حين أحصيت في الوجوه عدداً مناسبا من التحيّات والابتسامات وعلامات الوداع، أدرت محرك السيارة، وانطلقت أقودها متباطئا ومناورا ومتسابقا، أشق طريقي غندورا وسط انبهار الجموع، متجها إلي مدينتي البعيدة، ممنيا نفسي بطيب اللقاء مع الطريق ثم الزوجة والأولاد. طريق الإسفلت ناعم والسيارة مطيعة، واخضرار حقول البرسيم يشد زرقة السماء إلي اتساع الأفق، وأشجار الكافور تلقي بظلالها علي الطريق فاتحة بين السحب كوات من شمس شتاء حانية، فتحت زجاج السيارة قليلا فتسرب هواء طيب معبأ برائحة الحقول، وانتعشت في رأسي أحلام ومواقف منتقاة من زمن جميل، وظلت الموسيقي تنساب حولي. فجأة لمحت من خلفي سيارة باهرة الأضواء تأتي مسرعة، تشق الريح برعونة وتمرق بجواري، انها رعناء تسارعت خلفها سيارة أخري أكثر رعونة، تشاكس الطريق والسيارات وتحاول اللحاق بالأولي كأنهما في سباق محموم، فجأة انحرفت الرعناء إلي أقصي اليمين تقفز من نهر الإسفلت إلي حقل برسيم مجاور للطريق، هكذا وجدتني أمام حادثة انقلاب. حين وصلت سيارتي لمكان الحادث، كانت الرعناء قد انقلبت مرتين واستقرت علي ظهرها تدور عجلاتها في الهواء، وعلي جانبي الطريق توقفت سيارات عابرة فتحت أبوابها وخرج ركابها مفزوعين، هي ثوان مرت واشتعلت النار في الرعناء المقلوبة، وظلت بمن فيها ينتظرون النجدة. حين فكرت في تقديم يد المساعدة تذكرت أشياء وأشياء دارت بيني وبين الجميع، كراهيتي لضابط شرطة أجبرني علي تغيير طفاية حريق لسيارتي رغم صلاحيتها، احتقاري لمحام يتاجر في ملفات حوادث الطرق، حنقي علي مسئول تحرش بأستاذ جامعي حاول إبداء رأي سياسي مخالف، اعتقادي بأن من يملكون سيارات فارهة قادرون علي تكاليف العلاج من آية حوادث، إنهم يدفعون من خزائنهم ومن أموال الدولة وحين تفرغ خزائنهم يملأونها من دمائنا ويسحقون حبات كرامتنا، ومعرفتي بقصور أجهزتنا الحكومية في إدارة الكوارث، وان الكوارث في بلادنا تتكالب علي رؤوس المجهدين والغلابة، هكذا عضني الإيمان الشعبي العام بأن تبرعي للشهادة علي ما حدث سيدخلني في دوائر تعذيب علي يد سلطة غبية تراني مجرما طول الوقت، وتحاكمني علي اعتبار أنني القاتل الوحيد لكل صنوف الحياة علي الأرض، وأصبح منطقيا أن اتخذ قرار الابتعاد. هكذا تسربت مبتعدا عن موقع الحادثة، وتسرب معي كثير من عابري الطريق وأهل القري، يضمون شفاههم ويلوون أعناقهم، وواصلت بين الجموع طريقي حاملا سؤالا جديدا لم أعرف له إجابة صريحة، كيف لمواطن شهم مثلي في هذه البلاد، أن يري سيارة يصيبها حادث انقلاب ويتركها تتلوي دون مساعدة؟