تعالوا معي نسترجع الماضي قليلا.. ونري عبقرية رجل استشعر خطر التفرقة منذ ما يقرب من مائة عام مضت. وقبل أن يتكلم عنها.. جمال حمدان.. أوحت عبقرية المكان.. حيث الطبيعة الديمقراطية لقرية بهجورة.. بأن يقدم هذا الرجل عملا أو مشروعا يستفيد منه جميع أبناء قريته والتوابع المجاورة لها. وأن يكون هذا العمل.. مصدر خير لأبناء بلدته. هذا الرجل هو داود بك تكلا.. كان من أثرياء بلده بهجورة المجاورة لمركز نجع حمادي.. ومن أبناء مصر المخلصين والمتفتحين، أراد هذا الرجل ان يخدم أبناء بلدته، فقام يدعو أعيان القرية من المسيحيين.. وطلب منهم ان يقترحوا عليه مشروعا أو عملاً مفيدا يتبرع به، لينتفع به أهل القرية. وفي هذه الجلسة.. أقترح عليه الغالبية من أبناء القرية المسيحيين بناء كنيسة للعبادة.. حيث صغر حجم الكنيسة القائمة في ذلك الوقت. وبعد سماع وجهة نظرهم هذه.. طلب منهم الانتظار لفترة قصيرة، حتي يدرس الأمر ويعلنهم بقراره. فلم يمض وقت طويل لكي يتخذ قراره الذي توصل إليه، وكان القرار الذي اتخذه في أوائل القرن الماضي.. وهو التبرع ببناء مدرسة ابتدائية وثانوية للبنين والتي تعرف الآن بمدارس داود تكلا للبنين وكذلك بناء مدرسة ابتدائية للبنات باسم كريمته منيرة تكلا. وقال موضحا لأعيان بلدته من المسيحيين.. أن بناء الكنيسة سيعود بالفائدة علي المسيحين فقط.. إنما المدارس ستكون لفائدة مصلحة المسيحيين والمسلمين معا. ولعل هذه الرؤية تجسد عمليا وعلي أرض الواقع عبقرية المكان حيث يجمع هذا العمل طرفي القرية ويؤلف بينهما من خلال العلم والثقافة. والتي تؤثر بالتأكيد علي أعمال وسلوكيات الإنسان. ولعله من الأهمية بمكان ان نشير هنا، أن هذه المنطقة أي مدينة نجع حمادي وما حولها.. والتي استفادت من هذا المشروع العظيم، لم تحدث بها أحداث طائفية تزكر من قبل.. بل ان هناك شراكة وتعاون بين أبناء هذه المنطقة، ويشهد بذلك كل ابناء المنطقة وان ما حدث مؤخرا في نجع حمادي، يمكن تفسيره علي أنه عمل ارهابي ولكن بداوفع قبلية وثأرية، خصوصا وان الجناة لا يرتبطون بالدين في شيء، أي انه عمل غير طائفي. فقد كان داود تكلا.. سابقا عهده وزمنه.. بفكره المستنير والذي رفع شعلة العلم والتحضر في هذه المنطقة كلها. وقد قام السيد داود تكلا.. برصد أكثر من مائتي فدان (كوقف) للصرف علي هذه المدارس.. وعلي ان تتطور هذه المدارس.. لتصبح جامعة في المستقبل وقد بدأت هذه المدارس في قرية بهجورة منذ حوالي مائة عام مضت، واعتبرت بهجورة في ذلك الوقت من القري الفريدة في مصر كلها لوجود هذه النوعية من المدارس. وقد كنت أنا وغيري من أبناء بهجورة وعموم مركز نجع حمادي، من المستفيدين.. بقرار داود تكلا.. المستنير.. حيث تمكنا من الحصول علي التعليم.. في وقت كان يصعب علينا ان نحظي به لولا وجود هذه المدارس بقريتنا. وقد تخرج في هذه المدارس عدد كبير جدا من حملة الدكتوراة في مجالات العلم المختلفة، بالإضافة إلي عدد كبير جدا من حملة المؤهلات الجامعية في التخصصات المتنوعة. أضف إلي ذلك... أن هذه المدارس أتاحت لنا فرصة الاختلاط ببعضنا البعض أي (معرفة الآخر) وتفهمه وتقبله، بل ومن الأمور الطبيعية ان تنشأ علاقات طبيعية وصداقات استمرت بيننا حتي وقتنا هذا. وكذلك شراكة حقيقية بين ابناء المنطقة. ولعله من الأهمية بمكان ان نذكر هنا بأن الزعيم مكرم عبيد باشا كان يمثل قنا.. بالانتخاب الحر.. وان عائلة مكرم عبيد باشا تنال حتي وقتنا هذا.. كل التقدير والاحترام من أبناء قنا مسلمين وأقباط. فلعل هذه التجربة الرائدة والعظيمة التي قدمها العبقري داود تكلا.. تجعلنا.. ننظر ونناقش سياسة التعليم الحالية.. التي سمحت بوجود مدارس إسلامية ومدارس مسيحية لأبناء الوطن الواحد ولعل هذه السياسة بالإضافة إلي عوامل أخري متعددة.. تغرس وتغذي التفرقة الدينية منذ الصغر بالإضافة إلي غزو الفكر المتطرف لبلادنا من كلا الجانبين. وأنني أري ان هذه التفرقة.. هي أحد اسباب الفتنة الطائفية والتي ظهرت مؤخرا.. حيث تفصل بين أبناء الوطن الواحد من الصغر وتبعد بينهم فكريا واجتماعيا وثقافيا ودينيا. أي أن هذه السياسة التعليمية بالإضافة إلي عوامل أخري مثل المستوي التعليمي والاحوال والأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والتدخلات الخارجية تضع الحواجز بين ابناء البلد الواحد وتعمق التفرقة والعنصرية أن لم يكن علي اساس ديني فقد تكون علي اساس قبلي. ولا تنمي التعاون والتقارب والتلاحم بين أبناء الأمة الواحدة.