لا شك أن صدور اعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي عام 2005 كان حدثا مهما يشكل سابقة للمجتمع الدولي لأنه بمثابةوثيقة تضع التنوع الثقافي في مصاف "التراث المشترك للإنسانية" الذي هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية وتجعل من الدفاع عنه واجبا أخلاقيا ملزما لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان. وإذ يرمي الاعلان إلي صون التنوع الثقافي باعتباره كنزا حيا، ومتجددا يمثل ضمانة لبقاء البشرية فانه يرمي ايضا - وفي الوقت ذاته - إلي تفادي اوجه التفرقةوظواهر الأصولية، التي ترسخ وتقدس هذه الفوارق باسم الاختلافات الثقافية. ورغم منطقية كل حرف ورد في هذه الوثائق وتلك الأدبيات فان الواقع المر يروي لنا قصة مختلفة تماما. فعلي المستوي العالمي: نري أن الاعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي قد حظي بموافقة 148 دولة بينما امتنعت عن التصويت أربع دول "هندوراس وليبريا ونيكارجوا واستراليا" واعترضت دولتان هما الولاياتالمتحدة وإسرائيل هي الدولة الأكثر انفتاحا علي التعدية الثقافية علي وجه الكرة الأرضية وهذا جزء من تراثها وهويتها القومية فما تفسير هذا الاعتراض؟ التفسير من وجهة نظر ميخائيل هندلزلتس بصحيفة هآرتس الاسرائيلية "24 نوفمبر 2005" أولا: هو أن معارضة الولاياتالمتحدة نابعة من الخوف بأن تسمح المعاهدة للدول بأن تفرض سياسيات تحدد ما يسمح فيه لمواطنيها بقراءته ومشاهدته وسماعه والتفكير به. ثانيا: أمريكا تخشي من عدم وضوح في صياغة العلاقات بين المعاهدةالجديدة والمعاهدات الأخري. ثالثا: أمريكا تعارض الاجراءات التي اتخذتها المعاهدة إذ تشعر انها لم تعبر بصورة كافية عن المتحفظين عليها، وأن صيغتها فرضت علي كل الدول وتعتقد الولاياتالمتحدة - التي انسحبت من معاهدة اليونسكو عام 1985 وعادت إليها عام 2003 فقط - أن المعاهدة تنطوي علي لهجة مناهضة لها سواء علي مستوي التعددية الثقافية أو علي مستوي لعبة القوة بين المنظمات الدولية وهناك تفسير اخر خلاصته أن الولاياتالمتحدة ترغب في إعادة صياغة الاعلان بحيث لا يمكن إساءة تفسيره علي انه يجيز للحكومات فرض إجراءات حماية تجارية خلف قناع حماية الثقافة أي أن واشنطن تربط التعددية الثقافية بالتجارة الحرة، وهو ما عبر عنه بيان لوزارة الخارجية الأمريكية قال إن الخارجية الأمريكية تشعر بالقلق من انه من الممكن أن تسئ الدول الأعضاء تفسير الاتفاق وتعتبره أساسا لوضع حواجز جديدة غير المسموح بها أمام المتاجرة بالسلع والبضائع والخدمات أو المنتجات الزراعية التي قد ينظر إليها علي انها تعبير ثقافي. وليست الولاياتالمتحدة وإسرائيل هي وحدها التي تتخذ هذا الموقف بل إن هناك تراجعا ملحوظا في مساحة التسامح الأوروبي تجاه الثقافات غير الأوروبية فالأحزاب المحافظة الأوروبية هي أشرس المناهضين للتعددية الثقافية الآن. من ذلك ما نقلته الجارديان البريطانية عن دومنيك جريف وزير الظل في حزب المحافظين الذي قال أن التعددية الثقافية في بريطانيا تركت أثرا فظيعا وخلقت فراغا ملأه المتطرفون. وربما يكون الوضع في هولندا أكثر تعبيرا عن هذا التراجع ففي العادة كان ينظر إلي الأراضي الواطئة باعتبارها أكثر البلدان في أوروبا تنورا وتسامحا وحماسا للتعددية الثقافية. والآن هولندا مثل بقية بلدان أوروبا الغربية تعاني من أزمة هوية واصبحت التعددية الثقافية ذاتها غير جديرة بالثقة والمنتقدون لها يقولون إنها خلقت نزاعا بتشجيعها الأقليات علي الانفصال عن التيار الرئيسي في المجتمع والكلمة الجديدة الذي يرتفع طنينها هي الاندماج بينما تظل العلاقة بين المسلمين الهولنديين وبقية المجتمع الهولندي غير مستقرة حيث يؤكد شرطة الاندماج الجدد علي أهمية اللغة الهولندية والمكانة المركزية للديمقراطية والقيمة الليبرالية مثل حقوق الانسان والمثليين. إذن هل فشل النموذج الهولندي القديم وهل ثمة نموذج جديد يظهر إلي العيان ويجب إجبار الأقليات علي تبني القيم الهولندية مثلما أصبح المهاجرون إلي الولاياتالمتحدة أمريكيين. إجابة بول سنخفر ناشر ومؤلف كتاب "بلد الوصول" هي: كنا نعتقد أن تسامحنا يعيش أو لم نسأل أنفسنا العديد من الاسئلة: لماذا؟ لأننا لم نكن نرغب في أي إجابة. ويستطرد قائلاً: من وجهة نظري فإن تسامحنا قد انهار لأنه لم يكن تسامحا حقيقيا لقد كان مجرد العيش بجانب بعضنا البعض ولهذا السبب يوجد الآن هذا الخلاف. إذن التعددية الثقافية أصبحت موضع امتحان جديد في الغرب وإذا انتقلنا إلي العالم العربي سنجد أن التعددية الثقافية - كما يقول المفكر السيد ياسين - تمثل تحديا يواجه دولا متعددة ومن المعروف علي الوطن العربي يزخر بتعددية ثقافية ملحوظة. وذلك أن المجتمعات العربية المختلفة - وبنسب متفاوتة - تضم عربا وغير عرب مثل الأكراد في المشرق والبربر في المغرب كما انها تضم مسلمين سنة ومسلمين شيعة وكذلك تضم مسيحيين. وعلي رغم هذه الحقائق فإن الاتجاه الرسمي في العالم العربي يميل إلي تجاهلها ولا يفضل مناقشة مشاكل الأقليات بأنماطها المختلفة علنا إلا في أحوال نادرة فالخطاب العربي التقليدي يعد نموذجا لتجاهل مشكلات الأقليات في الوقت الذي يركز فيه علي عوامل الوحدة. ويستنتج السيد ياسين أن محاولة إخفاء حقيقة وجود أقليات عرقية أو دينية وادعاء انه ليست هناك مشكلات من شأنها أن تعطي إحساسا زائفا بالأمن إلا انه سرعان ما يتبخر هذا الاحساس تحت وطأة التوترات الاجتماعية التي قد تنشأ بين الأقليات والطوائف والأغلبية التي قد تتحول في بعض الأحيان إلي صراعات دامية كما حدث من قبل في لبنان والسودان. ولا يبرئ كاتبنا الكبير الدول الاستعمارية وعصر الاستعمار والدول الغربية في عصر ما بعد الاستعمار وكذلك إسرائيل من "التأمر" بهذا الصدد حيث تحاول اللعب بورقة الأقليات في الوطن العربي سعيا إلي تفتيت وحدة المجتمعات العربية مما يسهل لها تمرير سياساتها الاستعمارية. وبالمقابل يذهب الباحث المحترم سمير مرقص إلي تحميل المسئولية ليس للاستعمار وإنما لاخفاق الدولة الوطنية في بناء جماعة سياسية حاضنة للتعدد علي قاعدة المواطنة من جانب وتوفير المناعة المطلوبة لرفع قدرتها الدفاعية للحفاظ علي هذه الجماعة بتنوعها في إطار الوحدة. من جانب آخر كذلك غياب قيمة التعددية عن منظومة الثقافة السائدة ومن ثم تجليها في الواقع. وهكذا نجد التناحر المذهبي والديني والقومي والمناطقي إلخ يسود المنطقة ويصبح السؤال: هل هناك إشكالية بنيوية في قبول التعددية؟ وإجابة سمير مرقص علي هذا السؤال الصعب هي انه من ضمن ما يعوق القبول بالتعددية من خلال ما نراه هو: شعور أحد الأطراف بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن علي باقي الأطراف التحرك في فلكه. استقواء أحد الأطراف بقوي خارجية في مواجهة الآخرين. سيطرة أحد الأطراف علي مصدر الثروة والاستئثار بها علي حساب الأطراف الأخري. أو كل ذلك مع وكل هذه الاعاقات في نظره لا يمكن أن تقيم مجتمعا متماسكا تتكامل فيه مكوناته وتندمج معا من أجل الخير العام، وكما نؤكد علي المواطنة بمعناها العام فإننا مع التعدد الثقافي والديني. نطرح مفهوما التفتت إليه الدول التي عرفت إشكاليات التنوع الثقافي وتنامي صعود الهويات الثقافية والدينية والعرقية قبلنا هذا المفهوم هو "المواطنة الثقافية" والتي تعني ببساطة حق كل مكون أن يعبر عن نفسه في المركب الثقافي العام لمجتمع بعينه شريطة أن يكون المركب الثقافي من "البراح" في إتاحة المساحات المطلوبة للخصوصيات الثقافية في أن تعبر عن نفسها، وأن تجتهد هذه المكونات في البحث عن "مشتركات" تفيد المجتمع الذي يضمهم معا ولن يأتي هذا إلا من خلال إعادة النظر في نظم التنشئة ومراجعة مناهج التعليم والمواد الاعلامية والقوانين واللوائح الداعمة بحيث يراعي دوما التأكيد علي حضور الآخر والتعريف بثقافته وتاريخه ومن ثم يكون مألوفا لدي الباقين وعليه تتجلي التعددية في الواقع والمسئولية في ذلك - والكلام مازال لسمير مرقص - تقع علي الدولة من جانب وعلي تغير الثقافة السائدة من جانب آخر. هذه الروشتة التي وضعها الباحث المحترم سمير مرقص نجد لها اصداء ومشابهات في برامج وأدبيات قوي وديمقراطية ووطنية متعددة تتلمس الطريق نحو مصر المستقبل علي قاعدة المواطنة والعقلانية وإعادة الاعتبار إلي العلم والتفكير العلمي. وهذه الأدبيات كلها تنطلق من الايمان بالحكمة التي لخصها لنا أدونيس وهي أن الأحادية صحراء وان زوال التعددية في المجتمع زوال لتاريخه وأن المجتمع نفسه يفقد اجتماعيته ويتحول إلي قطيع. فهل هذا هو المصير الذي نرضي به؟!!