لم تخل الأحداث منذ أربع سنوات تقريبا من أنباء تقول إن الحرب قد أصبحت وشيكة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخري. وربما تميزت الأنباء الأخيرة في 2008 بمزيج من استعراض القوة في صورة مناورات عسكرية إسرائيلية وأمريكية، وأخري إيرانية مضادة، مضافا إليها نوبات من عقوبات مجلس الأمن، أو الدعوة إلي عقوبات من خارج المجلس بواسطة الولاياتالمتحدة منفردة، أو بدعم من الاتحاد الأوروبي. وآخر نوبة تصعيد في هذا المجال كانت المناورات العسكرية الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط والتي بدت كتدريب عملي لهجوم عسكري علي إيران، وتبع هذا التدريب هجوم دبلوماسي من مجموعة القوي الكبري في مجلس الأمن وألمانيا يُمثلهم خافيير سولانا الممثل الأعلي للسياسة الخارجية والأمنية الأوروبية حيث دعا إيران إلي قبول عرض غربي يحتوي علي حزمة واسعة من الحوافز المغرية والضمانات في مقابل وقف إيران تخصيبها لليورانيوم والحد من خططها في تطوير تكنولوجيات نووية في مجالات حساسة. هذا ما يبدو علي السطح، لكن المواجهة لها بعد أعمق بكثير من مجرد الخلاف علي الموضوع النووي، حيث يُعتبر هذا الخلاف مجرد ساحة واحدة من ساحات المواجهة المهمة بين عالمين كلاهما يُعبر عن مستقبل مختلف للعالم. ولا شك أن امتلاك السلاح النووي بواسطة إيران يُعطيها قوة مادية ومعنوية هائلة في الدفاع عن رؤيتها، ومن هنا يأتي الانزعاج الغربي. فبرغم أهمية القنبلة النووية الباكستانية والهندية إلا أن الاثنين لا يمثلان تهديدا مباشرا علي المشروع الغربي، لكن وضع القنبلة الإيرانية يبدو مختلفا من زاوية أنها سوف تكون في خدمة مشروع سياسي واسع له آفاقه الإقليمية والدولية الخاصة. ومنذ تفجر الثورة الإيرانية في إيران أيقن الجميع أنهم أمام تغير مختلف لم يُؤخذ في الاعتبار من معظم القوي الدولية والشرق الأوسط علي وجه الخصوص. فنحن أمام ثورة إسلامية شيعية مختلفة عن الحركة الإسلامية السنية التي انتشرت في البلاد العربية والإسلامية منذ عقود طويلة. لقد أسست الثورة الإيرانية جمهورية دينية ليس لها مثيل من قبل يتزعمها فقيه مُرشد، ويحكمها فقهاء في الفكر الشيعي، وتعمل علي نشر هذا الفكر داخل المحيط الإيراني الإقليمي وخارجه. ولقد اتجه التركيز علي مستوي العالم بعد انتهاء الحرب الباردة إلي الإسلام السُني كأحد التحديات الأيديولوجية الممكنة لمستقبل عالم ما بعد الحرب الباردة حيث نتكلم عن عالم ديموقراطي منفتح تحكمه علاقات السوق الحر وحكم القانون وحقوق الإنسان التي قررها ميثاق الأممالمتحدة. لكن الثورة الإيرانية في 1979 غيرت المفاهيم وحولت اتجاهات التهديد، فكانت الحرب العراقية- الإيرانية، والتحالف الإيراني-السوري، وظهور حزب الله في لبنان، واشتباكه المباشر مع إسرائيل، وتحريره للجنوب اللبناني، وصعوده في لبنان كقوة سياسية وعسكرية تأخذ عناصر قوتها العسكرية والفكرية من طهران. لم يكن أحد في الغرب يعتقد أن انتصاره في الحرب الباردة سيقوده إلي مواجهة الإسلام السياسي السني والشيعي في آن واحد. قام الإسلام السياسي السني علي تمدد نفوذ جماعات الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخري لكن أحدا منها لم يصل إلي سدة الحكم في أي من البلاد. لكن ذلك لم يمنع نجاح بعضهم بامتياز في تعبئة غالبية الجمهور ضد الغرب، وإشعال حروب فكرية كثيرة علي أكثر من محور، فضلا عن إفشال كل حوار ممكن بين الإسلام والمسيحية واليهودية. لكن التأثير المهم كان في قدرتها علي صبغ حياة قطاع واسع من الجماهير بالصبغة الإسلامية المتشددة، واعتبار الإسلام قبلة للولاء وليس الجماعة أو الوطن. وقد ظهرت تجليات هذه الجماعات السياسية والعسكرية في عمليات إرهابية كان الغرب هدفا لها. فكانت عملية 11 سبتمبر ذروة هذه التجليات، وسبقها نجاح هذه الجماعات في طرد الاتحاد السوفييتي من أفغانستان بتشجيع من الغرب. باختصار لقد وجد الغرب نفسه علي أكثر من صعيد في معركة مع قوي الإسلام السني غير الرسمي. فتغيرت النظرة إلي أنشطة الجاليات الإسلامية في الدول الغربية فصارت هدفا للمراقبة والفحص. وتزايد ذلك بعد الحادثتين الإرهابيتين في مدريد ولندن. وإذا نظرنا إلي الموضوع من جانبه الأمني لوجدنا أن التطور في أجهزة المخابرات الغربية قد تمحور حول هذا التهديد. وتم توجيه قدر معتبر من الإنفاق الدفاعي لحماية الجبهة الداخلية بتطوير نظم متقدمة للمراقبة والرصد. وقد أخذت المطارات والمواني نصيب الأسد في تطوير نظم للتعرف علي الناس وتسجيل بصمات أصابعهم وعيونهم، وفي تطوير أساليب الحصول علي تأشيرات الدخول إلي البلاد المختلفة. الخطأ الاستراتيجي الرئيسي الذي اقترفه الغرب في صراعه ضد الإسلام السياسي كان في اعتقاده أولوية معركة الغرب مع الدولة وليس الجماعات الإرهابية. وقد أُطلق علي الدولة الهدف "الدولة المارقة"، أي الخارجة علي قواعد القانون والمهددة للسلام الدولي. وبرغم أن حادثة 11 سبتمبر كان مصدرها جماعة القاعدة بجناحيها السعودي والمصري، إلا أن الطاقة العسكرية المضادة وُجهت إلي الدول المارقة (كما في حالة العراق) ولم تُوجه بالتركيز المطلوب إلي جماعات الإرهاب السياسي. وبذلك لم يتقرر التركيز في أفغانستان علي الحرب ضد طالبان، وحدث تشتت للجهد العسكري، مما كان له عظيم الأثر في منع الغرب من تحقيق فوز حاسم في كل من العراق وأفغانستان. ونتج عن ذلك إعطاء قوي الإسلام الشيعي زخما لم يكن يحلمون به في يوم من الأيام. فهاهم يستغلون مواجهات حزب الله الناجحة مع إسرائيل في توسعة ظاهرة التشيع في العالم العربي الإسلامي السني، وهو تشيع يختلف في طبيعته عن التشيع الطبيعي الموجود منذ مئات السنين في هذه البلاد في أن طابعه سياسي، وولاؤه السياسي والديني مُتصل بمرجعية شيعية خارج الوطن. ومن المعروف أن الإسلام السياسي السني له طموحات عالمية، أي أنه يري في المستقبل البعيد عالما يدين معظمه بالإسلام، وتُطبق عليه تعاليمه، ويحلم بدولة الخلافة، وهي من الأهداف المكتوبة في أدبيات جماعات الإخوان المسلمين وغيرهم. لكن من غير المعروف علي وجه الدقة الرؤية العالمية للجناح الشيعي. إن خروج الفقيه الشيعي من دائرته الدينية إلي ولاية أكبر ليمارس شئون الحكم والسياسة قد بدأ يتبلور مع نجاح الثورة الإيرانية. ولاشك أن الثورة الإيرانية قد رسخت في الداخل نظاما للملبس والمشرب يُناسب الفكر الشيعي وليس الإسلامي بشكل عام كما يعرفه العالم السني. وتعمل إيران علي تقوية روابطها الفكرية والسياسة مع الجمهور الإسلامي في البلاد ذات الطابع السني. ولا يقتصر ذلك فقط علي الجمهور العادي بل يمتد إلي وسائل الإعلام الأخري والمجتمع المدني. وبحجم شهرة نظام المخابرات الإيرانية في عهد الشاه، نجد إيران مهتمة بنظم المخابرات علي المستوي الداخلي والخارجي. وهناك اعتقاد راسخ في الدوائر الأمنية علي مستوي العالم أن إيران تمتلك نظاما صارما في جمع المعلومات، واختراق الأحزاب السياسية وجذب الشخصيات الصحفية والفكرية العامة، حتي تدبير عمليات التخلص من الخصوم إذا لزم الأمر. إن ولاية الفقيه شيعيا، أو عودة دولة الخلافة سُنيا، تطرح أُطرا سياسية عالمية لها طابعها الخاص. وكان الاعتقاد سائدا بعد انتصار الغرب علي الفكر الشيوعي الروسي بمساهمة إسلامية في أفغانستان وفي أماكن أخري أن الأمور سوف تتقدم في اتجاه عالمية الفكر الغربي، لكن الحقيقة حاليا تقول غير ذلك. والآن ومرة أخري وبعد "فكرة نهاية التاريخ" يجد العالم الغربي نفسه في مواجهة مشروعين عالميين إسلاميين كبيرين، وصارت الكرة في ملعب الغرب مرة أخري استعدادا لدخول مواجهة ساخنة لها جانبياها السياسي والعسكري مع فرق مارقة من الشيعة والسنة. وبعيدا عن سيناريوهات الحرب مع إيران والتي تتكرر بصورة دورية ويدور حولها جدل واسع، إلا أن المواجهة في حجمها ليست في جوهرها عسكرية كما يعتقد كثير من الناس. إنها مواجهة بين مشروعين مختلفين كبيرين: مشروع غربي ضد مشروع إسلامي أو العكس. والمشروع الإسلامي منقسم إلي شيعة وسنة لكل منهما مشروعه الخاص. ووصول إيران إلي امتلاك ناصية تطوير قنبلة ذرية سوف يخلق نظام توازنات جديدة في الشرق الأوسط. وقد يُشجع ذلك علي بروز قوي أخري في المنطقة إذا اضطر البعض إلي السير في نفس الطريق الإيراني للحصول علي قنبلة ذرية.