلك تذكر أن (مجمع اللغة العربية الملكي) سُن له قانون، ورُصدت له أموال، ورُشحت له رجال، ودُعيت إليه دعوة، ووعدت به حكومة، ومع ذلك فقد انقضي عليه عام وهو لا يزال كما كان منذ سنين عدة من عدات المني، وحديثاً من أحاديث الظنون!! ذكري حافظ: عجبت لهذا البؤس العنيف الملح كيف لازم حافظاً في عمره الأول، ثم أبي أن يفارق ذكراه في عمره الثاني!! قطع هذا البؤس مع الشاعر مراحل عمره الفاني جميعاً، فترك حياته المضطربة من غير منارة ولا مرفأ، وداره الموحشة من غير ولد ولا زوج، وأسمه النابه من غير جاه ولا مجد، وقلبه الشاعر من غير عزاء ولا أمل، ثم فرق بينهما الموت فانقلب حردان يعبث بما خلف الشاعر في الدنيا وفي الناس من أثر وذكري، فتُنكر الحكومة حافظاً لأن من أسماء البؤس السياسة، وتُهمل الخاصة حافظاً لأن من أسماء البؤس النكران، ويغفل الشعب حافظاً لأن من أسماء البؤس النسيان، وتثور الحفيظة من هذا الجحود بأصدقاء حافظ فيعتزمون اقامة حفل وتأليف كتاب وتشييد ضريح، ولكن البؤس المغيظ يطوف علي أولئك الأصدقاء في دورهم، فيقول لأغنيائهم: امسكوا عن البذل، ولأدبائهم: امسكوا عن الكتابة، فحسب كل امرئ ما تباكره به الصروف كل يوم من هموم ومغارم، ويذكر الشباب الذين طالما هدهد الشاعر عواطفهم بأغانيه، وخلد مواقفهم بقوافيه، أن يوم الذكري يقع في الحادي والعشرين من شهر يوليو، فيريدون أن يكفروا اليوم عن تقصير الأمس، فيقرر " اتحاد الجامعة المصرية " أقامة حفلة تأبينية، ثم يعلن عن مكانها وزمانها في الصحف، ويتقدم إلي الأدباء والوجهاء بالدعوة، ويعد الأستاذ (البشري) كلمته فيمن أعد، ثم يقبل من ظاهر القاهرة إلي نادي الاتحاد فلا يجد غير البواب يتحدث إلي نفر من زملائه، عن تعويض الحكومة للنوبيين وموعد أدائه! فيعجب الأستاذ ويغضب، ويستمر عجبه وغضبه يومين حتي يقرأ في بعض الصحف أن إتحاد الجامعة قد رأي تأجيل الحفلة إلي الأسبوع الأول من نوفمبر لتكون حفلة جامعية يشترك فيها أساتذة الجامعة وأقطاب الأدب...... وأعجب من عجب الأستاذ ألا يخطر هذا السبب الخفيف ببال الاتحاد، إلا بعد إعلان الحفلة وتحديد الميعاد! بؤساً لك يا بؤس حافظ!! لقد أسرفت في العبث حتي اتهم الوفاء، وتظنن البعداء، وتردد علي ألسنة الناس قول صاحبك: فما أنت يا مصر دار الأديب...... وما أنت بالبلد الطيب علي أن حافظ وقد فرض علي أدب العصر سلطانه، وأجري علي لسان الدهر بيانه، وكتب في ثبت الخالدين اسمه، لا يضره بعد ذلك نكران المنكر، ولا ينفعه عرفان العارف! جاد الله بالرحمة ثراه، كلما تجددت في النفوس ذكراه، وجزي بالخير " أبولو " فقد كان عددها الخاص بالذكري أخلص تحية صعدت إلي هذه النفس الكريمة، من هذه الدنيا اللئيمة!