يعشق الأمريكيون تقييم عمل رؤسائهم علي فترات زمنية قصيرة ومتوسطة وطويلة، وهي فضيلة عظيمة تدفعهم من البداية وعلي كل المستويات إلي تعريف وتحديد مجموعة عناصر علي أساسها يمكن إجراء هذا التقييم. بعد مرور ثلاثة شهور من دخول البيت الأبيض تبدأ عملية تقييم أداء الرئيس الجديد حيث ينظر إلي الشهور الثلاثة الأولي باعتبارها "فترة سماح" يحاول فيها الرئيس الجديد التكيف مع منصبه الجديد، واستكمال فريق عمله، ووضع اللمسات الأخيرة علي سياساته الداخلية والخارجية. ومن حسن حظ الرؤساء الأمريكيين أن سنة الانتخابات نفسها تتحول بطبيعتها إلي مُنتدي قومي (ودولي أيضا في حالة أمريكا بالذات) يتم خلالها تمحيص كل المواضيع الآنية والمستقبلية في مناخ تنافسي ساخن تُطرح فيها كل الأفكار المُمكنة وغير المُمكنة، لذلك يدخل الرئيس المُنتخب إلي مكتبه البيضاوي وفي عقل إدارته حصاد معركة الانتخابات ومفرداتها، وما عليهم إلا الانتقال من مرحلة الآمال إلي مرحلة تحويل الأمل إلي أشياء حقيقية علي أرض الواقع. ومن المعلوم أن سياسات أوباما قد ارتبطت من البداية بعدد من الخصائص من أهمها دعوته إلي التغيير CHANGE في السياسات الداخلية والخارجية، ورأب الصدع بين أمريكا والعالم الإسلامي، وضرورة حل القضية الفلسطينية، وإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق، وإخراج الولاياتالمتحدة وأوروبا والعالم من الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالجميع خلال السنة الأخيرة من إدارة الرئيس بوش، فضلا عن تغيير مسار العملية العسكرية في أفغانستان وإخراجها من مرحلة التقهقر إلي المُبادرة داخل إطار أوسع يحتوي بين أهدافه التصميم علي هزيمة قوي الإرهاب الدولي ليس فقط داخل أفغانستان ولكن في امتداداته الخارجية علي مستوي العالم. كانت مهمة أوباما الأولي أن يقدم للعالم أمريكا جديدة غير تلك التي عرفها خلال إدارة بوش الابن، وقد نجح أوباما في هذا المسعي بسبب مهارته العالية في التواصل والعلاقات العامة، وعزمه علي تغيير طبيعة الخطاب الأمريكي ليصبح أكثر تواضعا وتوددا مع الأطراف الأخري. توجيه أوباما لخطاب خاص إلي الشعب الإيراني، ثم حديثه الشهير في القاهرة إلي العالم الإسلامي، كان تعبيرا واضحا عن إرادة أمريكية تسعي علنا إلي تحسين علاقات الولاياتالمتحدة مع العالم الإسلامي شعوبا ودولا، وكان لخطابه في الحالتين تأثيرا إيجابيا ملموسا علي كل من المُعجبين به والمُنتقدين له علي السواء. ولاشك أنه في إطار علاقة الرئيس الأمريكي بشعوب العالم قد تحقق تحول ملموس مقارنة بما كان عليه الحال مع الرئيس الأمريكي السابق الذي لم يزر بلدا إلا وخرجت المظاهرات تهتف ضده وضد الولاياتالمتحدة وهو شئ لم يحدث حتي الآن مع أوباما برغم أن نتائج سياساته لم تظهر بعد. وربما كان فوزه المُفاجئ بجائزة نوبل للسلام إشارة واضحة بأن العالم يتصالح مع أمريكا من خلاله، ويمنحه في نفس الوقت مُهمة للمستقبل وليس فقط جائزة وتكريما. وكان ظاهرا أيضا حرص أوباما خلال عامه الأول علي زيارة أماكن مفاتيح سياسيات أمريكا الخارجية، فقد زار الشرق الأوسط وأوروبا وجنوب وشرق آسيا مُؤكدا علي أن الولاياتالمتحدة لن تعمل وحدها، وأنها علي استعداد للترحيب بكل من يريد أن يشارك معها مُهمة التصدي للتحديات الكبري التي تواجه عالم اليوم. بالنسبة للعراق وأفغانستان يمكن القول إن أوباما في حالة العراق قد مشي علي نفس خطة الرئيس بوش، وكان ذلك منطقيا فالخطة في حد ذاتها كانت تراجعا عن السياسات الأمريكية اليمينية المتطرفة التي بدأ بها بوش رئاسته. وانعكس ذلك في تمسك أوباما بنقل المسئوليات الأمنية تدريجيا إلي السلطات العراقية، وانسحاب القوات الأمريكية إلي خارج المُدن، والإعداد للانتخابات القادمة. وبرغم العمليات الانتحارية الدموية التي شنتها قوي عدم الاستقرار في العراق إلا أن ذلك لم يغير من خطة الانسحاب وتولي الجانب العراقي لمسئولية الحكم. وفي هذا الميدان حرص أوباما علي الحفاظ علي شعرة معاوية مع سوريا، ولم يشجع الحكومة العراقية في نقدها للسوريين، ونظر بعين الرضا إلي تطور العلاقات التركية السورية والموقف السوري المعتدل من قضية المصالحة الفلسطينية وتحسين العلاقات مع لبنان. بالنسبة للتحدي الأفغاني نجح أوباما في إقناع الكونجرس الموافقة علي إرسال 30 ألف جندي لتغيير مسار الحرب في أفغانستان. وفي حالتي العراق وأفغانستان كان تركيز أوباما مُنصبا علي التصدي لقوي الإرهاب العالمي بوصفها العدو الحقيقي وصاحبة غزوة 11 سبتمبر اعتمادا في المقام الأول علي قدرات المُخابرات الأمريكية في ملاحقة الإرهابيين واغتيال زعمائهم في أفغانستان واليمن والقرن الإفريقي مع استعداد لتوسيع الدائرة لتشمل دولا أخري. ويبدو من تفاصيل الأحداث أن أوباما قد نجح في التعاون مع عدد من دول الشرق الأوسط في التعاون علي اصطياد الإرهابيين واحدا واحدا وبمعدلات أسرع مما كانت عليه من قبل. ويشمل ذلك اليمن وباكستان وأفغانستان، ولا يستبعد مُشاركة دول أخري في هذا النشاط مثل الهند والأردن والسعودية. ولعل رد الفعل الإرهابي كان واضحا في أكثر من عملية كان آخرها مُحاولة تفجير طائرة وهي في طريقها من أوروبا إلي الولاياتالمتحدة، ونجاح الإرهابيين في اغتيال مجموعة كبيرة من المخابرات الأمريكية في أفغانستان. باختصار، وبرغم أن النتائج لم تتبلور بعد، هناك تقدم في تنفيذ إستراتيجية أوباما فيما يتصل بالعراق وأفغانستان، ولعل سخونة ما يجري هناك من صدامات دموية ناتج من اقتراب مرحلة النهاية وليس دليلا علي تعرقل أو فشل في خطط أوباما. علي مستوي الصراع العربي الإسرائيلي وعملية السلام لا يبدو أن شيئا تحقق يمكن أن يشار إليه بوصفه إنجازا. فبرغم محاولات أوباما الأولية للجمع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلا أنها لم تُثمر عن شئ ذي بال، ولم تعكس جدية وعزيمة من الجانبين، وربما كان العائد تعليميا في المقام الأول بالنسبة لأوباما علي المستوي الشخصي مُستمعا إلي أبو مازن ونتنياهو مباشرة وكيفية تعاملها معا. وهي تجارب مر بها كارتر مع كل من السادات وبيجين ولكن علي انفراد مع كل منهما قبل يقفز في بحار عملية السلام الهائجة. وقد توازي ذلك مع نجاح محدود في وقف بناء المستوطنات، إلا أن الصورة العامة لا تُنبئ عن شئ جاد يمكن رصده في هذا الشأن. الأكثر أهمية من جبهة الصراع العربي- الإسرائيلي كانت جبهة الولاياتالمتحدة مع إيران، وما تحقق فيها حتي الآن من زيادة في التوتر بسبب رفض إيران وقف أنشطة تخصيب اليورانيوم في الداخل ورفضها لنقل هذا النشاط خارجها. وقد يبدو علي السطح أن إستراتيجية أوباما لم تحقق شيئا علي الجبهة الإيرانية إلا أن الولاياتالمتحدة قد نجحت في إقناع حلفائها علي تكثيف حصارهم الاقتصادي علي إيران بعد نجحت الإدارة الأمريكية في تشجيع قوي المُعارضة للعمل ضد نظام الحكم الحالي إلي حد الثورة ضده. وقد نجح أوباما بقدر معقول في إقناع كل من الصين وروسيا في الضغط علي إيران، وبدا ذلك في إبطاء روسيا عملية تشغيل المُفاعل النووي الإيراني وكذلك التلكؤ في تزويد طهران بصواريخ روسية مضادة للصواريخ. ويقودنا ذلك إلي تحول مهم أنجزه أوباما في عام حكمه الأول. فقد أنهي بوش فترته الثانية والجبهة الروسية-الأوربية في حالة توتر شديد نتيجة إصرار الرئيس الأمريكي علي نشر صواريخ أمريكية مُضادة للصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك، فضلا عن التوتر في جورجيا وتعرضها لتحرش عسكري روسي. وربما يكون الإنجاز الكبير الذي حققه أوباما في سنته الأولي تغييره للإستراتيجية العسكرية في أوروبا من خلال استئناف مشروع بناء الثقة الكبير الذي بدأ مع الاتحاد السوفييتي قبل انهياره ثم بعد ذلك مع روسيا في أعقاب انهيار حائط برلين. فمن الإنجاز التاريخي للحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا خلال سنوات التسعينيات والذي صار مُهددا مع نهاية رئاسة بوش بتجميد روسيا لكثير من المُعاهدات الأساسية علي المستوي الأوروبي إلي إنجاز أوباما بقرار عدم نشر الصواريخ الدفاعية الإستراتيجية فوق الأرض الأوروبية واستبدال ذلك بنظم دفاعية صاروخية تكتيكية وميدانية، ونشرها فوق وحدات بحرية في المتوسط وبحر العرب والمحيط الهندي. وقد انعكس ذلك بوضوح في المناورات الأمريكية الإسرائيلية لنظم الصواريخ المضادة للصواريخ الدفاعية، وفي مشاريع تطوير أُخري في الطريق، مع الحرص علي التنسيق الاستراتيجي مع روسيا، وتنشيط مجلسها مع حلف الناتو علي أكثر من صعيد.