كاد قلبي يعتصر بين ضلوعي وجعا وأنا أسمع أنين كلمات صاحبي متحدثا عن حال ابنته التي هي أم لاثنين، فقد اضطرت منذ شهور قليلة أن تتخفف من عملها الرسمي، فتقتصر علي ثلاثة أيام أسبوعيا، حيث يبيح نظام العمل لها هذا، مضحية بنقص كبير في مرتبها، رغم حاجتها الماسة إليه بحكم انفرادها بإعالة أسرتها الصغيرة. اضطرت إلي ذلك حتي تستطيع القيام علي أمر ولديها من حيث توصيل هذا وتلك إلي أماكن تلقيهما الدروس الخصوصية، ثم الانتظار حتي ينتهي كل منهما من درسه لتعيده إلي المنزل، في أوقات مختلفة من اليوم، نهارا وليلا، مع أن الابنة المسكينة ليست في حالة سوية جسميا لعلة في عمودها الفقري! قلت لصاحبي متسائلا باندهاش، ان معلوماتي هي أن حفيديه ملتحقان بمدارس اللغات ذات المصروفات العالية، وأن المتوقع بناء علي هذا أن يكون التعليم في مثل هذه المدارس علي قدر عال من مستوي الخدمة، وإلا فما جدوي دفع آلاف من الجنيهات سنويا، وكان الأجدي _ إذا كان الأمر كذلك - أن يلتحقا بالمدارس ويوفرا هذه الآلاف المؤلفة من الجنيهات. قال صاحبي محتجا: أنتم أساتذة التربية تعيشون في برج عاجي، تغوصون في صفحات الكتب التي تحلق في آفاق مثالية عما ينبغي أن يكون عليه المعلم، وما يجب أن يسلكه التلميذ، وقواعد التعليم الصحيحة، وأصول المذاكرة الفعالة، بينما لو عشتم بعض الوقت داخل مدارسنا لرأيتم العجب العجاب... لم تعد المدارس للتعليم، وإنما هي فقط للإيواء المؤقت جزءا من اليوم حتي يعود كل من الأب والأم من عمليهما، لا فرق في ذلك بين مدرسة حكومية مجانية ومدرسة خاصة بمصروفات. يهرع أولياء الأمور إلي المدارس المتميزة بحثا عن خدمة تعليمية اختفت منذ عقود من مدارسنا الحكومية، لكن "وباء الدروس الخصوصية" أصبح بلاء عاما.. فقل لي بالله، ما لزوم هذه المدارس وإنفاق مليارات الجنيهات عليها ونحن ندفع ما قد يزيد علي اثني عشر مليارا علي الدروس الخصوصية؟! ثم قام صاحبي فاتحا صفحات إحدي الصحف ليريني تحقيقا صحفيا محزنا عن عشرات المدارس الحكومية التي تخلو من التلاميذ، في السنوات الماضية منذ شهر مارس علي وجه التقريب، ذلك لأن التلاميذ لا يشعرون بقيمة وجدوي ما يتعلمونه داخل المدرسة، فالمراكز التعليمية أصبحت منتشرة تكاد تنافس المدارس، تستقطب خيرة المدرسين، ويسودها ضبط وربط وانتظام في العمل ودقة في المعايير وجودة عالية في التعليم. والمعلمون بالتالي لا يجدون وقتا يمضونه في المدارس من كثرة دروسهم وأعبائهم، وإن حضر الواحد منهم فلكي يثبت حضوره، ثم ينصرف بحجة أو أخري ليواصل عمله الخارجي، والتلاميذ أصبحوا منهكين يسعون إلي النوم في ساعات النهار الأولي من كثرة السهر والجري بين مواقع الدروس الخصوصية، سواء في البيوت أو في مراكز التعليم التي يسمونها "سناتر"!! جمع "سنتر". وها هي "حمي" جديدة تهب كالعاصفة، لتذهب بالبقية الباقة من مظاهر تعليم،عندما هلّ خطر انفلونزا الخنازير،: حصص لا تزيد عن النصف ساعة، لا تمكن المعلم من أن يشرح،ولا التلاميذ من أن يفهموا ويستوعبوا، وإغماض عين عن الغياب، وهلع لدي عائلات فلا تشجع الأولاد علي الذهاب إلي المدارس، وكما أجابتني أم سألتها في هذا الشأن "ولم يذهبون، وهم أصبحوا لا يتعلمون، ونحن نرتب الدروس في كل المقررات؟"!! أقول الحق؟ كدت أواري وجهي خجلا أمام الصديق المسكين، لا لكونه صاحبي، فمن المؤكد أنه ليس فريدا في حاله هذه، بل واحد من عشرات الألوف من أولياء الأمور الذين يعيشون معيشة ضنكا، حيث لا يدرون حقا "يلاحقوها منين واللا منين؟" من أسعار اللحوم التي أصبحت عزيزة المنال؟ أم من طوابير الخبز الذي هو ألف باء الحياة البشرية عامة والمصرية خاصة، حتي لقد انفردنا بين شعوب العالم بتسمية الخبز "العيش"، وكأنه يساوي الحياة، أم... أم، إلي غير هذا وذاك من منغصات وعوائق المعيشة المصرية في هذا العهد الذي يكاد يرجعنا إلي أيام وصلت بالمصريين، في بعض العهود القديمة أن يجولوا في الطرقات بحثا عن حيوانات ضالة يأكلونها أو بقايا طعام في هذا الركن أو ذاك؟ لكن صديقي هذا، فيما يبدو، قد ظلمنا نحن أساتذة التربية في تصوره أننا نعيش في عالم المثاليات القائم في الكتب والبحوث والدراسات التربوية، إذ أن المسئولين أنفسهم القائمين بحركة الواقع التعليمي، لا أقول يعيشون مثل أساتذة التربية الأكاديميين في عالم مثالي، وإنما يعيشون عالم أوهام من الإنجازات تراها تملأ تصريحات وزيري التربية والتعليم والتعليم العالي وكبار مساعديهما، وأحاديث كثيرة عن الإصلاح والتطوير والمؤتمرات والاستراتيجيات والخطط، ثم تتلفت حولك، فإذا بأنات مثل هذا الأب وذاك، هذه الأم وتلك، فكأننا نعيش مصرَين لا مصر واحدة، تلك يرد أهلها ماء "عذب فرات سائغ شرابه"، وهؤلاء يرِدون ماء "ملحه أُجاج"، وفقا للتعبير القرآني! ساعة انتهاء الصديق المسكين من التعبير عن أناته وأوجاعه، قفزت إلي ذهني، وبسرعة تلك الدعوة التي قرأنا عنها في أول السبعينيات لأحد الأعلام في الفكر التربوي الغربي في ذلك الوقت "إيفان إيلتش" "Ivan Illich" كما تتبدي في كتاب صغير صدر له بعنوان "مجتمع بلا مدارس" Deschooling Society ، ولم يكن إيلتش منفردا في رأيه هذا، بل شاركه بعض آخر، وإن لم يكونوا "كثر"!! كانت دعوة إيلتش هذه مثار سخريتنا عندما قرأنا عنها في أول السبعينيات، ولم نكن ندري _ وفق أسوأ السيناريوهات تشاؤما - أن يوما سوف يأتي علينا لنتذكر هذه الدعوة، ونري أنها _ فيما يبدو _ قد أصبحت تناسبنا، وإن كانت المبررات لدينا تختلف كثيرا عما كان وراء دعوة إيلتش إننا إذا كنا قد سمعنا عن حالات انتحار في العالم الغربي بدوافع الترف الزائد والملل من يسر الحياة لدي كثيرين، بينما نري حالات انتحار في بلدنا من شدة الجوع وشظف العيش وصعوبة الحصول أحيانا علي الحد الأدني للحياة الإنسانية الكريمة، فإننا نجد أنفسنا هنا أمام مفارقة مماثلة، وإن اختلفت الدواعي والأسباب. لقد كان إيلتش "بَرِما" من سطوة "المؤسسية"، خوفا من طغيانها علي الحرية الفردية، وتغولها علي التمايزات الشخصية وسعيها إلي "التنميط"، فكل التلاميذ _ مثلا _ في المدارس الابتدائية يتلقون قدرا ونوعا واحدا متماثلا من التعليم، مما ينتج شخصيات تكثر بينها المشابهات وتختفي التمايزات التي تنتج للمجتمع صور الابتكار والإبداع. لكننا في بلادنا نشكو من ضعف "المؤسسية"، فنمط النظام القائم هو "الشخصنة"، أي الاعتماد علي العلاقات الشخصية والقرابية والقبلية والمواقع المالية والإدارية والاجتماعية المتميزة، حتي هذا المثال الذي سقناه عن دور المدرسة الابتدائية في تقديم قدر عام مشترك بين المواطنين، أصبح في خبر كان في مصر، من كثرة توافر أنماط متعددة من هذا التعليم، من تعليم مدني إلي ديني، إلي عسكري، وداخل التعليم المدني، هناك حكومي رسمي، وآخر خاص، وداخل الحكومي هناك تجريبي بمصروفات، وآخر مجاني، وداخل الخاص مستويات متعددة تبدأ بألف جنيه للتلميذ في العام وتتجاوز بضع عشرات الألوف في مدارس أخري، وفي كل مستوي، هناك "مادة" التعليم غير المباشر من خلال "السياق الثقافي والمجتمعي"، الذي ينتج فوارق طبقية تغتال "العدل التربوي". لكن، البديل الذي قدمه إيلتش، فيما يبدو، قد أصبح جاهزا اليوم ليكون حلا لنا يعوضنا عن هذه المدارس التي أصبحت لا تقوم حتي بالحد الأدني من مسئولياتها في "التعليم"، بعدما تنازلنا منذ سنوات عن واجبها الأول ألا وهو "التربية" وقلنا انه مسئولية الأسرة بالدرجة الأولي، فإذا بالأسرة نفسها لا تجد وقتا للقيام بذلك، فالأبوان يلهثان طوال النهار والليل بحثا عن لقمة العيش. أما البديل، فهو هذه المؤسسات التي تعرف باسم مؤسسات التعليم اللامدرسي، أي التي تقدم خدمة تعليمية، لكن عن غير طريق "النظام المدرسي" المعروف بتسلسله ومبانيه ومناهجه وامتحاناته ومعلميه، وأبسط أشكاله التي يعرفها معظم الناس، هذه المراكز المتعددة التي تقدم برامج سريعة لتعليم حرفة من الحرف، أو جديد في مجال معين، كما نري في مراكز تعليم الكومبيوتر واللغات، علي سبيل المثال. وفضلا عن ذلك، هناك آلاف من دور العبادة، مساجد وكنائس، هي الأخري تقدم تعليما لامدرسيا، يمكن تقنينه. وهناك هذا الكم الضخم من الإذاعات والقنوات التليفزيونية ... أيضا العديد من مراكز "التدريب" التي أصبحت منتشرة في العديد من المدن والأحياء. هذه المليارات إذن التي تنفقها الدولة بغير عائد يتكافأ مع قيمتها، وهذه المليارات التي يدفعها أولياء الأمور في الدروس الخصوصية، فلتوجه لدعم هذه القنوات من التعليم اللامدرسي التي ضربنا أمثلة لبعضها، وتصحيح مسار ما هو ضعيف أو غير جيد، واستحداث الجديد المتطور، وبالتالي سوف نقدم لأجيالنا أنماطا من التعليم كثيفة الوقت، متنوعة الأغراض والأهداف، سريعة التغير وفقا لمتغيرات السياقات المجتمعية والعصرية. نقول كل هذا، لا عن "كفر" بالمهام الأساسية التي من أجلها قامت المدارس، فسوف نظل نؤمن بأن المدرسة هي خير وسيط للتربية وخير قناة للتعليم، ولكن، ماذا نفعل ونحن نري مئات الألوف من أبنائنا يذهبون إلي مدارس أصبحت عاجزة عن القيام بأبسط مهامها، وقيادات تعليمية تعيش في عالم الوهم وتتحدث ليل نهار عن "إنجازات" كاذبة خادعة، وتضيع مليارات الجنيهات علي خزانة الدولة وجيوب المواطنين، ومن أجل الحصول علي "تعليم مغشوش" لا يثمر ولا يغني من جوع؟!! إن وطننا يعيش خطرا مفزعا حقا، ذلك أن عملية بناء إنسانه "التعليم" تعيش خطرا داهما ينذر بأشر العواقب.