يمكن القول أن المهمة الأولي للإدارة الأمريكيةالجديدة بمجرد دخولها البيت الأبيض ستكون مراجعة علاقاتها مع القوي الكبري في العالم بما في ذلك روسيا والصين. مازالت أصداء الحرب الروسية_الجورجية تتردد وتتسع دوائرها علي المستوي السياسي والاستراتيجي أكثر منه علي المستوي العسكري بعد أن خفت حالة الصدام. جهود عظيمة أوروبية ودولية بُذلت لوقف إطلاق النار والضغط علي روسيا الانسحاب من جورجيا وفق شروط معينة، لكن الحدث فرض سؤالا مُهما عن مستقبل العلاقات الروسية _ الغربية بوجه عام، وهل من الممكن أن تدخل هذه العلاقات نفقا موحشا لحرب باردة في عالم ليس علي استعداد لهجر كل ما حققه علي أرض الواقع من تداخل وتعاون، وما أقامه من آليات لمنع العودة مرة أخري إلي زمن الاستقطاب والاستعداد الدائم للحرب. ماذا تعني جورجيا ومثيلاتها من دول الاتحاد السوفييتي السابق لأمن البلقان والقوقاز، وهي دول لم تستقر بعد، ولم تنضم للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ وهل من الممكن أن تتحول إلي عود ثقاب تشتعل منه حرب إقليمية أو عالمية جديدة. لاشك أن الحرب الروسية-الجورجية الأخيرة تُذكرنا بأننا مازلنا نعيش بعض أصداء الحرب الباردة وانهيار حائط برلين ومعه الاتحاد السوفييتي السابق. فمنذ لحظة الانهيار، تقدم المعسكر الغربي الفائز في الحرب بمشروعه الحضاري وتجربته الذاتية كثمن لنتيجة هذه المواجهة الأيديولوجية الطويلة. وأول المتضررين في دول أوروبا الشرقية كانت الأجهزة الأمنية الجبارة، فلم يدر في خُلدها يوما أن يقوم الحكم علي أساس انتخابات عامة بين أحزاب متنافسة، أو أن يصبح الاقتصاد والإعلام حرا، أو أن تُحترم حقوق الإنسان. وتوالي سقوط الرؤساء في ألمانياالشرقية والمجر ورومانيا، وكان عصيان بولندا علي النظام السوفييتي الحديدي قد بدأ مُبكرا وأحدث ارتجاجات هائلة في الكتلة الشرقية. ومن يريد أن يعرف حالة تلك المنطقة قبل سقوط الاتحاد السوفييتي عليه أن يقرأ كتاب جورباتشوف عن البرسترويكا وإعادة البناء وحالة الاقتصاد وانتشار الفساد إلي درجة أن تلك البلاد برغم تقدمها التكنولوجي لم يكن في مقدورها الاستحواذ علي نصيب معقول من التجارة الدولية. ومن الطبيعي أن الفراغ الأيديولوجي المفاجئ في تلك المنطقة الواسعة من العالم قد ساعد علي استقبال فكر مختلف من العالم الآخر الذي كان يتلألأ علي الجانب الآخر من حائط برلين. ومن الطبيعي أيضا أن تنشط المخابرات الغربية للترويج لبضاعتها، ومساعدة المتحمسين في هذه البلاد للنظام السياسي الغربي بكل عناصره المعروفة. والنتيجة كانت مدهشة، فقد تم توحيد ألمانيا بسلام وبدون حرب أهلية لكن بثمن باهظ ماليا واقتصاديا دفعته ألمانياالغربية بصدر رحب. وعلي امتداد عقدين تقريبا كانت معظم دول أوروبا الشرقية قد تحولت من حال إلي حال آخر، وانضم معظمها إلي الاتحاد الأوروبي، وكان لذلك أيضا تكلفته العالية بالنسبة لدول أوروبا الغربية. ولولا تلك الهندسة السياسية التي تبناها المعسكر الغربي لتحول زلزال انهيار الاتحاد السوفييتي إلي كارثة بشرية وسياسية مروعة ولم يكن ممكنا احتواؤها في فترة قصيرة. ومن ناحية أخري لم يحدث التحول بنفس الدرجة في منطقة البلقان والقوقاز المتاخمتين لروسيا. وتطلب الأمر في البلقان إلي حرب كوسوفو بقيادة حلف الناتو والهدف كان حسم الاختيار، وتطبيق الهندسة السياسية الغربية بعد انتهاء الحرب من خلال توازنات مُبدعة سياسيا وفي وجود قوات لحفظ السلام..إلخ وهذه المنطقة في سبيلها الآن لتصبح كلها تقريبا جزءا من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. روسيا نفسها دُعيت بواسطة الغرب لتصبح العضو الثامن في مجموعة الدول الصناعية الكبري، وشاركت حلف الناتو في مجلس خاص يتم من خلاله الحوار والتنسيق بين الطرفين، لكن روسيا من الداخل لم تتغير بنفس درجة دولة مثل تشيكيا أو المجر مثلا. فمازال علي رأسها رجل مخابرات، ومازالت مؤسساتها الأمنية لها نفوذ قوي، ويكفي أن بوتين قد أصبح رئيسا للوزراء بعد أن كان رئيسا للجمهورية حتي يستمر في موقع الضوء والنفوذ. وبقيت دولتان مهمتان هما جورجيا وأوكرانيا يمثلان بالنسبة إلي روسيا مجالا حيويا لا يجب علي الغرب الاقتراب منه برغم أن الدولتين من الداخل قد استقر أمرهما علي اختيار النظام الديموقراطي وبدءوا سعيهم للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. كان أمام روسيا خياران استراتيجيان. الأول: أن يحدث داخلها تحول كامل نحو الديموقراطية وتصبح مثل اليابان وكوريا الجنوبية عضوا في منظومة الدول الغربية، وكان ذلك يعني لو حدث انتصارا كاملا للغرب والولاياتالمتحدة علي وجه الخصوص، أو أن تتحول جُزئيا من الداخل علي أن تبقي "مختلفة" في سياساتها الخارجية من خلال الحرص علي علاقات دافئة مع دول مثل إيران والعراق قبل الغزو وسوريا وكوريا الشمالية، وتُعيد رسم دورها كمناوئ للولايات المتحدة والغرب أو علي الأقل أن يترك لها حرم حيوي محدود بالقرب من حدودها تُمارس فيه نفوذها القديم المفقود. ولاشك أن عددا من العوامل قد أغرت روسيا علي تبني الخيار الثاني، منها تدهور صورة الولاياتالمتحدة علي المستوي العالمي وتعرقل مشروعها في العراق وأفغانستان، وفشلها في حل قضايا الشرق الأوسط ودخولها في مواجهة مع إيران. ويضاف إلي ما سبق عامل انتعاش الاقتصاد الروسي بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي الأمر الذي ساعد روسيا علي تحديث بعض قطاعات قواتها المسلحة بعد أن كانت تعاني من تأثير التقادم وعدم التطوير. ما يحدث علي الجبهة الروسية-الأمريكية بما في ذلك موضوع جورجيا ليس بعيدا عن الشرق الأوسط. تأثير ذلك علي العلاقات الروسية الإيرانية موضوع مهم للغاية سوف تستغله إيران لصالحها خاصة بعد اكتشاف أن إسرائيل ضالعة في تزويد جورجيا بالسلاح والخبراء العسكريين. سوف يتأثر بطبيعة الحال المشروع الإسرائيلي للحصول علي نصيب من نفط بحر قزوين وخط الغاز بينها وبين تركيا وجورجيا وتركمانستان وأذربيجان. بالنسبة لدول الخليج وخاصة الإمارات، سوف تتأثر استثماراتهم في جورجيا. ميناء بوتي في جورجيا تملكه شركة من رأس الخيمة أُصيب في الغارات الروسية الأخيرة علي جورجيا. مياه الخليج أصبحت مؤخرا مزدحمة كما لم يحدث من قبل بوحدات بحرية من فرنسا وبريطانيا وكندا وفرنسا بالإضافة إلي مزيد من حاملات الطائرات الأمريكية، وبالتوازي مع حشد روسي من القطع البحرية في شرق المتوسط تحمل طائرات وصواريخ يمكنها الوصول إلي الخليج من مكانها الحالي. ومن غير المعروف في الظروف الحالية موقف روسيا من طلبات إيران من السلاح وخاصة الصواريخ المضادة للطائرات إس-300، والضغوط السعودية لوقف هذه الصفقة واستعدادها لشراء صفقة أسلحة روسية في مقابل ذلك. هناك عوامل أخري ضغطت علي الأعصاب الروسية وجعلتها تُعيد حساباتها السياسية. موضوع الدرع الصاروخي الأمريكي ونشر أجزاء مهمة منه في بولندا وتشكيا بالقرب من الحدود الروسية حيث تتكون من صواريخ ورادارات عملاقة من السذاجة النظر إليها بوصفها تجهيزات دفاعية خاصة من وجهة النظر الروسية. وهذا الموضوع من بقايا زمن بوش الابن، وأيضا كلينتون، وتعود جذوره إلي ريجان، وهو دليل علي ظاهرة مرور نظم أسلحة معقدة بأوضاع دولية مختلفة قبل أن تُصبح جاهزة للاستخدام وسط مناخ دولي مغاير لما كان عليه الحال عند زمن الفكرة الأولي؛ وثانيا: إصرار أمريكا علي استقلال كوسوفو عن صربيا برغم عدم موافقة عدد كبير من الدول علي ذلك بما في ذلك مجموعة لا يستهان بها من الدول الأوروبية؛ ثم ثالثا: نية ضم أوكرانيا وجورجيا إلي حلف الناتو. ومما زاد الأمور تعقيدا تزويد جورجيا بالسلاح مباشرة وبكميات كبيرة أو عن طريق إسرائيل. أما اندلاع الحرب في جورجيا فتُحكي عادة بطريقتين، الأولي تتهم "الانفصاليين" من جنوب أوسيتيا بالاعتداء علي قري جورجية قابله رد عنيف من جورجيا علي العاصمة أوسيتيا أعقبه تدخل روسي وغزو لأجزاء من جورجيا. والقصة الأخري أن جورجيا تنادي بعودة أوسيتيا وأبخازيا إليها وأنها قررت أن تستخدم القوة لتحقيق ذلك برغم وجود قوات حفظ سلام روسية في أوسيتيا. كل هذه أعراض لموقف عام تفتقد فيه روسيا الانسجام مع محيطها الاستراتيجي، كما تفتقد فيه الولاياتالمتحدة والغرب الانسجام مع طريقة التعامل مع روسيا في إطار ظروف متغيرة. وفي النهاية يمكن القول أن المهمة الأولي للإدارة الأمريكيةالجديدة بمجرد دخولها البيت الأبيض ستكون مراجعة علاقاتها مع القوي الكبري في العالم بما في ذلك روسيا والصين.