في بيتها يندر الأثاث.. الجدران تعلو ببياضها الحليبي، وشفيف الستائر يذوب في الشعر والنخيل. بعد القيلولة تستيقظ علي كرسيها الهزاز، تنفض بعينيها قبة الصحراء، تطرق باب الأنا.. تسأل عن زهرة نفسها المربدة... تصفر ريح الفرار، وتضرم النار في كتبها ومساحيقها وقارورة عطرها، وأمطار أخري من كلام لا يباح.. خفَتَ ضجيج الحاسة السادسة في مرايا الغيب.. انشدّ خصرها، وتكوّزت أردافها.. هرولت إلي هيكل الليل تعضّ "علي العناب بالبرد"، فغني الصيادون قواربهم قبل لقاء ناموس البحر.. واستمر العرض. دلقت أقداحاً من عَرَق حب الآس في جوفها.. تقبّلت البقاء علي مرسح الحياة، وتخصصت في طب الأطفال. عند سفوح الرز اكترت عيادة، واستقبلت مرضاها.. وعلي سرير المعاينة والمشهد ارتعشت الأشياء الصغيرة، ووشت لها بنماء الحكايا في كهوف الذات.. اغتسلت ببقعة الضوء، وتمسكت بمواعيد الحياة وإبريق البابونج المغلي في يوميات الذهاب للعمل. كانت طفلة.. حوّطوا عنقها الطريّة بفولار مثلثي. شبكوا سيدارتها الزورقيّة بشعار الدرع الحصين، وعلي مقعد الدرس حفّظوها التحية، والتصفيق، وقانون التنظيم.. لم يعلموها كيف تربط العقد البحرية.. ولقنوها شدّ رباط المشانق علي المراجيح وبحات الناي الجريح.. وعند أعالي الكرز وطيارات الورق، اقتادوها عبر السهل إلي معسكرات تجميع الشعور والعهود الخالدة، قرب منبع نهرٍ كان خببه يوقّع مدينتها الراحلة ولم يعد.. لم يرد عنها في موسوعة الأعلام أكثر من أنها نزيلة الفنادق ومواخير الاستلاب، أما البقية الباقية من أمطارها فأزيلت من توتياء الصفحات.. كادت تبشّر بربيع شعري واعد آن انصبّ الليل علي الفلاة، وجرحتها أشواك العبارة والمقرنصات.. بيد آثمة مدّت يدها لبذور الخروب، ونبشَتْ في قبر النجم القطبي ونبضات عكازها علي إسفلت الطريق.. حاصرها هذر المرافق الخاصة في كمثري حويصلتها الصفراء، ومحرقة تمائمها الخزفيّة.. لم تتوخي صوفيّة السقوط، رغم خفرها من صندوق دنياها تحت مجهر التشريح، لكنها قصدت الإدبار إلي غيابات الأبخرة في ذروة زنقات البصاق. ارتقت الخسوف إلي صفاء وهمها المرهف، فحَزَّتْ موس "كلب أندلسي" عينها اليسري في شاشة اللاشعور. تملصت من نور الحزن في عنبر عينها اليمني، وقبلت الدفن العجول لعينها النازفة في بهيم الليل. هرولت إلي قعر رابية الزيتون وراء صخرتها المتدحرجة، وهي تطبق علي صفاء الحلم في قمم بصيرتها والتخييل. لم يكن في حسبانها تسطير سيرة حجرية علي مسلة العائلة، ولا نقشاً بارزاً لحضورها.. عاشت كأضغاثِ أحلامٍ أخني عليها باطل الأباطيل، وككلبة ضالة أحاق بها الضغط الاجتماعي.. واحتدام صديد الضمير لدفاعها عن نشيد إنشادها بطعنات قاتلة.. أدينت في الحياة والممات، واحترقت ذكراها بأطياف ملعونة.. البعض أكد سوقيّة وجهها البدريّ، إلا أن جميع من اقترب منها فاح من ذاكرته حنين أطفأت محرك السيارة، سمّرت نظراتها في تقاطيع وجهه، متجاهلةً مزق صورتها في لفافة تبغ يمجّها علي الريق.. دوي طنين خلية نحل منكوبة بأدخنة مأزومة، خافت لسعه، وآثرت استئناف السفر كاثنين علي الطريق.. مكثت طويلاً قبل أن تركن السيارة، وهي تحشرج بدفلي الولادات المتعاقبة قبل الميعاد.. وعندما تأرجحا علي بهاء العشب، كانت الأحلام قد ولتّ مع الابن والبنات إلي ما وراء البحار، فترقبا عودة السراب في مجهول الأقحوان البعيد.. انتهت الحفلة في دار الأوبرا مع لمع البرق في الخارج.. تعطرت زفرات الشوارع بفيض الهمس، ورعدت السماء حين انصبا في الساحة العامة.. توجس سائق سيارة الأجرة من رجل يستقل المقعد الخلفي مع أنهار امرأة تحت المطر.. مكثَ دفق السمفونيّة منهمراً إلي أعالي تكومهما معاً.. ومع اقترابهما من سيول البناية التي يقطناها، اهتز النشوز في ميعة الأنغام، وترسّب فيها طمي الصباح التالي من روزنامة المماحكات.