لم أستطع _ ألما وحزنا - أن أواصل مشاهدة الصور البشعة التي واصلت شاشات التلفاز الإلحاح علي عرضها، وعجزت عن أن أواصل سماع أقوال المصريين عما حدث لهم من اعتداءات وحشية من الجزائريين، علي أرض السوادان، ومن قبل، علي أرض الجزائر نفسها، فعلي الفور تذكرت ذلك النشيد الأسطورة الذي غنته فايدة كامل أثناء عدوان 1956(دع سمائي فسمائي مغرقة)، فمما قالت : أنا مصري قواه كل ثائر في فلسطين وفي أرض الجزائر ففضلا عما سببته هذه المشاهد،وتلك الشهادات الحية من آلام ومواجع، إلا أن عددا غير قليل من التعليقات، آلمتني كذلك وأوجعتني، بل وأفزعتني، فساعتها أيضا تذكرت مأساة سابقة، عند الغزو الأمريكي للعراق، وكيف أخطأ كثيرون النظر إلي القضية، فلم يفرقوا بين النظام الذي كان قائما، علي رأسه المستبد القاهر صدام حسين،وبين وطن عربي مسلم أصيل هو العراق، بشعبه وتراثه وقوته،وأن القضاء علي نظام سياسي مستبد، لا يبرر الصمت إزاء تحطيم وطن وقهر شعب واستغلال ثروة. المأساة نفسها تتكرر اليوم : أوصاف مفزعة يصف بها بعضنا الجزائريين بأنهم قوم همج متوحشون بينما نحن أصلاء حضاريون . . الجزائريون أهل عنف ودماء، بينما نحن أهل أخلاق عالية وطيبون، ثم يرتبون علي هذا وذاك ألا يجب أن نستمر في التغني بالعروبة،ووصلت الصراحة بكاتبة أن تعنون مقالها (تسقط العروبة)، وما رددته من معان ردده آخرون، بصياغات أخري مختلفة. وهكذا يتكرر اليوم نفس المنطق المعوج نتيجة تصرفات حمقاء من قبل بضعة آلاف في حدود أصابع اليد الواحدة. وصاحب كل هذا تغن وفخر بالذات المصرية وأنها تفوق الجميع، وتكرار مشهور لفضل مصر والمصريين علي الجزائر، كما كان لها من أفضال علي غيرها من البلدان العربية الأخري.. نفس المنطق الذي اتبعه الغربيون ونظروا إلينا به من أننا قوم متخلفون، همج، بحكم طبيعة عرقية خصهم الله بها، وطبيعة مغايرة ابتلانا الله بها، وهاجمنا هذا ووصفناه بالعنصرية والشوفينية،وفندناه علميا، بأن المسألة مسألة ظروف أتاحت لهم التقدم وفرضت علينا التخلف! وأمام منطق "المعايرة" الذي يتغني بعضنا به أمام بقية الشعوب العربية، لابد أن نسمع رد بعضهم علينا بأنهم عقب هزيمة 1967، ولعدة سنوات، ضخوا مئات الملايين من الدولارات من خزائنهم مساعدة لنا، وأن بلادهم أتاحت مئات الألوف من فرص العمل أمام المصريين لولاها لماتوا جوعا! سجال أخرق، غبي، يهين صاحبه قبل أن يهين الآخر... لابد ألا يقف بصرنا أمام الشجرة، بل يمتد ليري الغابة... أي أننا في حاجة إلي النظر الكلي الذي يربط ويستنبط، بعيدا عن وطأة الانفعالات وشدة الأحزان،ووجيعة الأحداث، فنبصر، لا إهانة الجزائريين لنا فحسب،واستهانتهم بكرامتنا، ولكن بصور أخري،وإن جاءت متفرقة، ضاعت فيها أيضا كرامتنا وأهينت، ورضينا وسكتنا، ولم تثر كرامتنا، حتي تصور الآخرون وكأننا "الجدار المائل"، كيف؟ أيام رئاسة توني بلير للوزارة البريطانية منذ عدة سنوات، خضع للمساءلة في مجلس العموم لأنه لم يسر بسيارته في مجري الطريق العام، وسار في المجري المخصص لسيارات الطوارئ وسيارات الأجرة، وبرر تصرفه بأن الطريق العام كان مزدحما، وكان مرتبطا بموعد مهم في مقر الرئاسة، فاضطر أن يسلك طريق الطوارئ، فقيل له، إذن كان يمكن لك أن تترك سيارتك وتستقل سيارة أجرة، ومن ثم يكون لك حق السير في هذا الطريق!! ويجب أن يعلم القارئ _ إن لم يكن يعلم _ أن رئيس الوزراء في بريطانيا هو الحاكم الأعلي، لأن الملكة تملك ولا تحكم، لأنها تجئ وراثة، بينما رئيس الوزراء يختاره الشعب. لست في حاجة أن أنقل لك المشهد المعاكس لهذا عندنا،وأذكرك بما يحدث لعشرات الألوف من المصريين، عندما يسير المسئولون في الطريق العام في مصر، أو يزورون مكانا. هناك،علي البر الغربي، مواطن يحترمه النظام القائم،وهنا نظام يقوم علي عدم احترام المواطن، علي الرغم من الخطب والمانشيتات التي نغرق فيها كل يوم! هناك، وفي دول أخري مماثلة، إذا رغب المواطنون في أن يترك وزير أو حاكم موقعه، يتم احترام ما يريدون،لأن النظام الديمقراطي يقتضي ذلك، فهو إذ يقوم علي الليبرالية الاقتصادية التي شعارها "الزبون أولا"، فالليبرالية السياسية كذلك تقوم علي منطق "المواطن أولا"! ويجب ألا ننسي أن هذا الذي نقوله عن مصر، هو صورة طبق الأصل، مع اختلافات بسيطة في الشكل والتنفيذ في كل النظم المتخلفة،وفي المقدمة منها الدول العربية بغير استثناء. انظر إلي الجامعة المصرية، حيث _ كما هو المفترض _ نكون أمام بيئة منتقاة، تضم أفضل العقول،وتجري أفضل البحوث والدراسات،ويتم أعلي تعليم.. كيف يتم اختيار قياداتها، هل لأحد من المجتمع الجامعي رأي في ذلك ؟ كلا، فضباط الأمن هم الذين يختارون من يقود المواقع الجامعية المختلفة،وإن دل هذا علي شئ، فإنما يدل علي عدم احترام النظام لأساتذة الجامعات، ثم، ما هو أدهي وأمر، تعود أساتذة الجامعات علي هذا،ورضوخوا رضوخا مشينا! هل أشير لك إلي الاتحادات الطلابية التي تقوم علي فلسفة مؤداها أنها تشكل بيئة مربية للطلاب لممارسة الديمقراطية،والمشاركة المجتمعية، فهل يجهل أحد ما آل إليه الأمر في السنوات الأخيرة من أن الطلاب أصبحوا عاجزين عن اختيار من يمثلهم، لأن القوي الأمنية تقوم عنهم بذلك،ومن ثم يتعلم ويتربي آلاف من طلابنا، شباب المستقبل،علي الامتثال لحياة تسلب منهم إرادتهم وتُداس بأقدام الشرطة! ومنذ سنوات، أثناء حكم صدام حسين، شاع بيننا تعبير "النعوش الطائرة"، حيث "التوابيت" التي بها مصريون تجئ لنا من العراق.. ماذا فعلت الدولة لهؤلاء الموتي من المصريين؟ لا يمر شهر، إلا وتتناقل الصحف أخبارا عن مصريين، تتم "بهدلتهم" في هذا البلد العربي أو ذاك، ويصل الأمر إلي السجن والاعتقال أحيانا، ربما عن خطأ حقيقي وربما عن شبهة وتحيز، تري، ماذا تفعل الحكومة المصرية تجاه هذا؟ يمكن أن أستمر في ذكر أمثلة بالعشرات، لحالات إهدار كرامة ومرمغة مواطن، دون أن تهتز شعرة في رأس الدولة، لكن الأهم من كل هذا وذاك، هو العودة إلي نقطة البداية ألا وهي "إرادة المواطن"، فهي التربة الخصبة لتنمية الكرامة وتحقيق المواطنة، عندما يتم تزييفها فيُختار لها بدلا من أن تختار هي، فهذه بداية إهدار الكرامة في بيتنا، في وطننا،وعدما يحدث هذا، فلا تنتظر أحدا آخر يحترمك، وصدق أولاد البلد عندما قالوا "اللي بيحترم، بيحترم نفسه"، يريدون بهذا أن الآخر لن يحترمك إلا إذا كنت أنت محترما، وأنت لن تكون محترما إلا إذا كنت حر الإرادة، تتصرف في بيتك تصرفات مواطن محترم! إن الحكم القائم علي القهر والاستبداد، يجمع مواطنيه، كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، عالمهم وجاهلهم في حزمة واحدة، يطؤها بأقدامه، وتكون المحصلة النهائية أن يصيح فينا جميعا (ما أُريكم إلا ما أري)، وعندما يتحقق هذا، فلا تتطلع إلي أن تحترمك شعوب أخري.. كن محترما أولا في بيتك، وسوف يحترمك من هم خارج بيتك، ولن تكون محترما في بيتك، إلا إذا امتلكت قرارك بيدك!!