وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يفتتحان أعمال تطوير مسجد الصحابة بشرم الشيخ    داليا عبد الرحيم: الإخوان أسست حركات لإرهاب الشعب منذ ثورة 30 يونيو    ارتفاع سعر السكر اليوم الجمعة 19 أبريل في مصر    تقليل الاستثمار الحكومي وضم القطاع غير الرسمي للاقتصاد.. أهم ملامح الموازنة الجديدة    «عودة انقطاع الكهرباء».. وزير البترول الأسبق يوضح السبب    إدارة بايدن تمنع مسؤوليها من التعليق على الضربة الإسرائيلية على إيران    موكب نائب المستشار الألماني يمر بجوار عمود دخان بالقرب من أوديسا بعد هجوم روسي    إصابة لؤي وائل.. مجلس المقاولون العرب يشكر وزيري الصحة والشباب    يوفنتوس ينجو من الهزيمة أمام كالياري في الدوري الإيطالي    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم ب المنيا    تسجيل الدخول منصة مدرستي للطلاب والمعلمين 1445    الحامل تقدر ترقص للشهر الكام؟ فيفي عبده تكشف مفاجأة (فيديو)    آمال ماهر تعود لجمهورها ب«أنا برده الأصل» في حفلها بالتجمع الخامس    عاجل.. عبير فؤاد تحذر 5 أبراج خلال ال10 أيام المقبلة.. «خلوا بالكم»    وكيل صحة بنى سويف يزور المرضى الفلسطنيين بمستشفى إهناسيا التخصصي    الأهلي يكتسح أويلرز الأوغندي في افتتاح مبارياته ببطولة الBAL    عاجل.. مفاجأة في تقرير إبراهيم نور الدين لمباراة الأهلي والزمالك    محافظ قنا: بدء استصلاح وزراعة 400 فدان جديد بفول الصويا    الأمم المتحدة: تقارير تشير لانتشار الأوبئة والأمراض بين الفلسطينيين في غزة    «التحالف الوطني» بالقليوبية يشارك في المرحلة ال6 من قوافل المساعدات لغزة    استشهاد امرأة فلسطينية إثر قصف طائرات إسرائيلية لرفح    «القومي للمرأة» ينظم عرض أزياء لحرفة التلي.. 24 قطعة متنوعة    تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة صلاح السعدني.. مات على سريره داخل منزله    مصطفى بكري: تعديل وزاري يشمل 15 منصبًا قريبا .. وحركة المحافظين على الأبواب    أسرع طريقة لعمل الشيبسي في المنزل.. إليك سر القرمشة    حصل على بطاقة صفراء ثانية ولم يطرد.. مارتينيز يثير الجدل في موقعه ليل    افتتاح المؤتمر الدولي الثامن للأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان    محافظة الجيزة: قطع المياه عن منطقة منشية البكاري 6 ساعات    الهنود يبدءون التصويت خلال أكبر انتخابات في العالم    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    التنسيق الحضاري ينهي أعمال المرحلة الخامسة من مشروع حكاية شارع بمناطق مصر الجديدة ومدينة نصر    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    دعاء يوم الجمعة قبل الغروب.. أفضل أيام الأسبوع وأكثرها خير وبركة    إخماد حريق بمخزن خردة بالبدرشين دون إصابات    ضبط لص الدراجات النارية في الفيوم    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    إعادة مشروع السياحة التدريبية بالمركز الأفريقي لصحة المرأة    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    شكوى من انقطاع المياه لمدة 3 أيام بقرية «خوالد أبوشوشة» بقنا    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 4 مجازر في غزة راح ضحيتها 42 شهيدا و63 مصابا    إسعاد يونس تنعى الفنان صلاح السعدني بصورة من كواليس «فوزية البرجوازية»    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. سمير غطاس يكتب: فى أصول المسألة الإيرانية (1).. التاريخ الذى يحكم مستقبل الصراع العربى - الإيرانى

.. هذه سلسلة جديدة من المقالات التى تسعى، كما فى السلاسل السابقة، لإثارة التفكير وليس التفكير فى الاستثارة، وهى لذلك ليست مقالات شعبوية، تركب الموجة الرائجة، بل هى ربما تواجهها وقد تسبح حتى ضدها، وهى تقلّب الأمر الواحد على عدة أوجه لمقاربة أبعاده المختلفة ورؤيته من زواياه المتعددة،
وفى هذا الإطار تبدو المسألة الإيرانية واحدة من كبرى القضايا الشائكة فى الشأنين العربى والمصرى خاصة فى المرحلة الراهنة بعد أن أصبحت طهران حاضرة بقوة على خط التماس المباشر للحدود الشرقية لمصر، وبعد أن تجاوزت، بأشكال مختلفة، حتى خطوط التماس الحدودية لعدد كبير من الدول العربية الأخرى، مثل: الإمارات العربية والعراق وسوريا ولبنان واليمن والسعودية والمغرب والبحرين وربما أيضاً غيرها من هذه الدول.
وهذه الوضعية الحرجة، إلى جانب عوامل أخرى مهمة، ترشح العلاقات الإيرانية– العربية، والمصرية إلى مزيد من التوتر، خاصة بعد أن انتقلت هذه العلاقات من طور الحرب الباردة، حيث يجرى التراشق بالأسلحة الصوتية الإعلامية والدعائية، إلى حالة الحرب الفعلية غير المباشرة التى تستخدم إيران فيها وكلاءها المحليين (حزب الله، والجماعات وبعض الأحزاب العراقية، وحماس، والحوثيين)،
وربما يتم ايضا تشغيل جماعات أخرى بالوكالة ممن ثبتت علاقاتها الأمنية والتمويلية بإيران رغم التعارض المذهبى الظاهرى بينهما، مثل قيادات تنظيم القاعدة: (الزرقاوى، سيف العدل المصرى، وسعد بن لادن، وسليمان أبوغيث الكويتى، وعبدالله الكراكى.. وغيرهم).
ورغم وضوح هذا الأمر وخطورته، فإن الموقف من إيران مع ذلك لايزال يتسم بحالة من الانقسام والالتباس لدى قسم من النخبة ومن الرأى العام العربى والمصرى الذى تحجب عنه الحقائق أو يتم خلطها عمداً بالدخان الكثيف الذى يبثه بلا انقطاع الخطاب الإيرانى الدعائى.. ولأن أغلب ما يكتب فى هذا الشأن يميل إلى انتزاع حالة الصراع الراهنة بين إيران والعرب من سياقها التاريخى حتى تبدو وكأنها حالة طارئة أو مصطنعة من الخارج،
فيما تؤكد الوقائع التاريخية نفسها أن هذا الأمر لا يحتمل مثل هذا التسطيح المخل أو التبسيط المتعمد لأن هذا الصراع يعد واحداً من أقدم الصراعات التى تضرب جذورها عميقا فى مراحل فجر تاريخ الحضارات البشرية، والأخطر من ذلك أنه صراع ممتد ومتجدد ويتعاقب دوريا بين إيران والعرب كلما اختلت موازين القوى أو نشأت شبهة فراغ استراتيجى فى هذه المنطقة.
وربما لهذا كان من الضرورى استهلال هذه السلسلة بمقال افتتاحى يصحح الرؤية ويصوب الاتجاه، ويضع الدورة الحالية للصراع الإيرانى – العربى فى سياقها التاريخى، ليس بهدف تثبيت أو تعميق هذا الصراع وإنما لإنقاذ المستقبل من مآسى هذه الصراعات التاريخية.
وقد اعتمدنا فى هذه المهمة بشكل رئيس على عرض وتحليل الكتاب المهم الذى ألفه الأستاذ صلاح النصرواى وصدر العام الماضى 2009 عن هذا الموضوع واختار له عنواناً لافتاً: «كلب أصفهان – الذات المكبوتة فى جدلية الصراع بين إيران والعرب» وسوف يتضح مغزى هذا العنوان لاحقاً وفى سياق العرض.
يأخذنا هذا البحث للتجوال معه، عبر تسعة فصول، إلى رحلة زمنية تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام تبدأ بعرض التكوين الجغرافى والإثنى المميز للأمة الإيرانية التى كانت تعرف باسم بلاد فارس، وهى وإن كانت فى الأصل تسمية إغريقية، فإن الثورة الإسلامية لاتزال إلى الآن تتمسك بهذه التسمية، ومن المفارقات الغريبة أن يصرالخمينى على تسمية الخليج العربى ب«الفارسى» ويرفض الحل الوسط الذى اقترحه المؤتمر الإسلامى بتسميته الخليج الإسلامى لا الفارسى ولا العربى، لكن الخمينى زعيم الثورة الإسلامية أصر حتى وفاته على اسم الخليج الفارسى، وكان خالد مشعل، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، تعرض للتوبيخ مؤخراً فى طهران لأنه فى أحد تصريحاته استخدم تعبير الخليج العربى وليس الفارسى.
أما كلمة إيران فيرجع مصدرها إلى الآريين الذين يرتبطون بصلة مع الهندو – أوروبيين، ويعتقد أن النسب إلى الآريين هو السبب فى الطريقة المتعالية والمتغطرسة التى ينظر بها الفرس الإيرانيون إلى من باتوا يعتبرونهم «غزاتهم من العرب المسلمين».
وما يعنينا فى هذه الرحلة التاريخية الممتدة هو العلاقة بين العرب والفرس بعد الاتصال الأول بين الجماعتين، فقد كان كسرى يرى فى العرب: «إن همتهم ضعيفة/ وسلاحهم كلامهم/ وليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ولا فن».
أما العرب فنظروا للفرس على أنهم أعاجم، والأعجم فى اللغة هو من لا يفصح، وهذه التصورات القومية الأولى تأتى تعبيراً عن طبيعة العلاقات بين الفرس والعرب التى ستلازمها فى أغلب مراحلها من ذلك التاريخ القديم وحتى يومنا هذا، وقد عكست هذه الحالة الصراعية نفسها على المرويات العربية الإسلامية التى أسهبت فى وصف ما حصل لإيوان كسرى ملك الفرس لحظة ميلاد النبى محمد (ص) من انهيار شرفاته وانطفاء النار التى يعبدها المجوس، وأمضى العرب المسلمون حوالى عقدين من الزمن بفرض سيطرتهم الكاملة على الدولة الفارسية بعد هزيمة الفرس فى معركة القادسية عام 636م، وهزيمتهم فى معركة نهاوند 642م.
إن تحول إيران إلى الإسلام بقى دائماً كعملية تاريخية مركبة ومعقدة، فقد تأخر دخول الأغلبية من الفرس فى الإسلام لعدة سنوات تمسكوا فيها بالزرادشتية، لكنهم بعد تحولهم للإسلام بقوا إلى الآن متمسكين باللغة الفارسية، ويشير التاريخ الإسلامى اللاحق إلى الدور المؤكد الذى لعبه الفرس، انطلاقاً من مشاعرهم القومية لا الدينية، فى إسقاط الدولة الأموية وقيام الخلافة العباسية، ثم تحول الفرس إلى مقاومة الحكم العربى فى عهد العباسيين وانتهى الأمر إلى نوع من الشراكة فى الحكم حتى نهاية الدولة العباسية،
 وقد سادت فى إيران الإسلامية نفسها أشكال انفصالية من الدويلات والإمارات (الطاهرية والبوهية والغزنوية والسلجوقية).. وقد دام الحكم العربى المباشر لإيران حوالى 180 سنة فقط، شهدت العديد من التمردات والقلاقل وحتى الثورات..
لكن ذلك كله على أهميته لا ينفى عن الإيرانيين الفرس مساهمتهم المهمة فى النهضة الإسلامية على مستويات متعددة، ومع ذلك حافظت إيران دائماً على ما يمكن تسميته «النموذج الإسلامى لإيران»، الذى يرتكز على الطابع القومى الفارسى والهوية الإيرانية الخاصة التى عبرت عن نفسها فى التشيع الصفوى.
كان صدر الدين خواجة سياهبوش حفيد صفى الدين الأردبيلى هو من أعلن تشيعه وانتماءه للمذهب الاثنى عشرى، ثم تلاه إسماعيل، الحفيد الخامس لصفى الدين، الذى أعلن تأسيس الدولة الصفوية التى أعلنت فرض المذهب الشيعى على كل إيران مما اعتمدها كأول دولة شيعية، وكان يضرب أعناق الأئمة السنة الذين قاوموا التشيع.
ويعتقد الأستاذ صلاح النصرواى «أن المشروع الصفوى هو مشروع قومى لإعادة بناء إيران وإخراجها من تبعات حوالى 1000 عام من حكم وسيطرة غير الإيرانيين، سواء أكانوا عرباً أم أتراكاً أم مغولاً، ولكن فى إطار الإسلام الذى أصبح مرجعية أساسية وجزءاً عضوياً لا فكاك منه من الهوية الإيرانية».
كان إسماعيل الصفوى قد ادعى أن الإمام المهدى الغائب هو من أبلغه بالوحى بنشر المذهب الشيعى، واعتمد إسماعيل بشكل رئيس على جهود العلماء الشيعة الذين انتقلوا إلى إيران، و«قُم» بالذات من جبل عامل فى لبنان، وهو ما قد يفسر الجذر التاريخى للعلاقة الوطيدة بين الشيعة فى كل من إيران ولبنان،
وشهدت هذه الفترة ذاتها بدايات نهوض الدولة العثمانية السنية، وكان هذا يعنى وضع المشروعين السياسيين على مسار تصادمى سوف يتلبس بعباءة دينية ومذهبية، وترتب على الصدام العسكرى الذى وقع بينهما تكريس الانقسام والصراع الطائفى – السياسى بين الدولة الفارسية الشيعية فى إيران وبعض أجزاء من العراق ونتوءات فى الخليج وبين الأغلبية السنية التى ينتمى لها أغلب الدول العربية، وتعمق هذا الانقسام إلى درجة كبيرة عندما أعلن طهماسب الأول نجل إسماعيل أن الحكام السنة اغتصبوا الإمامة ولا يجوز موالاتهم، كما جرى فى عصره تقاسم السلطة بين الشاة والفقيه،
وقد انحدرت نظرية ولاية الفقيه- المختلف عليها بين الفقهاء الشيعة، والسائدة الآن فى إيران- من رحم هذه المرحلة، وهى الصيغة التى يتبناها برنامج جماعة الإخوان المسلمين فى مصر فى طبعتها المستنسخة سنياً، ومن الواضح أنها تخريجة لفرض نفس السلطة الدينية على المجتمع لأن السنة ليست لديهم فى الأصل إشكالية غيبة الإمام الكبرى والصغرى كما فى المذهب الشيعى.
ومع كل الاحترام الواجب لكل الأديان والمذاهب والملل فإننا ننقل عن الأستاذ صلاح النصرواى قوله: «كان التشيع الصفوى تشيعاً سطحياً، هدفه استغلال العقيدة فى الصراع مع العثمانيين بهدف إقامة سلطة مستبدة للهيمنة لا علاقة لها بآل البيت أو بمبادئ الإسلام وعلى رأسها العدالة التى كانت ولاتزال عند الشيعة عموداً من أعمدة الدين، وكانت إحدى مثالب الصفويين فى حربهم ضد العثمانيين هى نشرهم تراثاً خرافياً ابتدعوه،
وذلك من خلال شن حملة ضد أهل السنة وسَن البدع ولعن الخلفاء الراشدين والصحابة وغيرها من الخزعبلات التى رسخ الكثير منها الفلكلور الشيعى حتى جاز القول- كما ذهب المفكر الإيرانى على شريعتى- «إن التشيع الصفوى كان بعيداً كل البعد عن التشيع العلوى الذى عرف به دائماً»،
ولكن بتلك النتيجة تكرس الصراع السنى– الشيعى وتحول إلى صراع سياسى عقائدى ملتبس بالتعصب المذهبى، وكانت إقامة جمهورية إسلامية شيعية فى إيران عام 1979 على يد الخمينى تتمثل نظرية ولاية الفقيه وتصدير الثورة الشيعية سبباً أساسياً فى تسعير حدة الخلاف والصراع بين إيران والعرب، وأدت إلى وضع الشيعة العرب فى أقطارهم فى موقف حرج يستوجب منهم دون داعٍ إثبات انتمائهم الوطنى مقابل التزامهم المذهبى.
وفى هوجة هذه الصراعات المدمرة لم يلتفت العرب أو المصريون إلى الأصوات الحكيمة للعديد من علماء الدين الشيعة فى إيران الذين اضطهدهم وأقصاهم الخمينى بسبب انتقادهم العلنى لبدعة ولاية الفقيه، وقد ذهب السيد مهدى شمس الدين، نائب رئيس المجلس الإسلامى الشيعى فى لبنان، إلى حد رفض فكرة ولاية الفقيه باعتبارها نوعا من الاستبداد الدينى.
ومن الواضح تماماً أن تأجيج الصراع الإيرانى – العربى يعتمد على إخفاء مظاهر التوظيف الانتهازى للدين وتسييس أوضاع الشيعة العرب خلف سواتر الدخان التى تبثها بلا توقف الشعارات القومجية التى تستميل المشاعر وتلعب على العواطف بالقضية الفلسطينية.
ومن جهة أخرى، يمثل محتوى الثقافة الإيرانية إحدى الروافع المهمة فى العداء الفارسى للعرب، فملحمة الشهنامه أو «كتاب الملوك» التى تعد أحد أهم أركان الثقافة الكلاسيكية فى الأدب الإيرانى الفارسى تكرس فى كل جنباتها روح الاستعلاء والغطرسة القومية للفرس على العرب، وهى تصف العرب بالحفاة والعراة الجائعين،
ويستعرض كتاب: «صورة العرب فى الأدب الفارسى الحديث» العديد من الأمثلة التى تعلى من شأن الحضارة الفارسية وتحط من شأن العرب «البداة المتوحشين».. وتعبر الأمثال الشعبية فى إيران عن هذه الثقافة المتغطرسة على العرب، وقد انتقى الكتاب عنوانه من واحد من أشهرها يقول: «الكلب فى أصفهان يشرب الماء البارد لكن العربى فى الصحراء يأكل الجرذان»،
ورغم توجه قيادات الجمهورية الإسلامية الشيعية فى إيران لتبنى مواقف أقل عنصرية واستعلاء ضد العرب المسلمين فإنها فى الجوهر حافظت على كل رموز ومضامين الثقافة الفارسية بنزعتها العنصرية للاستعلاء على العرب، فقد احتفظ النظام الشيعى فى إيران بالتقويم الشمسى الذى وضعه الشاه بهلوى سنة 1925 ولم يستبدل التقويم الهجرى به، ولاتزال الجمهورية الشيعية فى إيران تحتفل بالأعياد الفارسية القديمة كعيد النيروز وليلة «شب بلدا»..
وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على الحرب الإيرانية– العراقية لايزال إعلام الجمهورية الشيعية يعبئ الإيرانيين على موضوعات هذه الحرب وكأنها تتعمد الإيحاء للأجيال الجديدة بأن الحرب مع العرب لم تنته بعد، وأن الصراع لايزال قائماً وممتداً من الماضى إلى المستقبل،
كما تعمدت السياسة الإعلامية الإيرانية إضفاء المسوح الدينية المذهبية على هذه الحرب التى كانت من وجهة النظر الإيرانية حربا بين «يزيد» العصر وبين «الحسين»، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل امتدت اليد الإيرانية إلى داخل العراق بعد الغزو الأمريكى لتنتقم بكل خسة وغدر من كل من طالتهم أيديها من الضباط العُزّل، خاصة الطيارين العراقيين الذين تعمدوا إلقاء جثثههم على المزابل، فى واحدة من أكثر الجرائم العنصرية وحشية ونذالة،
ثم أقدمت الحكومة العراقية فى نهاية عام 2008 على إلغاء صفة الشهيد وإلغاء صرف الرواتب لعوائلهم واستبدلتهم بمن سمتهم شهداء النظام البائد وبعضهم شارك الجيش الإيرانى فى الحرب مع العراق، ولا يوجد أدنى أمل فى فك الهيمنة الإيرانية على العراق،
وبدرجة أخرى لبنان وربما أغلب الدول العربية الأخرى التى تضم بين مواطنيها عرباً شيعة طالما حافظ النظام الإيرانى على نظرية ولاية الفقيه المرتبطة حتما بنظرية تصدير الثورة الشيعية لأن ذلك الأمر يقدم الولاء الدينى المذهبى على الانتماء الوطنى، ويستدعى إيران، بلد الفقيه الولى، للتدخل فى الشؤون الداخلية أولاً ومن ثم فرض السيطرة وبسط الهيمنة كما فى المثال العراقى والأمثلة العربية الأخرى المعاصرة.
إن الخطورة البالغة التى ينطوى عليها جوهر المشروع الإيرانى الممتد من التاريخ إلى الحاضر هى التحريض على نقل الخلاف الشيعى– السنى من مجال الاجتهاد الفكرى والفقهى ضمن العقيدة الواحدة إلى تأجيج الصراع المذهبى– السياسى داخل الدول العربية والوطن الواحد بتسييس الهوية الشيعية ودفعها إلى المواجهة مع النظام والدولة،
ومن ثم نقل هذا الصراع إلى المستوى الإقليمى، ولم يكن من الممكن تمرير مثل هذه المشاريع فى صيغتها الطائفية أو المذهبية الخام إلا بعد تغليفها بشكل محكم بحملة دعائية مضخمة تزعم مقاومتها لهيمنة قوى الاستكبار العالمى وربيبتها الصهيونية إسرائيل،
ومن المفارقات المذهلة أن تكون قوى هذه المقاومة أو الممانعة هى نفسها أشد القوى معاداة لحقوق الإنسان والحريات العامة والسياسية وقيم المواطنة والمجتمع المدنى.. وهى التى حوّلت سلاح المقاومة إلى صدور المواطنين وحولت هزائمها فى الخارج إلى غزوات مباركة داخل مجتمعاتها.
ويكفى أن نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى غزوة النظام السورى الشهيرة ضد المواطنين فى حماة وحلب وحصد أرواح 30 ألفا من المواطنين «الأعداء»، وغزوة غزة التى نفذتها حماس بمباركة إسرائيلية التزمت فيها الحياد والصمت وحصدت أرواح 700 مواطن من «الأعداء» وغزوة بيروت المباركة التى نفذها حزب الله بسلاح المقاومة وأخضع فيها «أعداء» الأمة من سنة لبنان،
وغزوة طهران المتواصلة على يد جحافل الحرس الثورى وتحت رعاية آية الله الفقيه الولى فى مواجهة «الأعداء» من مواطنى إيران العزل المطالبين بالديمقراطية وإطلاق الحريات السياسية ووضع حد لنظام الاستبداد الدينى والسياسى والقومى.
وليس هناك فى حقيقة الأمر مشروع للمقاومة أو الممانعة، بدليل الصمت المريب الذى يخيم منذ 1974 حتى الآن على جبهة الجولان السورى المحتل، وبدليل الهدوء الذى تحقق لإسرائيل من يوليو 2006 وحتى الآن على جبهة الجنوب اللبنانى بعد أن حقق حزب الله لإسرائيل كل مطالبها: انسحاب القوات للخلف 40 كيلو،
ونشر القوات الدولية لتأمين الحدود، والسماح بنشر قوات الجيش اللبنانى التى كان حزب الله يمنعها بالقوة من التواجد على أرضها فى الجنوب، وقد أعلن حزب الله براءته الكاملة وعدم مسؤوليته عن إطلاق بضع صواريخ كاتيوشا من الجنوب، وقبلت إسرائيل إعلانه ولم ترد عليها، وبدليل وقف كل أشكال المقاومة من قطاع غزة منذ يناير 2009 وحتى الآن بقرار معلن من حركة حماس التى أوفت هى الأخرى بكل ما طلبته إسرائيل،
فأقامت منطقة عازلة بعمق 5 كيلو فى شمال قطاع غزة وتمنع بالقوة أى فصيل فلسطينى من إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية، ولم يسجل منذ اغتصاب فلسطين قبل أكثر من 60 عاماً وحتى الآن أى مشاركة ولو رمزية لإيران فى أى من الحروب والمعارك التى شهدها الصراع العربى – الإسرائيلى، والحقيقة تكمن فى المشروع الإيرانى القديم – المتجدد الذى بقى على حاله من أيام ملوك الفرس الأوائل مروراً بالحكم الإمبراطورى لآل بهلوى ووصولاً إلى جمهورية آيات الله: الخمينى وخامنئى،
ولا يمكن أن يمر هذا المشروع للهيمنة الإقليمية على الشرق الأوسط إلا بعد إزاحة مصر من مكانتها وموضعها السياسى، وفى هذا المنعرج بالذات يكمن النزاع الإيرانى مع مصر، الدولة والمكانة، وليس النظام كما يختلط الأمر على البعض سهواً أو عن عمد.
ولهذا عدنا إلى سجلات التاريخ ليس لمشاهدة مومياواته المحنطة أو جدارياته المعلقة، فالتاريخ هنا لايزال حياً ونابضاً فى الحاضر، ولايزال هذا الملف مفتوحاً لمقالات ثلاثة أخرى مقبلة تناقش تباعاً أبعاد المشروع الإيرانى فى المنطقة، والموقف من إيران «الإسرائيلية»، وموقف إسرائيل من إيران النووية.. وموقف النخبة المصرية من إيران و«كلب أصفهان الذى يشرب الماء البارد ويترك العربى خلفه يأكل الجرذان».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.