منذ خمسينيات القرن العشرين وحتي الآن كانت مصر تنظر إلي نفسها بوصفها دولة من دول القارة الإفريقية، لكن قلبها وعقلها مع ذلك كانا مشغولين بالشرق والغرب ولم يتبق للجنوب إلا حيز محدود من الوجدان والتفكير المصري اجتمعت قمة الاتحاد الإفريقي الحادية عشرة في مصر بمشاركة 44 دولة إفريقية وسط ظروف إقليمية ودولية معقدة كان لها عظيم الأثر في تشكيل حاضر ومستقبل القارة السوداء التي مازالت تعيش علي حافة بحار العولمة لم تطلها التحولات العميقة التي مرت بقارات وأقاليم أخري مثل آسيا وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية. ومنذ خمسينات القرن العشرين وحتي الآن كانت مصر تنظر إلي نفسها بوصفها دولة من دول القارة الإفريقية، لكن قلبها وعقلها مع ذلك كانا مشغولين بالشرق والغرب ولم يتبق للجنوب إلا حيز محدود من الوجدان والتفكير المصري، وهو اتهام مازال يوجه إلي مصر حتي اليوم. وفي الحقيقة لم يكن مستوي الاهتمام المصري هو المهم، ولكن المهم كان موضوع الاهتمام الذي انصب منذ ثورة يوليو علي توفير مصدر دائم للمياه بالنسبة لمصر وتحقيق الاستقلال الوطني من الاستعمار لدول القارة وليس أبعد من ذلك. وقد عاشت مصر مع دول القارة تجربة الاستقطاب العالمي خلال زمن الحرب الباردة، وانقسام القارة بين دول مشايعة للاتحاد السوفييتي ونظرية التحول الاشتراكي، وأخري تعيش تحت مظلة الولاياتالمتحدة والغرب وتعتنق علي استحياء نظريات الانفتاح والديموقراطية والتحرر الاقتصادي. وانشغلت مصر بعد ذلك خلال سنوات التسعينات بعيدا عن إفريقيا بتفعيل السلام مع إسرائيل علي المستوي الثُنائي ثم علي المستوي العربي، لكن ذلك تعرقل تحت وطأة دبلوماسية بطيئة مترددة، ثم جاءت أحداث الإرهاب و 11 سبتمبر وحربا أفغانستان والعراق لينسحب العقل المصري تماما بعيدا عن إفريقيا ولفترة طويلة. تتكون إفريقيا في وقتنا الحالي من 53 دولة مستقلة معظم حدودها قد رُسم في زمن الاستعمار الأوروبي لدول القارة حيث مازالت تعاني حتي الآن بصورة واسعة من عدم الاستقرار والفساد والاستبداد والعنف. وقليل من هذه البلاد قد نجح في الحفاظ علي حكم ديموقراطي مستقر، في حين عاش الباقي في ظل انقلابات واغتيالات للزعماء. وتُعاني القارة من انتشار ظاهرة الدول الفاشلة وتفشي مرض الإيدز، لكن ذلك لم يمنعها من إقامة إطار إقليمي يجمع دولها المستقلة في صورة منظمة الوحدة الإفريقية والتي تحولت بعد ذلك إلي الاتحاد الإفريقي في التاسع من يوليو 2002 وكانت مصر أول الدول التي استضافت مؤتمرا للقمة علي مستوي القارة الإفريقية من 17 إلي 21 يوليو 1964. ولقد تواكب مع ذلك بناء مؤسسات إفريقية هدفها تحقيق الاستقرار علي مستوي القارة، مثل آلية منع المنازعات والتي أعلن عن إنشائها في 1993، وكذا مركز القاهرة للتدريب علي حل المنازعات وحفظ السلام في إفريقيا. وعلي مستوي التطبيق العملي، شاركت مصر في عمليات بناء الدولة وحفظ السلام في إفريقيا كما حدث في الكونغو والصومال وموزمبيق ورواندا وأنجولا ورواندا وليبيريا والصحراء الغربية ومؤخرا في دارفور بالسودان. ولقد حرصت مصر خلال العشر سنوات الماضية علي لعب دور بناء بين دول حوض النيل، كما انضمت إلي السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (كوميسا)، وانضمت إلي اتحاد الساحل والصحراء في 2001. كما استضافت مصر في عام 2000 أول مؤتمر قمة إفريقي-أوروبي، وفيه طالبت مصر بإلغاء ديون دول إفريقيا لدول الشمال المتقدمة. وبرغم ثروات إفريقيا الطبيعية الهائلة إلا أنها مازالت القارة الأفقر علي مستوي العالم، والأقل تطورا بين القارات الأخري، حيث ينتشر في إرجائها الفقر والجهل والمرض، ويعيش علي أرضها 36.2 % من سكانها بأقل من دولار واحد في اليوم. ولتكن فرصة انعقاد قمة إفريقيا في مصر هذه السنة بداية مراجعة لنظرية مصر الجيواستراتيجية ومدي حاجتها إلي التعديل أو التغيير. والجيواستراتيجي هي خليط من الجغرافيا والتخطيط الشامل المتصل بها لتحقيق أهداف ومصالح عليا آنية ومستقبلة لمصر. ولقد تنازع العقل الاستراتيجي المصري خلال الستين عام الماضية مدرستان لا تقومان علي أساس جغرافي متين: المدرسة العربية والمدرسة الإسلامية وكلاهما يعطيان للثقافة والدين النصيب الأوفر في تحقيق المصالح العليا للدولة وليس الجغرافيا . ولقد أثبتت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا فشلها وهما بلدان من قارتين مختلفتين ويدينان بالإسلام والعروبة. وأُرجعت النتيجة إلي مؤامرات متصورة قادمة من الداخل والخارج لكن أحدا لم ينظر إلي عامل الجغرافيا في تبرير هذه النتيجة. وليس معني ذلك أن الوحدة السياسية بين بلدين أو أكثر لن تنفصم في حالة قيامها في إطار قارة واحدة، أو أن الوحدة الكاملة سياسيا وجغرافيا بين مجموعة من الدول هو الطريق الأمثل لتحقيق أهداف ومصالح عليا معينة لهم؛ إلا أنه بحكم التجارب المعروفة نجد أن مفهوم القارة كوحدة جغرافية عملاقة كانت الأوفر حظا في احتضان هذه التجارب الجماعية للعيش المشترك مقارنة بالتجارب المماثلة الأخري. ما هو العائق إذن أمام دول قارة إفريقيا لتحقيق معدلات نمو تسمح بانتقال دولها من ذيل قائمة الدول الساعية للتقدم إلي رأس القائمة؟ والإجابة علي هذا السؤال تتطلب الاعتراف بشجاعة وبشفافية أن الديموقراطية غائبة عن معظم الدول الإفريقية، وأن جيل الرؤساء الذين حققوا الاستقلال مازالوا متمسكين بمقاعدهم، ومن أجل ذلك تٌمارس عمليات للعنف والاحتجاج من أجل إبقاء الحال كما هو عليه بدون تغيير. وهناك نسبة كبيرة من دول القارة منقسمة علي نفسها، تعيش تخلفها تحت وطأة نظام للحكم ينافسه حزمة من المتمردين لأسباب مختلفة أهمها غياب الديموقراطية. وأقرب الأمثلة لذلك ما حدث في كينيا وموزمبيق، حيث تعرضت الانتخابات الرئاسية للتزوير في البلدين، وفقد النظام الحاكم مشروعيته أمام الشعب، وأصبح الاحتكام للسلاح بين الفرقاء هو الطريق الوحيد. ومقارنة بالقارات الأخري لا تتبني القارة الإفريقية مشروعا واضحا للتقدم. ففي حالة الاتحاد الأوروبي علي سبيل المثال كانت الديموقراطية شرطا أساسيا للانضمام إلي الاتحاد. فليس هناك من معني أن يجلس حول المائدة المشتركة رجال لا يمثلون شعوبهم. ودول مثل أسبانيا واليونان ومؤخرا تركيا كان العسكر يجلسون فيها علي مقاعد الحكم، لكن ذلك تغير ليس بدافع رغبة وإرادة داخلية فقط، ولكن بسبب وجود شروط جماعية متفق عليها تمثل مشروعا مشتركا للجميع. ولا يتوقف الأمر علي الديموقراطية، ولكن هناك شروطا أخري تتصل بعلاقة الدولة بجيرانها ووجود نزاعات حدودية لها مع الآخرين من عدمه. وكثير من الدول غير الديموقراطية تستغل صراعاتها مع الخارج في تعويض ما تعان منه من نقص في شرعيتها الداخلية. ونري في حالة تركيا كيف أن الاتحاد الأوروبي استغل رغبة تركيا في الانضمام إلي الاتحاد في محاولة تسوية المشكلة القبرصية. وبرغم أن المشكلة القبرصية لم تحل حتي الآن إلا أن جوانب كثيرة منها قد تغير في صالح إنهاء النزاع في المستقبل. والبعد الثالث المفتقد في المشروع الإفريقي هو علاقة إفريقيا بالخارج. ومن الواضح أنه برغم وجود هيكل مؤسسي للوحدة الإفريقية إلا أن علاقة هذه المؤسسة المحورية بالقوي الكبري خارج إفريقيا مازال غامضا. وحتي الآن لا توجد سياسة إفريقية متجانسة بين دول الاتحاد الإفريقي من جهة ودول الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وحلف الناتو من جهة أخري. إن وضع قواعد للعلاقات مع القوي الخارجية يمكن أن يتحقق لإفريقيا من خلالها فوائد اقتصادية واجتماعية جمة، أما في حالة عدم وجود لهذه القواعد، فسوف تتحول القارة إلي مسرح لصراع الدول الكبري، وهو ما يبدو الآن من تنافس بين الصين من جهة وبين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة من جهة أخري. وهناك من الظروف العالمية ما قد يحول إفريقيا من مشكلة تبحث عن حل إلي أن تصبح هي نفسها حلا للمشاكل العالمية مع تفاقم أزمات الطاقة والغذاء. فالأرض الإفريقية تقع معظمها في حزام الشمس الساطعة، كما أن أرضها الخصبة وثرواتها الطبيعية البكر يمكن أن تكون موضوعا للتعاون الثنائي والجماعي بين دول القارة، وأيضا بينهم وبين الدول الأخري الخارجية.