محمد صلاح: مدافعو الزمالك هم من جاملوا نهضة بركان وليس الحكم    برشلونة يعزز موقعه في وصافة الدوري الإسباني بثنائية أمام ألميريا    فاروق جعفر: واثق في قدرة لاعبي الزمالك على التتويج بالكونفدرالية.. والمباراة لن تكون سهلة    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    بعد ارتفاع عيار 21.. سعر الذهب اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة (تحديث الآن)    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    مدارس النصيرات بغزة في مرمى نيران الاحتلال ووقوع شهداء    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو في محافظات مصر    سيد عبد الحفيظ ل أحمد سليمان: عايزين زيزو وفتوح في الأهلي (فيديو)    جهاد جريشة: لا بد من محاسبة من تعاقد مع فيتور بيريرا.. ويجب تدخل وزرارة الرياضة والرابطة    لمدة خمس أيام احذر من هذه الموجة شديدة الحرارة    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    محافظ جنوب سيناء ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل منطقة أبو جالوم بنويبع    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    بعد الانخفاض الأخير لسعر كيلو اللحمة البلدي.. أسعار اللحوم اليوم الجمعة 17-5-2024 في الأسواق    ورشة عمل إقليمية تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي مدخلاً لإعادة هندسة منظومة التعليم»    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    حسين الشحات : نحترم تاريخ الترجي ولكننا نلعب على الفوز دائما    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 17 مايو 2024    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    بعد ساعات من انتشار الفيديو، ضبط بلطجي الإسماعيلية والأمن يكشف ملابسات الواقعة    ماذا قالت نهاد أبو القمصان عن واقعة فتاة التجمع وسائق أوبر ؟    قوات الإنقاذ تنتشل جثة مواطن سقط في مياه البحر بالإسكندرية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    فتحي عبد الوهاب وهاني خليفة أبرز المكرمين.. صور    للرجال على طريقة «البيت بيتي».. أفضل طرق للتعامل مع الزوجة المادية    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    انقسام إسرائيلي حول غزة يعقد سيناريوهات إنهاء الحرب    كمال الدين رضا يكتب: الكشرى والبط    مصر ترفض مقترح إسرائيلي بشأن معبر رفح    اسكواش - خماسي مصري في نصف نهائي بطولة العالم    بعد عرضه في «كان» السينمائي.. ردود فعل متباينة لفيلم «Megalopolis»    «السياحة» تلزم شركات النقل بالسداد الإلكتروني في المنافذ    تعرف على.. آخر تطورات الهدنة بين إسرائيل وحماس    كاميرا ممتازة وتصميم جذاب.. Oppo Find X7 Ultra    بنده السعودية.. أحدث عروض الهواتف المحمولة حتى 21 مايو 2024    الأمير تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    ميلاد الزعيم.. سعيد صالح وعادل إمام ثنائي فني بدأ من المدرسة السعيدية    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    لا عملتها ولا بحبها ولن نقترب من الفكر الديني.. يوسف زيدان يكشف سر رفضه «مناظرة بحيري ورشدي»    نتيجة الصف الرابع الابتدائى الترم الثانى.. موعد وطريقة الحصول عليها    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جموع من الناخبين تحتشد داخل اللجان في انتظار المرشح الذي يشتري أصواتهم
نشر في القاهرة يوم 04 - 01 - 2011

هذه هي اللجنة الأولي ويرأسها أحد الأصدقاء من القضاة، وهو رجل طيب العنصر دقيق في عمله في غير شطط، وجدته قد فتح المظروف الذي يحتوي علي أوراق التصويت ومضي يعدها ويطابق بين عددها والرقم المكتوب علي المظروف، وكان يساعده أعضاء اللجنة ووجدت مندوبي ووكيلي كلا في مكانه.
وركبت سيارتي ويممت شطر اللجنتين الثانية والثالثة لوجودهما في بناء واحد فإذا المندوب الأصيل في اللجنة لم يحضر، وكان هذا المندوب هو الشيخ «عليش» حامل العكازين، ويظهر أن عاهته كانت سببا في تأخيره وحمدت الله علي أن المندوب الاحتياطي قد أقبل في الميعاد فحل محل الشيخ «عليش» ووجدت أن الصندوق المعد لإيداع أوراق التصويت موضوع بحيث لا تراه أعين أعضاء اللجنة فرجوت الرئيس أن يضعه علي كرسي حتي تكون فتحته تحت نظر الأعضاء جميعا، فقبل مني هذا الرجاء وأعجب مندوبو الخصوم بهذا الرأي.
واتجهت بعد ذلك إلي اللجنة الرابعة وكان رئيسها بطيئا كل البطء ووجدته لم يسمح لمندوبي بالحضور فلما سألته عن السبب؟ قال بأن القانون قصر عدد المندوبين علي ثلاثة فقط وأنه أجري عملية قرعة بين المندوبين الخمسة فأخطأ مندوبي التوفيق، فأفهمته أن قانون الانتخاب قد ناله التعديل وأن من حق مندوبي الحضور وأن عملية القرعة قد ألغيت من القانون وأن اللجان الانتخابية الأخري لا تجري علي هذا الوضع الذي اتبعه وأنها سمحت لكل مرشح أن يعين مندوبا عنه في اللجنة فضلا عن الوكيل، وسألته إن كان لديه نسخة من القانون فأجاب بالإيجاب ورحت أطلعه علي النص والتعديل والتفسير الواجب الأخذ به فلم يطمئن إلي هذا القول وعمد إلي التليفون يستفتي المحافظة فأفتوه بصحة تفسيري فاعتذر إلي ورجاني أن أبحث عن مندوبي وأستحضره.
فخرجت من اللجنة للبحث عن المندوب وللذهاب إلي اللجان الأخيرة فوجدت جموعا كثيرة من الناخبين وغير الناخبين وقد اكتظت بهم الطرق وامتلأت بهم المقاهي القريبة من اللجنة.
وسرت توا إلي اللجنة الخامسة فوجدت رئيسها نشيطا وهو الوحيد الذي كان قد بدأ في عملية التصويت وكان المعلم «زكي» قد استحضر عددا من الناخبين في سيارته وقد دخلوا أمامي ليعطوا أصواتهم وقد سرتني هذه البداية إلا أنه لم تمض علي ذلك فترة حتي وجدت أن المصوتين في هذه اللجنة كانوا يمنحون أصواتهم لأحد المرشحين. وقد نال عددا كبيرا من الأصوات.
هتافات لا جدوي منها
خرجت من هذه اللجنة وسرت في طريق العودة فصاح كثير من أنصاري هاتفين لي وتكأ كأوا علي السيارة وارتقوا حواجزها الأمامية والخلفية ورفارفها فصحت بهم أدعوهم إلي النزول فإن هذا الهرج لا خير فيه في هذا اليوم الخطير بل فيه مضيعة للوقت وأنا أشد ما أكون حاجة إلي الدقيقة الواحدة فإن الوقت يمر سريعا فلم يستمعوا إلي هذا القول بل استمروا في هتافهم وتصفيقهم وكانوا يضربون سقف السيارة بأكفهم فاضطررت إلي النزول منها ورحت اقنعهم وراح العقلاء منهم يفهمون الأغبياء وأخيرا أمكنني أن أشق طريقا لي في جموعهم.
ومرت بي سيارة نقل كبيرة قد اعتلاها عدد كبير من الغلمان الصغار والفتيات الصغيرات وكانوا يدقون الطبول وقد استأجرهم أحد المرشحين ليسيروا في جميع شوارع وأزقة الدائرة ليهتفوا باسمه طول النهار.
وكنت أحسب أن هذا العمل صبياني بحت فما جدوي هتاف هؤلاء الصبية إلا أني سمعت الناس يقولون فيما بينهم بأنه يغلب علي الظن أن فلانا - مستأجر الصبية- هو الذي سوف ينجح فإنه أحدث ضجة كبيرة.
والحق يقال إن هتاف هؤلاء الصبية كان يدوي في الآذان في استمرار وإلحاح وأصبحت الاسماع واقعة تحت تأثير هذا الاسم المدوي وكان الناخبون وجميعهم جهلاء واقعين تحت تأثير الطبل والزمر والهتاف فانساقوا مع التبادر دون علم أو وعي لعل الناخب الجاهل سأل نفسه من ينتخب فدوي في أذنه حينذاك هذا الطبل وهذا الهتاف - فلينتخب صاحب هذا الاسم الذي يهتف به الصبية.
هذه الدعاية السخيفة كانت أبعد أثرا مما كنت أقدر علي الناخبين الجهلاء، أما العقلاء فلم يفكر أحد منهم في الحضور لاعطاء صوته بل ضنوا بأصواتهم وخشوا أن يقال عنهم إنهم قد نالوا نقودا مثل غيرهم لاعطاء أصواتهم. فمالهم ولهذه الشبهة وهم كرماء يعتدون بأنفسهم.
ساءني اعتداد العقلاء بكرامتهم وعدم حضورهم لتلبية واجب وطني، فاقتصر التصويت علي الدهماء.
تهديدات المعلم حسنين
وعدت إلي اللجنة الأولي فقابلني «ناصر أفندي» وهو يقول إن باقي المرشحين يبحثون عنك لأنهم وجدوا أن أحدا من رؤساء العمال وبعضا من مشايخ الحواري يساعدون جهرة المرشح الخامس ثم أشار «ناصر أفندي» إلي رجل أسمر الوجه يرتدي جلبابا كحلي اللون ويلتفع بعباءة سوداء ويضع علي رأسه طربوشا.
- هذا هو المعلم «حسنين» إنه رجل خطر فهو يقترب من الصفوف ويهدد الواقفين أمام باب اللجنة بوجوب انتخاب المرشح الخامس، وانظر إلي هذا الأفندي التي يفتل شاربه إنه شيخ التُّمن وهذا أخطر من صاحبه، فصحت غاضبا موجها كلامي إلي شيخ التُّمن.
- أنت يا أفندي أنت. لا تقف هنا.
قال: أين تريد أن أقف؟ إن عملي في القسم.
قلت: نعم عملك في القسم لكن ابتعد عن صفوف الناخبين ولا تقترب منهم ولا تؤثر عليهم وإذا حاولت الكلام معهم فإني أقبض عليك في الحال، هل فهمت؟ ابتعد! مالك تتلكأ؟ هيا ابتعد.
ثم وجهت كلامي إلي المعلم «حسنين» وقلت: اسمع يا معلم «حسنين» إني قد سمعت باسمك من قبل وأنا أعلم أنك لست من الناخبين في هذه الدائرة فأرجوك أن تخرج من القسم في الحال.
قال: إني من رؤساء العمال ولي أعمال في القسم.
قلت: ليس لك أي عمل في القسم هذا اليوم فاخرج في الحال وإلا أخرجتك بالقوة.. هل أنت سامع ما أقول؟
فتلكأ ذات اليمين وذات الشمال، فصحت بالضابط المعين للمحافظة علي النظام:
- اسمع يا حضرة الضابط إني أراك ساكنا لا تبدي قولاً ولا تشير برأيي مع أني أعتبر نفسي معتديا علي اختصاصك وكنت أرجو أن تحافظ علي النظام، فاستعمل سلطتك واطرد هذا الرجل.
قال الضابط متراخيا: يا معلم «حسنين» قلت لك تسعين مرة اخرج فاتجه المعلم «حسنين» نحو الباب متباطئا.
وأتاني أحد المرشحين وقادني إلي خارج القسم وقال: إليك هذا الشاب فإنه قد أدلي بصوته مع أن التذكرة التي يحملها ليست له فماذا نفعل؟ فسألت الشاب عن اسمه؟ فتبين لي أنه ليس الاسم الوارد في التذكرة وعلمت منه أن الذي أعطاه التذكرة لم يكن غير المعلم حسنين.
وكان الشاب قذر الثياب ممزقها وكان متعبا مجهدا كأنما لم ينم منذ أسبوع، ولم أجد بدَّا من اتخاذ اجراءات القبض عليه واثبات واقعة التزوير ولو أني كنت في الواقع أعطف عليه عطفا كبيرا.
فأخذته إلي رئيس اللجنة وطلبت تحرير محضر بالواقعة وأحيل الشاب المسكين إلي النيابة لإجراء التحقيق.
الناخبون يطالبون بأجر
واقترب مني «ناصر أفندي» وأسر إلي أنه عاجز عن إحضار الناخبين فإنهم يطالبون بأجر عن انتقالهم وأن جميع المرشحين يدفعون أجورا قلت: وما رأيك؟
قال: لا حيلة لنا فيجب أن نجاري التيار.
قلت : وماذا تطلب؟
قال: هات عشرة جنيهات الآن.
فأعطيته المبلغ ومضي يجري فرحا وهو يقول: سوف تري الآن كيف يقبل الناخبون ويمنحونك أصواتهم.
وقد بر «ناصر أفندي» بقوله حقيقة وكانت أكثر الأصوات التي نلتها نتيجة مجهوده العنيف.
ورحت أبحث عن السيارات وعن عملها فوجدت سيارة في أحد الشوارع وقد وقف أخي الصغير بجانبها وعلمت منه أن عجلتها الأمامية قد انفجرت، ورأيت سيارة أخري مع نصير من الأنصار ولم يكن بها أحد من الناخبين فلما سألته عن السبب قال بأن صاحب المقهي الذي حضر إلي المكتب في صحبة أحد المدرسين كان قد وعد باستخدامها لاستحضار رجاله ولكنه فشل، فعجبت وقلت : إذن لماذا استحوذ مني علي خمسة جنيهات مادام عاجزا ولا تأثير له علي الناخبين.
واتجهت إلي اللجنة التي يشرف المعلم «زكي» علي ناخبيها فما أن مررت بالشارع حتي صاح بي الكثير من الشبان يسألونني عن المعلم «زكي» ويقولون بأنه قد سخر منهم وخدعهم وتحصل علي تذاكرهم وهم يبحثون عنه فلا يجدونه ويقولون عنه بأنه هارب منهم.
فمضيت إلي دكانه أبحث عنه فلم أجده ولم أجد السيارة المخصصة له ولم أعلم حتي يومنا هذا ماذا فعل المعلم «زكي» وأين ثمار أعماله وأين التذاكر الكثيرة التي احتفظ بها وأين أصحابها وأين أصواتهم، إنني عندما أجريت العملية الاحصائية وجدت أن عشرة من الأصوات فقط أعطيت لي في هذه اللجنة التي كان يشرف المعلم «زكي» علي الناخبين فيها.
لقد استولي علي مبلغ كبير من المال للانفاق علي الناخبين فأين مظاهر هذا المال وآثاره..؟ إنني لم أجد أثرا .
هل في الأمر خيانة ومن الخائن، هل هم الناخبون الذين وعدوا ونقضوا العهد أم المعلم «زكي» الذي احتفظ بالمال لنفسه.
ورأيت «عبدالرؤوف» راكبا عربة من عربات الركوب وفي رفقته خمسة من الناخبين وهو متجه إلي إحدي اللجان لاعطاء الصوت فأشار إلي من بعيد أنه نشط في عمله وهأنذا أراه يعمل تحت نظري، ولكني سألت نفسي أين السيارة ولماذا يركب عربة، وكنت أفكر في الإشارة إليه بالوقوف إلا أني خشيت تعطيله.
حق الدخان
كان علي أن أكون دائم التنقل بين اللجان لا أري في إحداها حتي أكون بعد دقائق معدودة قد انتقلت إلي أخري، وبينما أنا واقف في الساحة الخارجية لإحدي اللجان إذ اقترب مني شقيقي الكبير وأنبأني أنه لاحظ أن الناخبين لا يرغبون في اعطاء الأصوات وأنه توجد جموع كثيرة منهم في انتظار المرشح الذي يمنحهم مالاً لأجل عطلتهم فيلبون طلبه ويمنحونه أصواتهم.
قلت: إني لا أدفع مالا وللناخب الحرية في أن يسير وفق الخطة التي يريد. فسكت وهو يهز رأسه آسفا لفوات الفرصة في الانتفاع بأصوات حملة التذاكر الذين ينتظرون.
وبينما أنا في ذلك إذ سمعت صائحا يقول: ها هو الأستاذ فلان تعالوا يا جدعان. وأحاط بي عدد من الشبان والرجال يبلغ عددهم ثلاثين نفرا.
قلت: خيرا.
قال أول صائح: إحنا مستعدين لانتخابك يا أستاذ.
قلت: متشكر. اتفضلوا ادخلوا اللجنة.
قال: مافيش مانع احنا ثلاثين واحد أهه.
قلت: عال.
قال: إيه رأيك بقي يا أستاذ.
قلت: في إيه؟
قال: بس يعني ولو حق الدخان، لامؤاخذة احنا سايبين شغلنا مخصوص.
فاحمر وجهي غيظا وكدت أثور في وجه محدثي إلا أني وجدت ثلاثين من الأبصار تترقب العبارات التي توشك أن ينطلق بها لساني ردا علي سؤال المتكلم وكان يقف مني غير بعيد فريق من الشرطة علي رأسه أحد الضباط ووقف في ركن آخر من أركان الساحة جمع كبير يتوسطه مندوب من مندوبي أحد المرشحن وكان في مساومة معهم وقد بلغت حدتها، فاشمأزت نفسي من هذه المظاهر الكريهة التي لم يكن يتوقعها المشرع عندما وضع قانون الانتخاب أو أنه افترض حصولها لكن ليس علي هذه الصورة القذرة المفضوحة.
ونظر إلي شقيقي نظرة استعطاف واسترضاء.. فقلت له:
- افعل ما يحلو لك.
ثم انسحبت من بينهم وأنا ساخط علي الذي اقترح إعطاءهم حق تقرير المصير، ومضت فترة ما أقبل إلي شقيقي بعدها وهو ثائر النفس ونبأني أنه تحدث إلي جماعة الناخبين الذين عرضوا أصواتهم وأنه طلب إليهم أن يقفوا صفا واحدا ليتمكن من عدهم وليعلم هل هم يبلغون الثلاثين نفرا أم لا، وكان كلما عد من الواحد حتي الخامس يخرج المعدودون من الصف ويقفون في آخره حتي يخطئ الحساب ويبلغون الثلاثين كما يدعون إلا أنهم في الواقع لم يكونوا غير عشرين فردا ولما اطلع علي تذاكرهم الانتخابية اتضح له أنها مؤشر عليها بما يفيد استعمالها وسبق التصويت بها وأنهم كانوا يريدون أن يغتالوا نقودنا.
وجلس أبي في مقهي قريب من إحدي اللجان وعلم بعض الناس بالصلة التي تربطني بهذا الرجل الكبير فمضي يحوم حوله ويتحدث عن المرشحين وعن الذي يجب أن ينجح منهم وأن لديه عددا كبيرا من الناخبين ولكنهم لا يرغبون الدخول للتصويت إلا إذا نالوا نقودا ولا أدري كيف عثر والدي الشفيق علي هذا الدعي المحتال فأعطاه مبلغا ما وكأني به وهو يدفع المبلغ كان يريد أن يكون له جهد معين في نجاح ابنه حتي يكون أسعد وأكثر سرورا بالنتيجة مما لو وقف من المعركة موقفا سليما.
ويممت شطر اللجنة التي كان نشاط «ناصر أفندي» منحصرا فيها ووقفت بجانب مندوبي في اللجنة فاطلعني علي بيان بالأصوات التي أعطيت فوجدت أني نلت عددا كبيرا منها وفي الحق كان «ناصر أفندي» في حركة دائمة منذ الصباح المبكر وكان لا ينفك مقبلا مدبرا ذاهبا آيبا وهو يصحب الناخبين وعدت إلي اللجان التي تركتها فإذا نسبة الأصوات التي نلتها لا تذكر أمام العدد الكبير من الأصوات التي نالها اثنان من المرشحين وكان أنصاري يطالبون بوجوب البذل والعطاء وأفهموني أن الناس وقوف ينتظرون التصويت ولكني كنت عاجزا عجزا ماليا تاما ولم يتيسر لي مجاراة التيار العنيف وكنت أشك في صدق الناخبين وإخلاصهم فيها هو رئيس النقابة يقود عماله ليعطوا أصواتهم لمرشح آخر بعد أن رفض الركوب في سياراتي وها هو الرجل الذي أضافني في منزله وسقاني الشاي واللبن قد انضم إلي معسكر آخر وهاهو المعلم «زكي» قد اختفي من الوجود وهاهم بعض الناخبين قد أرادوا الاحتيال علينا.
إنني لم أقبل شراء الأصوات ولم أقبل الكثير من عيوب إجراءات الانتخاب ولكن غيري لم يجد متسعا من الوقت للتفكير في هذا جميعه بل إنه كان أقدر مني وأوفر مالاً فكان له نصيب الأسد في عدد الأصوات التي احتوتها صناديق الانتخاب.
فلوس.. فلوس..
تقدم بنا النهار وكانت عجلة الزمان ماضية لا تتمهل وما كنت أحسبها سريعة سرعتها في ذلك اليوم الذي لم تبق لي غير ذكراه المفجعة.
كنت فيما سلخت من أيام أمست في عداد الماضي وأضحت جزءا من التاريخ أشعر بالزمن ثقيلا لا يتحرك وكانت عجلته بطيئة لا تكاد تدور وكنت رازحا تحت أحمال وأعباء من النظم الحربية الانتخابية وما كان نشاطي الشديد ليفتر أو يناله الكلال وما كان اصراري العنيد ليعرف تخاذلا أو انحلالا إلا أني كنت أصبو إلي الشخوص ليوم المعركة وكانت متاعبي هي التي جعلتني أقيس المسافة الزمانية بمقاسها العجول الذي يريد اختزال الزمن واقتراب الساعة حتي تزول هذه المتاعب وينآي ذلك الشقاء المقيم.
فلما أن حل يوم المعركة وحاولت جهدي أن أحوز اكثرية الأصوات وطوفت في جميع اللجان وشاهدت حركة التصويت وأحصيت عدد الأصوات وتبين لي قلة مانلت منها كنت أشتد في الطواف وأجول هنا وهناك استحث الأنصار والأعوان.
وكانت عجلة الزمان ماضية إلي الأمام لا تلوي أعنتها ولا تنظر إلي الوراء وكنت كمن يستنجد بالناس، الحقوني اغيثوني، إن الزمن يمضي، قد انتصف النهار، كم الأصوات التي عددتها أيها المندوب، الحق يا «ناصر أفندي»، اجتهد يا «عبدالرؤوف»، ابحثوا أيها الناس عن المعلم «زكي».
وكانت عجلة الزمان تمضي.
مالت الشمس وكانت الساعة الثالثة، أيها المندوبون كم العدد هنا عشرة أصوات وهنا ثمانون صوتا وفي هذه اللجنة سبعة عشر صوتا وفي تلك ثلاثون صوتا.
تهامس أبي وأقربائي . وتساءل الأنصار والأعوان وأفرغوا ما لديهم من جهود ولكنهم كانوا يصيحون، المال! المال! اننا نريد نقودا لنجلب الأصوات ولكني كنت في عجز وأصابني العجز بالذهول ولم أكن أعي غير حقيقة واحدة. وهي أن عجلة الزمان كانت ماضية لا تقف وبدت لي حينذاك سرعتها الهائلة فقد كنا في صدر النهار وقد كنا في فجر اليوم منذ حين قصير وقد شاهدنا الغزالة وهي تشرق علي الكون وتضيء علي قوم متفائلين غارقين في خضم من الآمال العريضة فلما أن تكبدت الشمس صدر السماء وجنحت إلي الغروب وأرسلت من بعيد خيوطا من الأضواء الأرجوانية الباهتة نذيرا بانقضاء اليوم وبوقف حركة الانتقال للتصويت، حينذاك أحسسنا بائن سهم القضاء منطلق إلينا لا يتحول.
دقت الساعة الخامسة فأعلن رئيس كل لجنة ختام العملية وحملت الصناديق إلي اللجنة الرئيسية بعد أن ختمت بالشمع الأحمر.
غرفة الفرز
هنا في هذه الغرفة الواسعة التي يجلس فيها رئيس اللجنة ومعاونوه أعلن انتهاء المعركة الانتخابية.
وهنا في هذه الغرفة سيتقرر مصير المرشحين وسيعلن اسم الفائز الذي يلقب بالنائب المحترم.
امتلأت القاعة واكتظت بالناخبين والمندوبين والوكلاء، أما المرشحون فقد جلسوا محيطين باللجنة وهم ينظرون شاخصة أبصارهم راجفة قلوبهم لامعة عيونهم متجهمة وجوههم منقبضة أساريرهم وكانوا يعدون أو كان وكلاؤهم يعدون لهم الأصوات وكان الرئيس يضع الأوراق مكدسة أمامه بعد تفريغها من الصندوق الواحد ثم يفرزها ورقة ورقة في مواضع خمسة من مائدة عملية الفرز، وقد كان يضع جانبا الورقة التي خالف الناخب في تحريها نص القانون.
فهذا ناخب شطب اسم المرشح بدلا من أن يسود الدائرة البيضاء الموضوعة أمامه.
وهذا ناخب وضع علامة «صح» الذي يؤشر بها معلم الحساب في دفتر تلميذ أمام عملية من عمليات الحساب.
وهذا ناخب وقع بامضائه علي الورقة.
وهذا ناخب كتب اسم المرشح ولم يكتف بقراءته مكتوبا علي الورقة أو لعله قرأ الاسم ولكنه أراد أن يؤكد صدق عزمه في الاختيار.
هذه كلها أصوات ضائعة لناخبين جهلوا كيفية التصويت وكان من المنظور أن تضيع أصوات كثيرة لولا أن أكثرية الناخبين من الجهلاء فكان رؤساء اللجان يتولون تسويد الدائرة البيضاء بدلا عن الناخبين.
كانت تحرس باب لجنة الفرز قوة من رجال البوليس علي رأسها ضابط تزين كتفه ثلاثة من النجوم ولم يكن وجهه ليبتسم قط وقد عرفت فيه ذلك الضابط الذي أراد منعي يوما من الخطابة في الطريق العام.
ذكريات أيام النضال
كنت قد دعيت للكلام في طائفة من طوائف العمال وقد أفهمني الداعي أن الساعة الخامسة هي أوفق الساعات ذلك لأن المصانع تكون قد انتهي عملها اليومي فيخرج العمال زرافات ووحدانا ويؤمون المقهي القريب.
وقفت علي مائدة من الرخام وأحاط بي الناس من جميع الجهات ووقف بعضهم علي رصيف الشارع المقابل، وكنت شبيها في موقفي ذاك ببائع العنبر والزيوت الذي ينتهز فرصة صلاة الجمعة فيقف بالقرب من أحد المساجد وقد التف حوله المصلون بعد انتهاء الصلاة وهو يصيح فيهم مرغبا أياهم في شراء عطوره وعنبره الذي يمنح الكهول القوة والشباب وحميا الصبا.
وكانت السيارات الحربية رائحة غادية في كثرة وضجة وهدير، وكنت أصيح حتي يغلب صوتي ضجيجها وعجيجيها وقد أجهدني الصباح وتقاطر مني العرق وظهر من بعيد هذا الضابط وهو مقبل نحوي فلم أعبأ باقترابه وإنما مضيت أخطب وأصيح حتي حاذي المائدة التي وقفت عليها وقال لي - هذا ممنوع يا أستاذ.
فغاظتني مقاطعته لي أثناء خطابي واضطررت إلي أن أترك ما أنا فيه وأن أرد عليه - لا بل مسموح.
قال- هذا طريق عام والاجتماع في الطريق العام مخالف للقانون.
قلت - هذا اجتماع انتخابي والاجتماعات الانتخابية مسموح بها.
قلت- يجب أن تخطر عن الاجتماع فهل أخطرت حضرتك.
قلت - لا داعي للاخطار وأنت لا تملك فض الاجتماع إلا أن يكون في ذلك إخلال بالأمن العام والنظام.
قال- هناك إخلال بالنظام لأنك تعطل حركة المرور.
فقال ناصر أفندي - ان هناك مرشحين آخرين يخطبون الآن في شوارع أخري في الدوائر الانتخابية الثانية فلماذا لا تمنعوهم.
قال الضابط - أنا لا شأن لي بالدوائر الأخري.
فقال ناصر أفندي - علي كل حال الأستاذ أوشك علي الانتهاء.
وقلت- يا حضرة الضابط المسألة بسيطة وسوف لا أطيل و.. وطلبت من المستمعين أن يدعوا طريقا كافيا لمرور السيارات.
فوقف الضابط غير بعيد يفكر في الخطة التي يتخذها نحوي ومضيت أخطب ولكني في الحق لم أكن أدري الموضوع الذي كنت أتحدث عنه فلم ألق بالاً إلي ما كنت أتحدث فيه وإنما عاودت الكلام علي كل حال فليس يريد الناس إلا أن يتكلم المرشح ليعلموا مكانه من المرشحين ولست أريد إلا أن أتكلم وكفي.
وكنت اتطلع إلي الوجوه واتفرس في العيون وكانت لا تفوتني حركة من حركات السامعين ولا إشارة من اشاراتهم وأني أعتقد أن الخطيب رغما من استرساله في كلامه فإنه يكون حاضر الذهن يلم الماما شاملا بجميع ما يدور في الجمع الذي يتحدث إليه وكأنما هو مكون من عدة قوي أو ارادات تسيطر كل منها علي موهبة من المواهب.
حينما رأيت هذا الضابط علي باب قاعة الفرز لم أكن ساخطا عليه أي سخط بل بادرته بالتحية.
صناع التأمين
ومضي الرئيس يعد ويفرز تحت الأنظار المشرئبة.
وقال مرشح فيما بينه وبين نفسه حينما وجد اسمه في آخر القائمة.
- يا خسارة فلوسك. ألف جنيه ادخار العمر كله.
وقال مرشح - لا تهمني النقود فالنقود يمكن تعويضها، أنا تهمني صحتي فقد نقص وزني عشرة كيلو. ولكن الحمدلله سأدخل في انتخاب الإعادة.
وقال مرشح قنوع - الحمد لله سوف أحصل علي التأمين.
وأما أنا فكنت أدور بنظري في أنحاء القاعة أبحث عن الأنصار الهاربين.
بلغت الأصوات الفاً وسبعمائة صوت لم أنل منها غير مائة وسبعة وستين.
سقطت وضاع التأمين. وكان يجب أن أحصل علي عشر عدد الأصوات أعني علي مائة وسبعين صوتا.
ان ثلاثة من الأصوات افقدتني مائة وخمسين من الجنيهات.
ان خمسة من الناخبين الأغبياء الذين استبعدت اصواتهم لجهلهم عملية التصويب أضاعوا علي هذا المبلغ.
وقال المشاهدون البعيدون عن عملية الانتخاب الجاهلون بالمعركة - سقط فلان ولم يسترد التأمين.
بعد الهزيمة
لم أذق طعاما في ذلك اليوم ولم أحس جوعا فقد استغرقتني المعركة ولم يكن لدي متسع من الوقت للتفكير في حاجات الجسد.
وعدت إلي المكتب مساء تجللني الهزيمة وتعلو سيماي الكآبة ويفتر ثغري عن ابتسامة اردتها ساخرة فجاءت مريرة تنم عن حزن عميق.
وجلست أمام مكتبي بعد أن أضأت النور الكهربائي وأحاط بي سكون ثقيل وكانت تدوي في أذني أصوات كثيرة مختلطة، بعضها عنيف وبعضها خفيف، بعضها رائع بعضها وادع.
هتافات صاخبة، ضجات عالية، زغاريد، تصفيق، سيارات تدوي ابواقها .. نداءات .. دعوات.
مضت كل هذه الأصوات تدوي في أذني فاغمضت عيني وغبت في سبات عميق فمرت أمام ناظري اطياف عدة للأشداء والأنصار والمظاهرات والجموع والسرادقات والمقاهي والحفلات والخطباء.
وفتحت عيني بعد قليل أني كنت أحلم وأصبحت هذه الصور المختلفة في ذمة الماضي البعيد القريب.
ولاحت مني نظرة إلي حوائط الغرفة فلم أجد صورتي الشمسية في مكانها تلك الصورة التي أخذت لي في أوائل عهدي بمهنة المحاماة هذه المهنة التي كنت سعيدا بانتسابي إليها فبدأت حياتي فيها بأن ارتديت رداءها الأسود وأنا معجب بنفسي إذ صرت محاميا ورأيت أن أجعل لهذا التاريخ تذكارا ثابتا.
عجبت كيف أن هذه الصورة الكبيرة التي أحاط بها إطار مذهب من الخشب السميك لم تكن في مكانها المعهود من الحائط وقد ظلت معلقة عليه زهاء الستة عشر عاما.
قمت في التو من جلستي واتجهت إلي مكان الصورة فإذا بي أراها مهشمة الزجاج مخدوشة الرسم ملقاة علي الأرض.
هنا في هذا المكان سقط جندي آخر من جنود المعركة، كنا توأمين متلازمين وصديقين غير منفصلين هو يمثل الماضي، وأما أنا فكنت مثل الحاضر.
ولكن ما هذا الارتباط العجيب الذي كان بين سقوطي في المعركة وسقوط هذه الصورة من مكانها.
حضر الفراش وفحصها ثم قال - لقد انحل الخيط الذي يحملها فسقطت، معقول أن يبلي الخيط طيلة هذه السنوات فلا يحتمل ثقل الإطار فينقطع ولكن لماذا لم يسقط الإطار إلا يوم المعركة بالذات هل انتقل إلي الصورة احساس بالألم فأتت حركة فيها اشمئزاز وتبرم فعجلت الحركة سقوطها ولم يحتملها الخيط.
آلمني كل الألم هذا الإطار المهشم وزادني في الحياة تشاؤما وتبرما وكنت أعتقد أن الصورة لم تهو إلي الحضيض إلا رغبة منا في الاشتراك في هذا الجو الحزين وقد زاده هذا الاضطراب حزنا صامتا وكآبة شاملة.
كابوس السقوط
كان كابوس الانتخاب هائلا مروعا حاولت جهدي في اليوم التالي أن أفلت منه وأن اتخلص من قبضته ولكنه ظل جاثما فوق صدري وقد بسط جناحيه الاسودين الكبيرين وكان شبيها بذلك الطائر المفترس الذي حدثتنا عنه قصة ألف ليلة وليلة.
وعدت ازاول عملي وأنا أحس أني غريب عنه وأني في حاجة للتعرف عليه وكنت انادي نفسي من مكان بعيد وكانت تجيبني وكأني بعيد عنها أميالا وفراسخ.
ورحت استعيد نشاطي إلي العمل رويدا رويدا وتتهيأ لي أسباب الانشراح شيئا فشيئا وكان يضايقني ويستفزني أن يستثير أحد في خيالي ذكري المعركة.
كنت أريد أن انسي أني رشحت نفسي وفي الحق ان آلمي كان حادا وكان يحز في سويداء القلب حزا عميقا وكنت كلما استعدت ذكريات المعركة ومرت أمام ناظري الصور المختلفة للجموع الجالسة في المقاهي أو الواقفة في الطرق تستمع إلي خطبي أو الغلمان الهاتفين وهم يصخبون ويضجون أو إذا طرقت أذني من بعيد أحاديث الأنصار أو نداءات المأجورين أو إذا شاهدت وأنا في مثل غيبوبة الحالم وقوفي كالحاكم بأمره أمام اللجان الانتخابية أنظم عملية التصويت وأعنف رجال البوليس.
إني كلما استعدت هذه الصور الشتي كان يثور الألم في نفسي ويشتد وإذا ما غابت هذه الصور النفسية ورحت أفحص أوراقي واصفي حساب النفقات كان يمر بي ألم جديد من نوع آخر هو ضياع تلك الأموال الطائلة التي ما اجتمعت تحت يدي إلا بعد كد وتعب وإرهاق.
ولكن للمعركة ذيولا لا تريد إلا أن تبدو أمامي تعكر رغبتي في النسيان فهذا ابن عم لي قد أقبل في أمسية من أمسيات مستصحبا بعض الأفندية وكان أحدهم قد احتال عليه يوم المعركة واستولي منه علي عشرين جنيها للقيام بتوريد ثلاثمائة من العمال لاعطاء اصواتهم وكان هذا المحتال يقول بانه مستعد لأن يحضر تذاكر انتخابية ومعها عمال كما أن في إمكانه أن يحضر تذاكر فقط علي أن يتولي ابن عمي جلب العمال وأن التذاكر المصحوبة بالعمال لها ثمن أكبر من التذاكر الغير مصحوبة بعمال وقد استولي المحتال علي النقود ولم يستحضر عمالا ولا تذاكر.
وكان ابن العم حسن الطوية فاحضر لي هذا المحتال لإخلاء مسئوليته في ضياع المال أو لعلي أقدر علي استرداد بعض تلك النقود.
ثم هذا حوذي يقابلني ليلا في الطريق ويقول : يا بيه أنا لم آخذ أجري.
فالتفت إليه وأنا أعجب لهذا الرجل الذي لا أعرفه، أي أجر يا هذا!
- هل نسيت حضرتك؟ ألم تركب معي يوم الانتخاب ودخلت اللجنة ولم تعطني الأجر وطلبت مني الانتظار.
قلت بعد أن ذكرت الحادثة التي مضي عليها ثلاثون يوما- صحيح هو أنت ؟ قال: نعم.
فنفحته نقودا فقال - الله يخليك يا بيه.
ومضت ثلاثة من الأشهر جلست خلالها أضع هذا الكتاب أدون فيه هذه الذكريات المليئة بالعظات وهذه الصور المتعددة للبيئة الاجتماعية في الكثير من حالاتها وما أن بلغت من الكتاب خاتمته حتي فوجئت بهذا الخطاب ترسله لي بلدية الإسكندرية فكان مسك الختام:
حضرة المحترم الأستاذ حنفي محمود جمعة المحامي
نتشرف بالإفادة بأن مندوبي البلدية وجدوا إعلانات انتخابية لصالحكم من لصق ونقش علي الحوائط بالجهات الموضح بيانها في الكشوف المرافقة .
وبما أن هذه الإعلانات مخالفة للمرسوم الشامل للائحة الإعلانات الصادر في يوليو سنة 1938 فقد رأينا مخابرة حضرتكم وديا برجاء إزالة هذه الإعلانات علي نفقتكم في بحر اسبوعين علي الأقل حتي لا تضطر البلدية لتنفيذ القانون بتحرير محاضر مخالفات وبإجراء الإزالة والرجوع عليكم بالمصاريف.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
المدير العام بالإنابة
تمت في 11 أبريل سنة 1945
استدراك: الأسماء الواردة في هذا الكتاب خيالية ولا تتصل بأحد من الأحياء ولهذا لزم التنويه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.