مثل هذا العنوان لن تجده في الصحف العربية، ولو وجد في زاوية غير منظورة فإن محطة فضائية تليفزيونية عربية لن تجد لديها الشجاعة لكي تناقش الأمر وعما إذا كان صحيحا أو خاطئا، وإذا حدث وذكره بعضنا علي سبيل الاحتمال فإنه لن يحتاج لأكثر من هزة رأس من مذيع أو معلق علي أساس أن المقولة لا تزيد عن كونها نوع من الدعاية الأمريكية السخيفة. فالحكمة الذائعة عما يجري في العراق في وسائل الإعلام العربية جميعها لا تزال تعكس تلك الصورة التي جاءت مع الغزو الأمريكي للعراق لأمة مهزومة، ومن بعدها تلك الصورة التي تولدت عن انهيار الدولة في العراق وما تلاها من مشاهد في بغداد للسرقة والنهب، ثم ما تلاها من حالة القتل الجماعي الذي لا يتوقف والمرتبط بعمليات التنظيف العرقية، وأخيرا حالة الحرب الأهلية التي جري فيها أكبر عمليات القتل علي أساس الهوية والمذهب. مثل هذه الصورة تعمقت خلال السنوات الماضية، ولم يعد يبقي منها سوي المنطقة الخضراء التي تجعل بقية العراق كلها منطقة حمراء بلون الدم الذي يسيل عليها. والغريب أن ذلك كله جري تحت عنوان غامض للمقاومة الذي كان قليله ضد الولاياتالمتحدة وجنودها وجنود حلفائها، أما أكثره فقد جري ضد العراقيين أنفسهم. والطريف في الأمر أن كل الذين ذكروا عدد القتلي في العراق ذكروه علي اعتبار أنه كان جزءا من الحرب ضد الأمريكيين، فقد كان ذلك تأكيدا علي نظرية أكثر مما كان برهنة علي حقيقة. ولكن العنوان كان هو الذي اختارته مجلة " الأيكنوميست" البريطانية في عددها الصادر في 14 يونيو الجاري، ووضعته علي غلافها، للتدليل علي أن الأحوال تتغير في العراق، بل انها لم تعد كما اعتاد الناس عليها. والحقيقة أنه لا يوجد من يشكك أن التغيير لا يزال هشا، أو أنه قابل للتغيير العكسي حيث تعود الأمور إلي حالتها الدموية مرة أخري؛ ولكنها أيضا، وبنفس المنطق، قابلة للتطوير في اتجاه الاستقرار والتطور الإيجابي. ولعل نقطة التحول الجوهرية جرت عندما تغير موقف السنة العراقيين عندما خرجت حركة الصحوة من قلب القبائل العراقية لكي تكون " ثورة علي الثورة" أو "مقاومة علي المقاومة" بعد أن عاثت جماعة القاعدة في مناطق السنة فسادا وأصبحت الحياة من الناحية العملية مستحيلة. فقد كانت القبائل العراقية، والمجتمع العراقي في العموم، قد خلق تقاليده وأخلاقياته العامة، ومن المؤكد أن الغزو الأمريكي والإطاحة بنظام صدام حسين شكل صدمة بالغة القسوة للمجتمع السني، وجاءت " المقاومة" من القاعدة وجماعات البعث لكي تعطي السنة إحساسا بالوجود، بل وقدرة علي التفاوض من جديد. ولكن هذه "المقاومة" سرعان ما تحولت إلي حالة من التقويض بل والتدمير للتقاليد بل والحياة نفسها، وفي لحظات حولت القدرة علي التفاوض إلي عملية لتفكيك العراق نفسها وهو آخر ما كان السنة العراقيون يفكرون فيه. ولكن التحول لم يكن داخل السنة وحدهم، بل جري التحول داخل الشيعة أيضا، فإذا كان الشيعة قد وجدوا حضورهم الجديد إلي الساحة السياسية العراقية، ولكنهم في نفس الوقت لم يسعدوا كثيرا بما رأوه حينما وجدوا أنفسهم وهم علي قمة الدولة التي ورثوها يعيشون لحظة دموية لم تكن كلها ناجمة عن صراع مع السنة كان يقود الدولة كلها نحو الدمار والتفكيك، ولكنها كانت أيضا من داخل الشيعة أنفسهم حيث تفجرت أحوال المليشيات السياسية والعسكرية عن صراع داخلي يجري بلا ضابط ولا رابط. وبشكل من الأشكال كان مقتدي الصدر وجماعته من جيش المهدي هو وجه العملة الآخر لجماعة القاعدة، وبنفس القدر تحول إلي عمليات من القتل غير المعروف الهدف أو الغاية. والأخطر النسبة للشيعة الذين كانوا بدورهم جزء من الوطنية العراقية يعرفون الفارق السياسي بينهم وبين إيران سواء كان من حيث المرجعية السياسية في علاقتها مع "ولاية الفقيه"، ولكنه كان فارقا دينيا أيضا من حيث امتداد الحوزة نحو الولاء والقلوب. وبغض النظر عن " المذهب" و"الحوزة" فإن التدخل الإيراني كان ترجمة لأوضاع تاريخية وإستراتيجية جاءت كلها علي حساب خروج العراق من التوازن العسكري في الخليج. ولم يكن السنة والشيعة وحدهم هم من وصلوا إلي "حقائق" جديدة، بل لحق بهم الأكراد أيضا، فرغم أن الجماعة الكردية كانت هي وحدها التي نجت من الجحيم العراقي خلال السنوات الماضية، أو بدت كذلك، إلا أنها سرعان ما أدركت أنه من الصعوبة بمكان البقاء علي مسافة كافية من هذا الجحيم. فالأكراد الذين كانوا يعيشون في بغداد دفعوا جزءا من الثمن الغالي، وأكراد كركوك عاشوا علي سطح صفيح ساخن أمام مستقبل غامض، ولم يمض وقت طويل حتي وجدت الجماعات الأصولية لنفسها مستقرا في شمال العراق. ولكن الكارثة الكردية جرت عندما توجهت القوات التركية لكي تضرب الشمال الكردي وبقسوة بالغة. ساعتها عرف الأكراد أنهم لا يستطيعون البعد كثيرا عن الدولة العراقية، بل انهم، في الحقيقة، لا يوجد لديهم بديل لها. لقد كانت نتيجة ذلك كله سلسلة من المتغيرات التي أجراها كل طرف مبتدئا بنفسه، فبينما قامت جماعات الصحوة وأبناء العراق بالتخلص من جماعات القاعدة، كان الشيعة يحجمون جماعة مقتدي الصدر من خلال عمليات عسكرية مكلفة، وأخيرا بدأ الأكراد يأخذون بجدية مقاومة حزب العمال الكردي. كل ذلك أعاد نوعا من الحياة العادية في العراق، ومع فسحة من الوقت وبرهة من التفكير كان ممكنا إنجاز عدد من القوانين الهامة الخاصة بالمعاشات والتخلص من البعثيين، والأهم من ذلك كله تراجع إلي حد كبير عمليات التطهير العرقي، ونما تدريجيا شعور بالتفاؤل بمستقبل البلاد ووحدتها. وفي شهر فبراير الماضي سئل العراقيون كيف يقيمون حالهم بشكل عام فكانت الإجابة أنها جيدة من قبل 43% من العراقيين مقابل 22 فقط قالوا بذلك في شهر سبتمبر الماضي؛ وارتفع هذا الرقم بين الشيعة من 39% إلي 61%، ومن بين السنة ارتفعت من 2% إلي 16%، ورغم أن النسبة لا تزال ضئيلة إلا أنها شكلت قفزة ملحوظة. وربما تغير حظ العراقيين أخيرا بعد سنوات من التعاسة التي باتت قدرا، فقد جاء ارتفاع أسعار النفط لكي توفر موارد كثيرة للحكومة العراقية تشجعها علي الإنفاق علي خطط التنمية، وتوزعها علي المحافظات، وتعيد دولاب الحياة إلي جهاز الدولة مرة أخري. وكان ذلك كافيا، مع التطورات الأخري، لكي تعطي الحكومة العراقية الفرصة لكي تتفاوض مع الأمريكيين بشكل أفضل فيما يخص الاتفاقية الأمنية، وبل أن تتفاوض في نفس الوقت مع الإيرانيين، وفي بعض الأحيان تلعب دور الوسيط بين الطرفين. وبالتأكيد فإن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن إنقاذ العراق، ولكن المؤكد أن هناك مبررات كافية لكي تجعلنا نري أن من توقعوا موت العراق ونهايته قد بالغوا كثيرا !!.