كل العاملين في الدولة يدفعون جزءا من أجرهم كل شهر مقابل الحصول علي معاش شهري بعد الخروج إلي المعاش أو نتيجة الإصابة في العمل أو التقاعد لسبب أو لآخر. أعلم أن كلمة "الرأسمالية" ليست من الكلمات المحببة في دولة مصر؛ وربما في العالم كله، لأنها ارتبطت بالاستغلال، والظلم الاجتماعي، وزيادة الأغنياء غني والفقراء فقرا؛ أو هكذا تقول الأمثال الذائعة عن الدولة الرأسمالية. ولكن الحقيقة ليست كذلك بالمرة، فالثابت أن الدول الرأسمالية هي التي قللت من معدلات الفقر بأكثر بكثير مما نجحت الدول الاشتراكية التي وظيفتها الأساسية- كما يقال- تحقيق العدل الاجتماعي، وبالطبع فإنها الدول التي تحتل قمة سلم التقدم والمعرفة والثروة في عالمنا. وبالطبع لا توجد حاجة هنا للإشارة إلي أن الدول الرأسمالية هي دول لديها فرصة أكبر في أن تكون ديمقراطية أيضا، ولكن موضوع الديمقراطية- علي أية حال _ ليس موضوعنا هذه المرة. ما يهمنا في الموضوع هو أن الرأسمالية نجحت في العالم لأنها كانت الأكثر كفاءة، والأكثر قدرة علي تعبئة الموارد البشرية والمادية، وتقليل الفاقد، والأهم من ذلك كله إنتاج الثروة وتحقيق التراكم فيها. فوظيفة المجتمعات ليست إدارة الفقر وتوزيعه بين الناس، والمجتمعات التي فعلت ذلك هي المجتمعات التي ظلت فقيرة علي الدوام، وإنما هي إدارة الغني وتوليد الثروة للمجتمع كله، والمجتمعات التي فعلت ذلك هي التي أصبحت غنية علي الدوام. ولكن السؤال الملح في بلادنا هو دائما ماذا يفعل الفقير منا في مجتمع رأسمالي، وهل يستطيع مع فقره أن يعيش حيث تسود قوانين القوة والغني؟ والإجابة هي نعم وهي ممكنة، فما تفعله الدولة حاليا من خلال سياسات الدعم للأفراد الفقراء، والشركات الخاسرة أيضا _ بما فيها المؤسسات الصحفية أيضا- يمكنه أن يتحول إلي سياسات أخري تقوم علي توسيع قاعدة الملكية في المجتمع، وبدلا من حصول الفقراء علي دعم للعيش، فلماذا لا يحصلون علي أسهم في الشركات سواء العامة أو الخاصة بحيث يقدرون علي بيعها وشرائها والكسب من أرباحها. الفكرة بسيطة وجربتها البلدان "الاشتراكية" حينما وسعت من قاعدة الملكية العامة لوسائل الإنتاج من خلال تملك الشعب الفقير لأسهم الشركات فيصير غنيا وقادرا ومشاركا في حركة السوق بيعا وشراء. وفي الوقت الراهن هناك حوالي 1.6 مليون مصري فقط يشاركون في سوق الأوراق المالية فكيف يكون الحال لو أن هذا العدد ارتفع إلي بضع عشرات من الملايين؟. المؤكد هنا أن السوق المصرية سوف تتسع اتساعا كبيرا، ولكن الأهم من اتساع السوق هو مشاركة الناس في العملية الاقتصادية والذي يعد من أهم أركان فكرة المواطنة التي يشيع عنها أنها مفهوم سياسي، ولكنها في جوهرها مفهوم اقتصادي يزيد من اعتماد الأفراد علي بعضهم البعض ويجعلهم في النهاية جزءاً من سوق واحدة ووطن واحد. وإذا تساءل الناس كيف يمكن للمواطنين أصحاب المعرفة المتواضعة بحركة السوق أن يكونوا جزءا من حركة البيع والشراء والدخول والخروج، فإن الإجابة هي أن الناس تدخل إلي العملية التعليمية وتخرج منها، وتدخل إلي ساحة القانون وتخرج منه، بل وتدخل السوق وتخرج منه اعتمادا علي خبرات يوفرها آخرون من مدرسين ومحامين وقضاة ومحاسبين وغيرهم. ولو تحقق ذلك فسوف تكون الديمقراطية ممكنة، ولمن لا يعلم فإن هناك تناسباً عكسياً بين الدول التي تقوم علي الدعم والفكرة الديمقراطية، فالمواطنون الذين يعتمدون علي الحكومة يصعب عليهم محاسبتها أو رفض ما تقول به؛ أما عندما يستقل الناس عن رغيف عيش الحكومة فإن فكرة المحاسبة يكون لها معني؛ وعندما يشاركون في الثروة من خلال تملك الأسهم وتملك الشركات فإنهم يكونون أكثر قدرة علي تكتيل المصالح ورفض الزيف والتزييف. ولكن الأخطر من ذلك كله فهو زيادة الثروة الكلية في المجتمع، فكلما زاد عدد المساهمين، وزادت حركة البيع والشراء فإن القدرة علي الاستثمار تتصاعد في المجتمع وهي المفتاح الرئيسي لخلق الثروة والفرصة وتحقيق ما هو معروف بالتراكم الرأسمالي الذي ينقل الدولة من حال إلي حال. وهذه ليست هي الفكرة الوحيدة الممكنة التطبيق في مصر والتي تجعلها قادرة علي مضاعفة الاستثمارات خلال فترة قصيرة من الزمن تنقلها من التخلف إلي التقدم ومن الضعف إلي القوة ومن الفقر إلي الغني. والفكرة ببساطة هي أن ترفع الدولة يدها عن عمليات التأمين والمعاشات وتجعلها علاقة مباشرة بين الأفراد وشركات التأمين المختلفة؛ وإذا أرادت الدولة أن تحمي الفقراء فإنها يمكنها أن تفعل ذلك من خلال شركات التأمين _ الخاصة طبعا- أيضا. والفكرة ببساطة هي أن كل العاملين في الدولة يدفعون جزءا من أجرهم كل شهر مقابل الحصول علي معاش شهري بعد الخروج إلي المعاش أو نتيجة الإصابة في العمل أو التقاعد لسبب أو لآخر؛ والذين تريد الدولة أن تقدم لهم ضمانا أو معاشا اجتماعيا يغنيهم عن الفقراء تقوم بذلك نيابة عنهم. ولكن المشكلة في ذلك متعددة الأوجه: أولها أن الفرد نفسه ليس له علاقة بالموضوع، ولما كان الأفراد لا يتماثلون من حيث عدد أفراد الأسرة أو الحالة الصحية فإنهم يدفعون قيما متساوية رغم اختلاف الظروف. وثانيها أن الدولة تأخذ أنصبة الناس ثم تقوم باستثمارها، ولما كانت الدولة أسوأ مستثمر فإن عائد الاستثمارات لا يسد الحاجات المتزايدة للخارجين علي المعاش أو المتقاعدين بالإضافة إلي تكلفة الفرصة البديلة التي لا تقدر بثمن. وثالثا، ونتيجة هذه الحالة المزرية فإن الحكومة تقوم بمد سن المعاش ( القضاة وأساتذة الجامعة والصحفيين) وتجعل موظفيها يحصلون علي أجر ومعاش في نفس الوقت وهو ما يخلق تناقضات مجحفة بين موظفي الدولة. حل هذه المسألة معروف وهو أن تترك الحكومة للناس أجورهم كاملة، وهم وحدهم يقومون من خلال شركات التأمين علي الحياة وشراء المعاش كل منهم حسب ظروفه وأحواله؛ وهذه الشركات بحكم قدراتها الاستثمارية تستطيع أن تكفل عائدا أعلي بكثير مما تكفله الحكومة، وبالتأكيد أكثر ضمانا من شركات توظيف الأموال التي كانت طريقة الناس في البحث عن طريقة أخري لضمان مستقبلهم. ولكن النتيجة الأساسية لكل ذلك هي زيادة المدخرات الوطنية، ومن بعدها الاستثمارات القومية التي هي الأساس حتي لزيادة الاستثمارات الخارجية. وهكذا تكتمل الحلقة، فالفكرة المطروحة هنا هي إطلاق الطاقات المحبوسة داخل الحكومة سواء في شكل أموال طائلة للدعم، أو أموال كثيرة محبوسة في التأمين، وتوفير الوسائل الأكبر لاستثماراتها سواء من خلال شركات صناعية وزراعية وخدمية داخل السوق الفعلية أو من خلال شركات التأمين. وعندما تصل هذه الاستثمارات إلي نقطة بعينها فإن مصر تكون قد تغيرت وانطلقت من حالتها الراهنة إلي حيث تجاور دولا أخري أكثر رقيا وتقدما !!.