في الذكري السنوية التسعين لقيام الثورة البلشفية التي مرت قبل أيام، ينظر الكثيرون في روسيا وراء الي ذلك التحول الجوهري في تاريخ بلادهم، في محاولة لاعادة تقويم إرثه المثير للجدل. ينظر البعض إلي تلك الثورة علي أنها كانت كارثة من صنع الإنسان، والتي افضت الي ازهاق ارواح الحيوانات البريئة وانتهت الي تكريس الدكتاتورية. فيما ينظر إليها آخرون علي أنها كانت خطوة إيجابية، ومحاولة لخلق دولة تقودها العدالة الاجتماعية. وكان مركز ليفادا Livada، الذي يعتبر من ابرز مستطلعي آراء الناخبين في روسيا، قد اجري في الآونة الاخيرة مسحا للوقوف علي المزيد من الكيفية التي ينظر من خلالها الرأي العام الروسي إلي هذا الحدث التاريخي. وقد أرجعت نسبة قوامها 31% من المستطلعة آراؤهم الفضل للثورة البلشفية في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي في روسيا. وقالت نسبة بلغت 26% ممن أجابوا عن أسئلة الاستطلاع إن تلك الثورة ساعدت روسيا في التحول الي نمط حياة جديد. بينما قالت نسبة 16% انها شكلت عائقا رئيسيا امام تطور الأمة، فيما وصفتها نسبة 15% من عينة الاستطلاع بأنها كارثة قومية، واكتفت نسبة 12% بإجابة: "لا اعرف". توحي دراسة مركز ليفادا بأن غالبية الروس يعتبرون الثورة البلشفية حدثاً تقدمياً وإيجابياً. وربما يكون هذا هو السبب في أن جثمان الزعيم البلشفي فلاديمير لينين المحنط لاس يزال مسجي هناك في الصرح التذكاري. ولا تبدو النخبة الحاكمة ما-بعد-الشيوعية في عجلة من أمرها لاعادة دفن هذه الأيقونة الثورية لانها تخشي من أن تثير مثل هذه الخطوة غضبة جماهيرية. كانت نصب تذكارية للدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين قد أسقطت عن منصاتها في ظلمة الليل عام 1956 في أعقاب ادانة وجهها الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروتشوف لما رآه قمعاً واضطهاداً سياسياً كان يمارسه سلفه ستالين. وفي واقع ينطوي علي مفارقة، لا تزال تماثيل تجسد لينين تقيم في أماكنها في العديد من المدن والبلدات في طول البلاد وعرضها. كما ان المخلصين له يستمرون في الاعراب عن ولائهم له ويضعون الورود علي قبره كتعبير عن شكل من الولاء شبه الديني لقدوتهم الشيوعي. أما الطلبة الذين يدرسون أعمال لينين، فإنهم سوف يصادفون الكثير من التناقضات وعدم الثبات في كتاباته، بالاضافة الي أمثلة علي التهكم المباشر، والازدراء الكلي للحياة الإنسانية، وشيء مما يمكن أن ندعوه الآن علي أنه خدع العلاقات العامة. لكن الأسلوب الجسور الذي يسم جدله ومنطقه التحليلي يتمتعان بقوة جاذبية تصعب مقاومتها. غالبا ما تجلب الثورات الاجتماعية زعماء يتمتعون بموهبة خاصة في تحشيد الجماهير من خلفهم، وقد استقطب لينين الجماهير في عام 1917 عندما قفز إلي ظهر ناقلة جنود ليتحدث عن رؤيته في الثورة الشيوعية. كما تحدث الزعيم السوفياتي بوريس يلتسين الي مستمعيه من علي قمة دبابة، محددا الخطوط الرئيسية لروسيا جديدة ديمقراطية في اعقاب المحاولة الانقلابية التي جرت في آب-أغسطس من عام 1991. ولعل مثل هذه المتوازيات التاريخية تكشف عن نمط بعينه، وعلي نحو يجعل من الاسهل علينا ان نفهم ماضينا. لقد استهل كل من لينين ويلتسين عملهما السياسي انطلاقا من قاعدة منخفضة، لكن خطابهما الشعبوي الذي خرج في الزمان والمكان المناسبين هو الذي ارتقي بهما إلي مكان مرموق. وكان لشعار لينين "الأرض للفلاحين" أثره السحري علي الغالبية العظمي من فلاحي روسيا، وعلي نحو جلب له كسباً مذهلاً للقلوب والعقول. ومن جهته، نادي يلتسين بالديمقراطية في لحظة كانت الامة تستعد فيها للانتقال مبتعدة عن حكم الحزب الواحد نحو مجتمع اكثر حرية، وكانت تفتقر فيه الي قائد فحسب ليأخذها في هذا الدرب. جري الكثير من النقاش مؤخراً حول الخاصية فوق القضائية لتغيير النظام التي كان قد أنشأها البلاشفة، حيث طرح بعض المحللين فكرة ان ثورة اكتوبر يجب ان توسم بانها انقلاب. لكنني اعتقد بان مصطلح "ثورة" يظل مناسباً أكثر، إذ كانت لدي الذين فكروا فيها خطة عمل معدة، ورؤية واضحة لمستقبل البلاد فيما بعد الثورة. في أغلب الأحيان، لا يكن الناس الذين يقفون وراء تغيير الأنظمة اي احترام للقانون، كما ان العديدين منهم يمكن ان يصنفوا علي انهم مجرمون. أما في السياسة، فإن كل شيء يعتمد علي المنظور. استنادا الي مبدأ أن الرابح يحظي بكل شيء، يعمد أولئك الذين يستحوذون علي السلطة إلي إسباغ صفة الشيطان علي أولئك الذين خلعوهم لتوهم. ولذلك، فإن انقلاب عام 1991 لخلع ميخائيل جورباتشيوف لو نجح، لكان المتشددون الذين هندسوا ذلك الانقلاب قد نصبوا انفسهم مخلصين للامة، بينما كانوا سيصنفون يلتسين علي أنه مجرم. ولكن، ومهما كانت الخدع التي قد يعمد الي استخدامها الساسة لإخفاء حقيقة الأشياء، فان عقيدتهم ودوافعهم سرعان ما تتضح بعد فترة وجيزة. كان لينين يحاول ان يبني يوتوبيا شيوعية في روسيا، والتي آمن بها بعمق. أما خليفته ستالين، فلم تكن لديه أية أوهام تتصل بالشيوعية عندما اعتلي سدة السلطة، لكنه سعي الي خلق دولة اوتوقراطية قوية من خلال ادخال التصنيع والعمل الجماعي والتعاوني في المزارع. كانت قد سبقت انقلاب تشرين الاول-اكتوبر 1919 ثورة سلمية في شباط-فبراير. وربما يصح القول بانه لولا ما تبعها من احداث دموية، لكانت ولادة الجمهورية الروسية ربما أقل إيلاماً بكثير. ربما يمكن ايضاح الفارق بين هذين الحدثين باستخدام تشبيه طبي. فالاول عالج روسيا كطبيب توليد ونسائية كفؤ، في حين تصرف الثاني مثل القابلة الساكنة في شارع خلفي، والتي تجري عملية قيصرية من دون معدات مناسبة ولا تتمتع بأي مهارات كافية. يمكن توجيه اللوم الي البلاشفة في التسبب بالكثير من المظالم التاريخية، لكن جريمتهم الأكبر كانت ذبح كل من وقف في طريقهم. لقد آمن الشاعر الروسي الشهير ألكسندر بلوك بأن ثمة معني صوفياً عميقاً يكمن وراء الثورة البلشفية. وفي قصيدته "الاثنا عشر" التي كانت اول محاولة شعرية لتجسيد الحدث، صور الشاعر الثورة علي انها عمل بادر اليه حواريو عيسي الاثنا عشر. لقد غاصت روسيا في العنف الثوري من اجل تحقيق مستقبل مبارك. وذهبت إلي الجلجلة والصلب آملة في أن يساعد استشهادها في جعل اليوتوبيا الشيوعية تصبح واقعاً. وللحقيقة، تبدو ثورة اكتوبر البلشفية وأنها كانت لعنة علي الأمة الروسية اكثر من كونها نعمة، لأنها جلبت عليها تسعين سنة طويلة من العزلة.