كان قرار اللجنة الأولمبية الدولية القاضي بمنح الصين حق تنظيم الألعاب الصيفية ل2008، حالة مؤسفة أخري للثقة غير المستنِدة إلي أساس صحيح حول مسألة النوايا الحسنة. ذلك أن التعامل مع الصين كأي مجتمع سياسي آخر من مجتمعات القرن الحادي والعشرين، من شأنه أن يعجل بتحولها فعلاً إلي بلد من هذا النوع وعلي الشاكلة ذاتها. فقد استندت عملية التصويت داخل اللجنة الأولمبية الدولية الي افتراض أن من شأن منح الصين شرف استضافة الألعاب الصيفية أن يقوي ما تريد البلدان الديمقراطية رؤيته في الصين من بروز لقوي الانفتاح والإصلاح، وأن يعيد تشكيل هذا البلد وفقاً للنموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي. وهذا النموذج الذي يتألف من عناصر كثيرة أهمها احترام حقوق الإنسان، والإدارة الحسنة لشئون الحكم، وتبني سياسات تحقق الازدهار الاقتصادي، هو ما يعتقد علي نطاق واسع (وإن كان ذلك علي نحو خاطئ بالقدر نفسه) أن كل المجتمعات الحديثة في طريقها إلي بلوغه. غير أن ذلك غير صحيح إطلاقاً، وياللأسف الشديد! والدليل علي عدم صحة هذا الأمر هو رد الفعل الصيني إزاء المظاهرات الواسعة والعنيفة التي قام بها التبتيون والأجانب المتعاطفون معهم ضد احتلال الصين لإقليم التبت منذ عام 1959، وضمها له في عام 1965، وقمعها واضطهادها للثقافة التبتية، وما رافق ذلك من عملية نقل كبيرة للصينيين من منطقة "هان" إلي التبت بهدف إغراقه بالسكان وقمع المجتمع والهوية التبتيين. بيد أن السلطات الصينية -والأهم من ذلك الشعب الصيني نفسه- لم تكن تتوقع حدوث شيء مما حدث، حيث تعرضت للإذلال وأُضعفت شرعيتها لأنها أساءت حساب وتقدير سمعة الصين السياسية في العالم. ونتيجة لذلك، فإن الشعب غاضب ومستاء، وأفكاره حول الغرب باتت مقلوبة. وعلاوة علي ذلك، فإن مسيرة الشعلة الأولمبية حول العالم قد يتم اختزالها، وتأثيرات كل ذلك علي الألعاب الأولمبية نفسها بات من الصعب التنبؤ بها، لكن التأثير الذي قد ينجم عن هذه التطورات علي الحكومة الصينية الحالية قد يكون سيئاً جداً. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن النوع نفسه تماماً من سوء الحساب والتقدير -الثقافي خاصة- حدث في مؤتمر قمة "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) الذي عقد في العاصمة الرومانية بوخارست الأسبوع الماضي، حيث سعت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش بقوة إلي إقناع حلفائها بمنح أوكرانيا وجورجيا وعداً بالانضمام إلي الحلف مستقبلاً. غير أن الحلفاء في أوروبا الغربية رفضوا المقترح الأمريكي، وهو الرفض الأول من نوعه بخصوص موضوع رئيسي في تاريخ "الناتو" منذ إنشائه في عام 1949، وذلك لأسباب مختلفة. كانت أسباب الرفض اقتصادية، لكن معظمها كان سياسياً كذلك وذا صلة بعلاقات الاتحاد الأوروبي مع روسيا، ومن هذه الأسباب أيضاً الفكرة القائلة إنه لا "التفكير الرغائبي" حول التقدم الديمقراطي للبلد ولا عضوية حلف "الناتو" يمكن أن يجعلا أوكرانيا دولةً تنعم بالوحدة والاستقرار والتناغم السياسي، علما بأنه أمر لم يحدث منذ القرن الرابع عشر. ومرد ذلك إلي أن لأوكرانيا بنيةً ديمقراطية حديثة وهشة جداً، فضلاً عن كونها منقسمة داخلياً، حيث ترفض أقليةٌ كبيرة، روسية الثقافة، تنتمي إلي الكنيسة الروسية الأورثوذوكسية وتتحدث اللغة الروسية، فكرة الاندماج في العالم الغربي. والحقيقة أن قرار الصين الترشح لاستضافة الألعاب الأولمبية الصيفية عكس أسلوب تفكير مماثل، فقد كانت الحكومة الصينية تعتقد أن من شأن استضافة الألعاب أن يتيح لها فرصة الظهور بمظهر الدولة الحديثة والناضجة سياسياً علي النمط الغربي، وهما أمران لا تمتلكهما الصين، ومن المحتمل جداً ألا تكتسبهما أبداً. لا أقول هذا من باب معاداة الصين أو التقليل من شأن حضارتها الكبيرة وإنجازاتها الحالية، وإنما لأنني أعتقد أن ما يسمي بعصرنة الصين وغربنتها مسألة تنطوي علي كثير من الأوهام والأفكار المغلوطة، ومن ذلك خداع للذات من الجانب الصيني نتيجةً لسوء فهمٍ عميق ومتبادل من قبل كل من الصينيين والغرب الليبرالي. وغني عن البيان القول إن الأفكار والمؤسسات السياسية الصينية لا تقوم علي الحقوق. وفي هذا الصدد، قال الأكاديمي الفرنسي "فرانسوا جيليان" مؤخراً إنه إذا كان ممكناً إيجاد مفردات مثل الحرية والحقيقة والحقوق في اللغة الصينية، فإن لها معان مختلفة عن تلك التي تؤديها في العالم الغربي، حيث يعود أصلها إلي الفلسفة اليونانية والمسيحية. ويقول أيضاً إن الصينيين يتحدثون عن الرجل الحكيم باعتباره "رجلاً جديراً بالثقة والتصديق" مرتبطاً بالواقع، غير أن ذلك لا يشير إلي أن تفكيره يعبر بالضرورة عن الحقيقة بالمعني الغربي. ويقول جيليان: "إن الصين تفكر وتنظر إلي الأمور من حيث الموقف والعملية، وليس من حيث التطابق والديمومة اللذين يعدان أساس فكرة الحقيقة عندنا"، مضيفاً أن الفكر الأخلاقي في الصين يميل إلي التعامل مع التأثير والتنظيم والتكييف بدلاً من الصحيح والخطأ. ولعل هذا ما يفسر جزئياً سبب غضب الصينيين جميعهم تقريباً من الاحتجاجات الغربية علي احتلالهم لإقليم التبت، ذلك أن خضوع هذا الأخير للصين يبدو بالنسبة لهم أمراً مبَرراً تماماً بالنظر إلي تفوق الصين الطبيعي ودورها القديم باعتبارها الحضارة المهيمنة في منطقة شرق آسيا. والواقع أن القومية الصينية هي من القوة بحيث لا تسمح باحتضان القومية التبتية والتكيف معها، غير أن ذلك لا يعني أن القومية التبتية ستستسلم وتذعن، وذاك مؤشر سيئ بالنسبة للصين!