العجيب أن الفكرة التي بني عليها المؤلف محمد عبد الخالق أحداث الفيلم جديدة بالفعل، وكان في الامكان أن تصنع عملاً سينمائياً متقناً ومبهراً ومثيراً في آن واحد ؛حيث تتحدث عن توظيف "الأدرينالين" لاستخراج القوي الكامنة داخل الإنسان، وهو البحث العلمي الذي يقوده الطبيب "كريم" الوجه الجديد هاني حسين لكنه يختار الجانب السلبي والسئي منه، فيصبح شريراً يقتل زميلته وعشيقته "منال" غادة عبد الرازق ويورط زوجها الفنان التشكيلي سامح الصريطي في جريمة قتل يصدر الحكم عليه بسببها باعدامه وإحالة أوراقه إلي المفتي، لكن الضابط "الإنسان" محمود أبو الليل خالد الصاوي لا يطمئن قلبه، ويجند فريق عمله المكون من مساعده إياد نصار وصديقه الطبيب الشرعي محمد شومان للبحث عن هوية القاتل الحقيقي حتي يعثر عليه، بعد أن كاد يتحول إلي الضحية الثالثة علي يديه، ويدخل معه في مواجهة دموية شرسة تنتهي، كعادة النهايات السعيدة للأفلام المصرية، بالقبض عليه! مرة أخري نؤكد أنه كان بمقدور صانعي هذا الفيلم أن يقدموا عملاً متفرداً ؛خصوصاً أن السينما المصرية لا تطرق هذه النوعية كثيراً، إلا في استثناءات نادرة مثلما حدث في تجربة "قاهر الزمن" للمخرج الكبير كمال الشيخ، وتجربة المخرج علاء محجوب في "الرقص مع الشيطان" وبصورة أخري في "جري الوحوش" لعلي عبد الخالق، لكن الغريب والمثير أنها في كل تجاربها التي من هذا النوع تٌقدم الصورة السلبية للعالم، الذي يوظف العلم دائماً لأغراض خبيثة، ولأهداف شريرة في كل الأحوال، والاصرار علي تكريس هذه الرؤية سيدفع الجمهور في النهاية للاقتناع بأن "الجهل نورن" مادام العلم يقود صاحبه إلي المهالك، سواء السجن أو الإعدام (!) فلا شك أن إقدام طبيب أو باحث علي استخدام "الأدرينالين" في تنشيط القوي الكامنة، والتحكم فيها، أمر يستحق التوقف والاهتمام، ويعكس جرأة محمودة في اقتحام عوالم جديدة علي السينما المصرية بعيداً عن موضوعاتها التقليدية، وأفكارها السقيمة والمكررة، لكن الفيلم، سواء منتجته أو مخرجه أو حتي كاتبه، عجزوا عن المضي في طريقهم، وتخلوا عن جرأتهم، وفرطوا في الفكرة النادرة، ليدوروا في فلك القديم والسائد والتقليدي، بعدما آثروا أن يصنعوا فيلماً بوليسياً ركيكاً ومرتبكاً، نظلمه لو قلنا إنه ينتمي إلي نوعية "السيكودراما"؛فهو مجرد "لعبة سخيفة ومملة" بين "قط" خالد الصاوي لم نره كذلك، و"فئران" الصريطي وغادة وهاني حسين لم يقنعنا السيناريو بأن لديهم أي قدر من التأثير الذي يجعل منهم عناصر قوية تسهم في إضفاء هالة من التشويق والغموض والإثارة علي أحداث الفيلم ؛ففي كل مشهد تشعر، كمتفرج، بأن الصقيع يتسلل إلي مشاعرك، سواء بسبب فتور ورتابة الأحداث، أو أداء الممثلين الذي لا يخلو من زيف وتصنع وغياب للمصداقية ؛فالفارق كبير بين أن تصنع فيلماً يحتاج إلي قدر من "التأمل" وأن تجعل من هذا الفيلم وسيلة لاستدعاء كل أنواع الضجر و"التململ"، وهذا ما أصاب بالضبط فيلم "أدرينالين"، فالبرودة اكتست بنيانه، وأبطاله، حتي أن الكاميرا كانت ترصد ملامح خالد الصاوي في لحظات كثيرة، فلا تجد منه أي انطباع بسيط أو انفعال مفيد، وبدلاً من القطع عليه (مونتاج مها رشدي) تستمر في رصد انفعالاته الجامدة والتي تخلو من الحياة، في الوقت الذي لا وجود لسبب درامي أو نفسي يبرر هذا الجمود إلا فشل الممثل نفسه، ولا أظن أن المخرج كان يتعمد فضح "الصاوي" بهذه اللقطات المقربة علي وجهه والتي كشفت عجزه (!) اختار الصمت المزعج، وطوال الوقت هناك حديث عن تفاقم الخلافات بينهما، وتكاد تستشعر أنه عاجز جنسياً، لكن الفيلم يفجر مفاجأة بالقول إن القتيل هو العاجز جنسياً لينفي عن الزوجة تهمة الخيانة، وينسي في غمار "التشوش والاضطراب" أن يدلنا علي طبيبة تخضع لابتزاز مدمن شاهدها وهي تخون زوجها مع زميلها في المستشفي التي تعمل بها، فتستقبله في بيتها، وعلي فراشها، لتمنحه الجرعة، ومن ثم يتصور الزوج أنها تخونه (!) وعلي النسق نفسه من شذوذ الأفكار يختار "كريم" هاني حسين أن يمارس الجنس مع زميلته في "المشرحة" لأنها باردة صيفاً، ومثيرة للشهوة شتاءً (!)، في المقابل لم ينجح السيناريو في تبرير الأسباب التي جعلت الشخصيات تتحول إلي "أشباح"، بالصورة التي لا تجعلك تتعاطف مع أي منها، فالطبيبة "منال" غادة تحولت إلي مريضة نفسانية لا تملك سوي الهذيان ولم تعد عنصراً مؤثراً في الفيلم بل تحتاج إلي من يودعها المصحة النفسية، والزوج المتهم الصريطي وفي محاولة لاضفاء إنسانية علي شخصية "أبو الليل" يأخذنا الفيلم إلي زوجته "النكدية"، وابنه الذي يحبه عن بعد واللذين لا نراهما إلا في صورة يتيمة في بيته، وحسناً فعل السيناريست لكي لا يثقل كاهل الفيلم بأكثر مما فعل، فالفيلم يوحي لنا أن الضابط يعيش لعمله، ومن مكتبه إلي المشرحة والعكس، وينوه أيضاً أن حبه لواجبه ووظيفته كان سبباً في هدم حياته الأسرية، ولفرط انسانيته، ومثاليته، يبحث عن الحق والعدل ويكره التلفيق والعنف ولا يلجأ إليه، كمساعده، لانتزاع اعترافات المتهمين، وإن كان هذا لم يمنعه من الاستعانة في بيته بكتلة ضخمة من تلك التي يتعامل معها "الملاكمون" أثناء التدريب لينفس بها عن غضبه (!) أما مساعده إياد نصار فلا تدري إن كان مدمناً هو الآخر، أو استدعوه من أقرب مقهي بجوار الأستديو ليجسد الشخصية بدلاً من ممثل آخر اعتذر في اللحظة الأخيرة أم ماذا ؟ فهو "خارج الفورمة"، والعلاقة بينه وبين رئيسة بدت مزعجة بدلاً من أن تشيع المرح في الأجواء، بل أوحي لنا السيناريو في لحظة بأنه "غبي"، علي غرار ماكان يحدث بين اسماعيل ياسين والشاويش "عطية"، وهو الشيء نفسه الذي ينطبق علي العلاقة بين "أبو الليل" والطبيب الشرعي شومان حتي لو برر السيناريو مايحدث بينهما بأنهما صديقان، فالقلق يسود أجواء "أدرينالين"، الذي بدا وكأنه استخرج القوي المزعجة والسلبية الكامنة فينا، ولم ينجح في أية لحظة في حشدنا لمؤازرته، وحتي الممثلين الثانويين (ألفت عمر وياسمين النجار وياسر الطوبجي وأشرف سرحان وفايق عزب) لم يغيروا شيئاً، وتحولوا من ثانويين إلي هامشيين، علي يدي المخرج والسيناريست! لا أدري لماذا تذكرت الفنان سعيد الشيخ، الذي تحمل مسئولية مونتاج فيلم "المذنبون" للمخرج سعيد مرزوق، وأنا أتابع مشاهد استدعاء الضابط "أبو الليل" للشهود طمعاً وراء الكشف عن غموض الجثة المشوهة، فالرتابة وقلة الحيلة والحوار المكرر والمونتاج الذي لا يضيف جديداً في "أدرينالين" لابد يذكرك ببراعة "الشيخ" و"مرزوق"، ويدعوك للمقارنة بين ماحدث في "المذنبون"(إنتاج 1976 )، من ايقاع لاهث، وإثارة تصنعها كل جملة حوار، وتوتر مُحبب لا ينتهي، وما انتهي إليه الفيلم الذي أنتج عام 2009 علي يد المونتيرة مها رشدي والمخرج محمود كامل من تكرار مُزعج، وحوار لا يضيف مفاجأة واحدة جديدة، وغموض لا يجد مايبرره، فالزوج يتشبث بالصمت، ولا تردعه البدلة الحمراء، بعد التصديق علي الحكم بإعدامه، والمشاكل العائلية، وجمل الحوار في المكالمات الهاتفية، تتكرر بحذافيرها لتهددنا، بلا معني، بقرب انفصال الضابط وزوجته، والطبيبة المحترمة تضع مجموعة من الدبابيس في أذنها، كما لو كانت عاهرة محترفة، من دون أن يراجع أحد غادة عبد الرازق أو يلومها لأن هذه الاكسسوارت (ستايلست غادة يوسف) تضر الشخصية بأكثر مما تخدمها ؛فالكل يدور في حلقة مُفرغة، ولا تدري ماذا كان يفعل المخرج محمود كامل في غمار كل هذا ؟ ولماذا لم يوقف هذا العبث في وقته ؟ بالطبع نجح كاتب الحوار في صياغة جمل وعبارات مثيرة ومُدهشة حول "لغة الجثث والعبارات التي تعبر عنها باشارات لمن يستطيع أن يستوعبها ويفهمها" .. و"الجثث التي تبوح بأسرارها لمن تختار، وفي الوقت والزمان الملائمين"، وهو محور يصنع فيلماً مستقلاً بذاته لو أردنا، وليتنا نفعل، لكنه يجنح للنظرة الفلسفية التي يصعب علي الجمهور العادي، ذي الوعي البسيط والمحدود، أن يتجاوب معها في فيلم متشعب القضايا، ومتعدد الخيوط ؛فالمشاهد غرق في بحور من البلبلة التي تسببت فيها نظريات "شومان" الطبية ومصطلحاته العلمية، بعكس التصوير (طارق التلمساني مديراً ومحمد مختار مصوراً) الذي كان الملمح الأبرز ، والأكثر إبداعاً في فيلم "أدرينالين"؛فالتلمساني اختار "أسلوب السهل الممتنع"، ولعب بالإضاءة فتلاعب بمشاعرنا وأحاسيسنا، بأكثر مما فعلت "الدراما"، بل يمكن القول أنه تحمل العبء الأكبر في هذه التجربة الصعبة، عندما وظف الصورة لتعوضنا غياب الضرورة، وطوال الوقت يبهرك بتوظيفه لعناصر وتفاصيل المكان، مثلما فعل في "شفاط الهواء" في المشرحة، الذي تحول إلي مسقط ضوئي رائع فأدي دوراً مؤثراً للغاية، وفي أكثر من مشهد بدا وكأنه يسلط الضوء علي الجانب المظلم والمُعقد في البشر بينما الكون من حولهم في أبهي صورة وأكثر بساطة وإشراقاً (مشاهد خالد الصاوي وغادة في الشاليه)، وهي الرؤية الضوئية، واللغة البصرية، التي اعتمدها "التلمساني" في مكانها، كما حدث في المطاردة التي وظفت غابات المنتزه بشكل جديد وغير مألوف في السينما المصرية، وإن كان الفضل في اختيار المكان يعود بالطبع للمخرج محمود كامل، لكن "التلمساني" بإضاءته وتصويره الليلي صنع من المكان بطلاً، وبالتالي انطلت حيلة المطر الصناعي علي المتلقي، كما انطلت عليه المبالغة في اختيار "المعمل" و"المستشفي" بشكل بدا أقرب إلي"التغريب"، والصنعة الجمالية، التي عبر عنها مشهد اختيار "كريم" القارب النيلي ليلاً ليلقي من خلاله الجثة، فالتلمساني بدا هنا وكأنه فهم أجواء الفيلم أكثر من مؤلفه ومخرجه وأبطاله، وبالتالي نجح في وضع الخطة اللونية والبصرية التي رفعت من قدره كثيراً في الوقت الذي تاهوا جميعاً في