سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    مصرع أكثر من 29 شخصا وفقد 60 آخرين في فيضانات البرازيل (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    جمال علام: "مفيش أي مشاكل بين حسام حسن وأي لاعب في المنتخب"    "منافسات أوروبية ودوري مصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين في غزة جائزة حرية الصحافة لعام 2024    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    أيمن سلامة ل«الشاهد»: القصف في يونيو 1967 دمر واجهات المستشفى القبطي    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    مصطفى شوبير يتلقى عرضًا مغريًا من الدوري السعودي.. محمد عبدالمنصف يكشف التفاصيل    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    محمد هاني الناظر: «شُفت أبويا في المنام وقال لي أنا في مكان كويس»    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    ملف رياضة مصراوي.. هدف زيزو.. هزيمة الأهلي.. ومقاضاة مرتضى منصور    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    الغانم : البيان المصري الكويتي المشترك وضع أسسا للتعاون المستقبلي بين البلدين    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    خالد منتصر منتقدًا حسام موافي بسبب مشهد تقبيل الأيادي: الوسط الطبي في حالة صدمة    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكومة تسبح ضد التيار


باحث ببرنامج دكتوراه الفلسفة فى الاقتصاد
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
على طريقة أفلام الإثارة، وبعد أن نزل تتر النهاية على مؤتمر الحزب الوطنى الديمقراطى، وبينما تتبارى وسائل الإعلام فى تحليل حصاده، فوجئ الجميع بأننا لسنا إزاء فيلم وإنما مسلسل، وما كان تتر النهاية إلا لحلقة من حلقاته، ومازالت الحلقات تترى، فكانت أكثر الحلقات شغفاً وإثارة تلك التى أُعْلِنَ فيها عن برنامج جديد لإدارة الأصول المملوكة للدولة يشمل، ضمن عناصر أخرى، توزيع حزم من صكوك ملكية عدد من هذه الأصول "شركات قطاع الأعمال العام" على المواطنين المصريين الذين بلغوا واحد وعشرين سنة فأكثر "ربما يرى القانونيون فى توزيع هذه "الحزم" على فئة من المواطنين دون أخرى شبهة عدم دستورية، وهو ما لا أعلمه، ولن يخوض مقالى هذا فى مناقشته لعدم التخصص، ولكنه يبقى تساؤلاً له وجاهته".
وعندما ثارت بعض التساؤلات والشكوك لدى بعض المعارضين الذين أكدوا أن تصرفاً كهذا فى بعض دول أوربا الشرقية كان كفيلاً بسيطرة الاحتكارات على اقتصاداتها، شهدنا حلقة أخرى من "المسلسل" أوضح فيها السيد الدكتور وزير الاستثمار ضوابط معتبرة تجعل ما حدث من عمليات سيطرة احتكارية فى دول أخرى غير قابل للتكرار فى مصر، المسألة إذن تحت السيطرة والحكومة لديها الردود المناسبة والإجراءات الحاسمة!!
غير أن طرح الموضوع لحوار مجتمعى وتقديمه للمجالس التشريعية يعد أمراً لازماً لاستبصار الفلسفة الكامنة وراء هذا التصرف الحكومى فى هذا الوقت بالتحديد، والذى جعلها تبدو سابحة ضد التيار، بالمناسبة لا تعد السباحة ضد التيار خطأ فى ذاتها وربما كانت محمودة فى بعض الأحيان بل هى تأكيد على استقلالية السياسة الاقتصادية المصرية، أما إقدام الحكومة على توزيع صكوك ملكية بعض شركات قطاع الأعمال العام على المواطنين، فرغم أنه يبدو سباحة ضد التيار لا أعتقد آسفاً أنه يؤكد هذه الاستقلالية أو يمثل اتجاهاً محموداً بقدر ما يثبت أن لدى الحكومة إيماناً يقينياً بسلامة الاتجاه الذى اتخذته فى طريق الرأسمالية المتطرفة فى أقصى درجات تحررها وتهورها وتوحشها، حيث لا مكان للحكومة كمنتج والأسواق وحدها "لا شريك لها" قادرة على تخصيص الموارد أفضل تخصيص ممكن، ورغبة ملحة فى السير فى هذا الطريق إلى مداه.
فى الوقت الذى تتهاوى فيه الرأسمالية أو تترنح كالسكارى من وطأة الصدمة المالية وتداعياتها المتلاحقة على الاقتصاد الحقيقى!! فالتيار السائد فى كل دول العالم تأثراً بالأزمة الاقتصادية الطاحنة التى بدأت وبدت كجبل الجليد، قمته هى الأزمة المالية الظاهرة وما يخبئه المستقبل القريب من مآسٍ ستحل بالاقتصاد فى كل دول العالم يحتاج إلى مواجهة حقيقة وجهود علمية وعملية مضنية، والتى أجبرت إدارة بوش، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان وما تستدعيه من فهم للتطرف الاقتصادى نحو الليبرالية وإيمان كامل بآليات السوق، إلى أن تتدخل "مشترية" لأصول اقتصادية، وهو الأمر نفسه الذى مارسته دول كثيرة فى أوروبا، بل الأكثر من ذلك فقد نشطت الأزمة من جديد أفكار الاشتراكية ودور الدولة وتدخلها فى الاقتصاد، (أرجو ألا يتوهم القارئ العزيز أننى أؤيد أو أرفض ما قامت به حكومة الولايات المتحدة الأمريكية من سياسات وتدابير لمعالجة الأزمة، فأنا هنا فى موقف رصدٍ فقط لتناقض صارخ بين ما تقوم به الحكومة المصرية وما تمارسه حكومات العالم فى وقتنا الراهن، أما رأيى فى الأزمة الاقتصادية العالمية، ومحاولات معالجتها فربما كان موضوعاً لمقال لاحق.
يكفى فقط أن أسجل هنا ملاحظات موجزة حول الأزمة ربما تخدم الهدف من مقالى الحالى: الملاحظة الأولى: أن ضخ السبعمائة مليار دولار لم يكن إطفاء لحريق فى غابة بدلو من المياه، وإنما كان محاولة لإطفاء الغابة المحترقة ببرميل من مادة مشتعلة ومساعدة على الاشتعال!!، أما الملاحظة الثانية: فإن هناك مدخلين يتسمان بالخرف والخطر والخطل والخطأ بل الخطيئة فى التناول الفكرى والتعامل العقلى مع هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، أولهما المدخل الأيدلوجى الداعى إلى الكسل، حتى على مستوى التأمل والتفكر، والواقف عند حد الشماتة!!، وثانيهما مدخل التعامل بعقلية المصدومين حيث التشويش الذهنى والتصرف الانفعالى وغياب الإبداع وتراخى العقل العلمى واستدعاء الماضى، وهو ما قامت به الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوربى، فتحت وطأة الصدمة تم استدعاء أفكار قديمة جاهزة هى أفكار "كينز والكينزيين"، متناسين أنها أفكار صيغت لزمن مختلف ولمعالجة أزمات منقطعة الصلة تقريباً بالأزمة الحالية وأسبابها وجذورها، المضحك فى الأمر أنك تلمح فى ذلك تصرفاً "سلفياً" أليس كذلك؟! وخروجاً على قواعد المنطق والعلم والعلمانية، أليس هناك خطوات لحل المشاكل بطريقة علمية يدرسها طلبة المدارس والجامعات، ويتنادى بها مفكرون لهم اعتبارهم بحسبانها طوق النجاة لخروج العالم النامى من إسار تخلفه؟!!!
الملاحظة الأخيرة تتعلق بمصطلح "الرأسمالية" الذى يتطلب مراجعة وضبط وعناية علمية ليتعرف الناس العاديون فى مصر على تفاصيله التى قد "لا يكمن فيها الشيطان"، فالرأسمالية كنظام اقتصادى/ اجتماعى قامت، منذ نشأتها وتطورها حتى الآن، على كم من الأفكار التى قد نكتشف بقليل من التأمل تناقضاتها المضحكة لدرجة "الوقوع على القفا"... أوليس هناك إجماع حتى بين المؤمنين أيدلوجياً بالرأسمالية كأفضل نظام اقتصادى تدعمه الديمقراطية كمناخ سياسى وإطار اجتماعى على أن الأزمات صفة دورية من صفات الرأسمالية فى كل مراحلها التاريخية؟ أو ليس هذا الإجماع مضحكاً عزيزى القارئ؟ ألا يدل هذا الموقف الفكرى المتناقض على شيئين أولهما: أنك وأنت تعيش فى مجتمع رأسمالى فأنت كمثل رجل ذهب لشراء تلفاز فقيل له هذا أفضل جهاز تلفاز وأنسبه لك غير أنه سينفجر فى الشقة كل عام مرة، ولكن لا تقلق، فهو قادر على إصلاح نفسه والعمل من جديد!!! أما الآخر: فهو العجز الفاضح "للفكر الاجتماعى والإنسانى" بشكل عام، شاملاً علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والعلوم السياسية وعلم النفس، إزاء القدرة على بناء حضارة جديدة تحقق للإنسانية سعادتها ورخاءها وإنسانيتها دون أن يشقى بها البعض أو تكون لها آثار الرأسمالية المدمرة، إن الحديث عن الرأسمالية والديمقراطية باعتبارهما أفضل النظم الاجتماعية رغم ما يقر به المتحدث بذلك من مثالبهما لمجرد مقارنة بائسة يجريها بين هذا النظام وبين الاشتراكية أو الإقطاع أو الحكم الدينى "الثيوقراطى"، هو حديث عجز وضحالة فكر، فما حققته الأزمة الاقتصادية الرأسمالية حتى الآن من مآسٍ حافز ودافع للبحث عن نظام اجتماعى أفضل يستحقه الإنسان بعد مشواره الطويل على الأرض وفى أجواء الكون!!.
وتأتى أهمية الحوار المجتمعى حول ما تنوى الحكومة التخلى عنه من مسئوليات، للتمعن أيضاً فى الأهداف التى دفعت الحكومة لهذا التصرف والآثار المتوقعة له، والحكومة مطالبة بالإفصاح عن كل الأهداف الكامنة وراء هذا التصرف حتى لا تترك الشعب فى حيرة من أمره كما أنها معنية بالتحسب للآثار التى ستترتب على هذا التصرف، كما أن على المجتمع واجبَ مواجهة الحكومة بما يعتمل فى النفوس وما يتبادر للأذهان من أهداف، أو حاجة فى نفس الحزب قد لا تتفق مع خيارات الشعب وتطلعاته، وعلى المختصين كل فى مجاله أن يتسلح بأدوات تخصصه ويتأمل هذا التصرف من قبل الحكومة، ويعلن للناس ما توصل إليه من تصورات حول الأهداف والآثار، أى أن لدينا مسئولية مشتركة وواجباً محتماً مشتركاً بيننا نحن الشعب وبين الحكومة بشأن الأهداف والنتائج، أما الفلسفة الكامنة وراء التصرف فهى مسئولية الحكومة وحدها بحسبانها، متخذة قرار التخلى عن وكالة الشعب فى تولى مسئولية هذه الأصول.
وتأدية لهذا الواجب، أكتب هذا المقال مناقشاً الموضوع من وجهته الاقتصادية، معتقداً أن له وجوهاً أخرى لا أملك أدوات تحليها وتشريحها ورسمها، ولكننى أبدأ بملاحظة أولية تحمل رجاء التوقف عن ذكر كلمة "مجانية" فى الموضوع، فقيام الحكومة بتوزيع صكوك ملكية بعض شركات قطاع الأعمال العام على فئات من المواطنين لا يصح، منطقاً ولا قانوناً، أن يردف بكلمة "مجاناًَ" أو "مجانية"، وكأن الحكومة تقوم بذلك على سبيل الهبة والمنحة والصدقة، يقول بعض الخبثاء ربما كانت على سبيل الرشوة!!، بينما هى تتخلى عن جزء من مسئوليتها فى الوكالة عن الشعب فى إدارة وإنتاج واستثمار أموال الشعب، وترد بعض هذه الأموال إلى بعض فئات الشعب يتصرف فيها كيفما يشاء!! ومن ثم فإننى أرجو من جميع وسائل الإعلام الامتناع عن الترويج لفكرة المجانية فى هذا الموضوع، لأنها مصطلح مضلل لا محل له هنا من أى وجه، وهو لا يخدم حتى الحكومة ولا حزبها، أو كيفما تكتب (لنقل مثلاً الحزب وحكومته...)، لماذا؟ لأنه يثير بالطبع تساؤلاً يقول هل استولت الحكومة على أموال الشعب واعتبرتها أموالها وهى توزعها "مجانا"؟!! وبأى حق استولت عليها؟ وماذا فعلت بها كل هذا الوقت؟ أى أن هذه الكلمة "مجاناً" ربما تلحق تهماً لا ترغب الحكومة أن تلحقها.
سوف ترى عزيزى القارئ أن حذف هذه الكلمة يضعك مباشرة أمام المسألة جلية واضحة كالشمس فى صيف القاهرة المعاصرة، مضيئة ولكنها حارقة!!!
القطاع العام ملك للشعب وليس للحكومة، والحكومة وكيل عن الشعب فى إدارته، وهى الآن تتخلى عن "بعض" هذه الوكالة. القطاع العام الذى تتخلى الحكومة عن مسئوليتها تجاهه، وفق تصريحات السيد الدكتور وزير الاستثمار، هو شركات "رابحة" أى كانت تدر دخلاً للموازنة العامة للدولة أو لوزارة الاستثمار أو لبنك الاستثمار القومى، المهم أنها كانت تدر دخلاً من المفترض أنه يُمَكّْن الحكومة أو يساعدها على الأقل فى تقديم خدماتها للمواطنين وإقامة الاستثمارات العامة أى أنه كان مصدراً من مصادر الإيرادات العامة التى تساعد الحكومة فى تمويل الإنفاق العام على بناء الطرق والكبارى والأنفاق والمستشفيات والمدارس والجامعات، وتمويل مرتبات موظفى الحكومة وتقديم الدعم للمواطنين....إلخ.
فماذا تتوقع عزيزى القارئ، أن يحدث عندما تفقد الحكومة هذا المصدر من مصادر الإيراد العام؟ هل تتوقع أن يزداد عجزها وتتفاقم حيرتها فى تدبير موارد حقيقية (تذكرون جميعاً هذه الكلمة جيداً ... موارد حقيقية... أليس كذلك؟!) لتمويل الإنفاق العام؟ هل تتوقع أن تتخلى الحكومة تماماً عن تقديم خدمات الرعاية الصحية والتعليم مجاناً للفئات الفقيرة من المواطنين؟ بعد أن فقدت مصدراً من مصادر الإيراد العام؟ هل ستحتج الحكومة ساعتها بأن الشعب يغنى "وبقينا أصحاب فدادين"!!، آسف ربما كانت الأغنية الجديدة "وبقينا أصحاب حزم!!"، ومن ثم فلا يستحق الشعب دعماً لأنه من أصحاب الأملاك وليس من محدودى الدخل؟ (لاحظ أن ملكيتك لحزمة من الأسهم تخرجك يا محدود الدخل ومعدومه فى مصر إلى زمرة أصحاب الدخول المتغيرة. ومن ثم ربما انتميت يوماً إلى أرستقراطية كنت تمقتها أو تحسدها، وساعتها تكون الحكومة قد حققت سبقاً لا مثيل له بتحويل الناس من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الأرستقراطية... دونما طبقة متوسطة!! ولن تكون فى حاجة إلى تقديم أى دعم لا عينى ولا نقدى ولا حاجة لبطاقات "ذكية"، وعليك يا مالك الحزمة أن تتكفل بتعليم أولادك وتطبيب أسرتك وتوفير مصاريف انتقالاتهم وأكلهم وكافة تكاليف حياتك من عائد الحزمة، فضلاً عن أنك ستطالب بدفع ضرائب للحكومة مما يعود عليك من "الحزمة" لتنفق منه ساعتها على الدفاع والأمن والقضاء، وظائف الدولة الثلاثة فى ظل النظام الرأسمالى الحر الذى مكنك من أن تصبح صاحب "حزمة" من الأوراق المالية هى صكوك ملكيتك فى رأسمال عدد من الشركات.
ربما كان ذلك قفزاً منى إلى توقعات اقتصادية واجتماعية لآثار هذا التصرف الحكومى دون تدقيق للهدف الاقتصادى المباشر له، والذى يتراءى شاحباً كالخيال الصادم.
فربما هدفت الحكومة من ذلك إلى دمج أكبر عدد من أفراد الشعب فى أتون النظام الاقتصادى الرأسمالى، وهو هدف مرفوض فى ظل ما أقرت به الحكومة من عدم إتقان غالبية الشعب المصرى لقواعد اللعبة فى هذا النظام، فالحكومة ليست إزاء قرارات فى المجتمع الرأسمالى وإنما إزاء اختيارات ورغبات متباينة متضاربة، ومن ثم من ذا الذى يضمن الاختيار الذى سيختاره كل مواطن للتصرف فى ما وضع تحت يده من حزم مالية؟! إن هناك خطوات أولية مبدئية تتعلق بنشر ثقافة "المجتمع الرأسمالى" لدى الشعب المصرى، وهى خطوة متأخرة جداً كان من اللازم أن تسبق أى برنامج للإصلاح الاقتصادى أو التكيف الهيكلى، ولكنها خطوة حتمية إذا ما أصرت الحكومة على السير فى طريق الرأسمالية وهى مصرة "لا يتحدثن أحد الآن عن دور الشعب فى الاختيار بين الرأسمالية كنظام اجتماعى له قيمه وخصائصه وأدواته وسياساته وبين غيره من النظم فقد وافق الشعب على هذا الاختيار عندما تم تعديل الدستور" حتى تخلق جيلاً من "الرجل الاقتصادى الرشيد"....
أدرك عزيزى القارئ أن هذا الكلام قد يبدو غامضاً على الرجل العادى، ولكن دعنى أطمئنك إلى أن هذا الكلام موجه للحكومة وما يهمك معرفته أن هناك صفات من اللازم أن تكتسبها، كمواطن فى مجتمع رأسمالى، قبل أن تلقى عليك مسئولية التصرف فى "نصيبك من المال العام"، هذه الصفات قد تتعارض مع قيمك الدينية أو لا تتعارض قد تختلف عن تصرفاتك المالية الحالية وتتباين عن تطلعاتك، إن هذه الصفات هى التى ستجعل قرارك الاقتصادى وأن تحقق مصلحتك الذاتية مستهلكاً أو منتجاً مفضلاً الفراغ على العمل، أو تملك شقة على السكن بالإيجار، ركوب المواصلات العامة أو تملك سيارة أو حتى طائرة، يحقق فى الوقت ذاته مصلحة مجتمعك الذى هو مكون من أبنائك وزوجتك وأخواتك وإخوتك وجيرانك وزملائك فى العمل وأبنائهم وذوى كل هؤلاء حاضرهم ومستقبلهم، صفات من المفترض أن تجعلك – وفق ما تنص عليه كتابات رأسمالية عتيقة ومعتمدة – تتخذ قراراتك الاقتصادية السابقة (الاستهلاك – الادخار – الاستثمار – الإنتاج – البيع – الشراء – العمل – الكسل)، متيقنا أنك لن تعرض موارد بلدك الاقتصادية للضياع والهدر، وهى صفات حتى ولو كانت، كما يدعى البعض وهو ما لا أتفق معه، فطرية، فإن السياسات الحكومية والحقبة الاشتراكية زرعت فى نفوس المصريين صفات أخرى، حيث الحكومة هى التى تتخذ القرارات أما قرارات الأفراد فمحدودة ولا أثر لها على أى فرد آخر، أو هكذا يعتقدون حتى الآن، وما تعلمته أن ما هكذا الرأسمالية.
وربما هدفت الحكومة إلى دعم سوق الأوراق المالية وتنشيطه باعتباره قوام الاقتصاد الرأسمالى الحديث وواجهته اللامعة، وهو هدف يسرى عليه من الاعتراضات ما سرى على سابقه فضلاًً عن وجه آخر لاستهجان توقيته وتضاربه مع تصريحات حكومية، أكدت على أن ما خفف أثر الأزمة المالية على الاقتصاد المصرى أنه اقتصاد "لا ورقى"، فى الغالب وإنما اقتصاد عينى حقيقى. فهل تريد الحكومة بعد أن عرفت سر الاستقرار النسبى أن تتخلص منه!!!!!!!!! أليس هذا يعتبر ضرباً من الكوميديا السوداء بتعبير أهل الفن؟! إن تحويل ملكية القطاع العام إلى أسهم تتداول فى بورصة الأوراق المالية فى ظل تداعى البورصة هو كطلاء واجهة منزل متداعٍ معرض للسقوط على رؤوس ساكنيه بين لحظة وأخرى، الأسخف أن البيت لم يسقط بفعل الزمن ولا عوامل التعرية بل عبر عملية تخريب متعمدة، لماذا تسعى الحكومة لطرح أسهم قطاع عام لتتداول حرة وفق رغبات الأفراد وقراراتهم الفردية فى ظروف أجبرت أعتى الرأسماليات على تأميم كيانات اقتصادية خاصة تعرضت لخطر الإفلاس عبر آلية تداول أسهمها وسنداتها فى الأسواق المالية؟! ألتشجيع الناس على ارتياد سوق المال وتعويدهم على بيع وشراء الأسهم والسندات؟!! أهذا توقيت مناسب لتحقيق هدف كهذا؟!
هدف ثالث شاحب يلوح فى غيم هذا التصرف الحكومى المفاجئ، فربما هدفت الحكومة إلى التخفف مما تقدمه للناس من دعم وخدمات تعليمية وصحية، فسعت لترك الأمانة التى أمنها الشعب عليها، تمهيداً للتخلى عن وظيفتها الاجتماعية وهو هدف غير مقبول أيضاً، ليس بسبب جودة الخدمات التى تؤديها الحكومة ولا بسبب توصيلها الدعم لمستحقيه، فتلك جراح يحتاج نكأها وتحليل ما بها من "قيح" إلى كتب لا مقالات، وإنما للمسوغات التى رفض الهدف الأول من أجلها إضافة إلى أن أقصى التوقعات جعلت من القيمة السوقية للحزمة المستحقة للمواطن الواحد لا تتعدى "ألفين من الجنيهات"، وهو مبلغ "لا يسمن ولا يغنى من جوع"، ومن غير المتصور أن يكفل ريعه، إن تحقق عنه ريع، استغناء لفقراء هذا البلد الذين يتزايدون يوماً فيوماً عن الدعم الحكومى وخدمات التعليم والصحة.
هكذا عزيزى القارئ ترى أن الأهداف الاقتصادية المتصورة لتصرف الحكومة، بتوزيع صكوك ملكية بعض شركات القطاع العام على بعض المواطنين أهداف متهافتة لا يمكن أن تصمد ليبنى عليها قرار اقتصادى كهذا، وربما كان لدى غيرى من المختصين أو لدى الحكومة، هدف اقتصادى معتبر عجز عقلى عن تصوره، وهو اعتراف أعتز به وأمنية أرجو أن تتحقق، وإلى ذلك الوقت فلعلك تتفق معى أن هناك هدفاً أخر غير اقتصادى أجهله لعدم التخصص.
بقى لى كباحث اقتصادى أن أحدثك، قارئى العزيز، عن الآثار الاقتصادية المتوقعة لمثل هذا التصرف الحكومى، وهو أمر سبق أن أجملته سابقاً ولى فيه عودة لبعض التفصيل والتحليل.
فالأثر الأول المباشر، كما سبق أن ذكرت لك، هو انخفاض الإيرادات الحكومية بقيمة العوائد التى كانت تتحقق لها عندما كانت تؤول إليها أرباح هذه الشركات التى تنوى التنازل عن عوائدها لبعض المواطنين، وهو أثر سوف تترتب عليه، إذا ما بقيت الأشياء على حالها (لا تلق بالاً يا عزيزى لهذه الجملة الاعتراضية فهى من طنطنة الاقتصاديين التى لا عائد من ورائها ولا أهمية كبيرة ولا قليلة لفهمها... فلا تقلق)، آثار اقتصادية أخرى تتوقف على قرار الحكومة بشأن ما قل من إيراداتها... فهل ستقلل نفقاتها؟ وأى من هذه النفقات ستقللها هل الإنفاق الاستثمارى؟ هل ستوقف مشروعات البنية الأساسية أو تقللها؟ هل ستتوقف عن بناء المستشفيات والجامعات والمدارس وتوظيف المدرسين، ولو بالتعاقد؟ أليس لهذا أثر سلبى مباشر على الطلب الكلى الفعال ومن ثم أثر على قطاعات الاقتصاد القومى من صناعة وزراعة وخدمات؟ ألن يؤدى ذلك إلى انكماش فركود اقتصادى وإفلاس لشركات القطاع الخاص وانتشار للبطالة على نطاق واسع؟ أم أن الحكومة تراهن على زيادة الطلب الفعال عبر قيام المواطنين ببيع الحزم التى وزعت عليهم وإنفاق قيمتها على الاستهلاك؟ ومن ثم تعويض انخفاض الاستثمار الحكومى؟ ألن يخلق هذا الرهان ضغوطاً تضخمية وزيادات حلزونية فى الأسعار لا قبل للشعب بها؟ هل ستتجه الحكومة للاقتراض، من جديد، لمواجهة النقص فى إيراداتها وتبقى من ثم على نفقاتها كما هى؟ وإلى متى ستظل قدرتها على الاقتراض وخدمة الديون المتراكمة؟ وكم ستتحمل الأجيال القادمة من عبء لهذه الديون؟
وبمناسبة الحديث عن الأعباء الملقاة على الأجيال القادمة يجب أن أحدثك عن "صندوق الأجيال" الذى هو جزء آخر من برنامج الحكومة لإدارة الأصول العامة، والذى أعلمه أن هذا الصندوق تم إنشاؤه فى عدد من الدول الريعية التى تعتمد فى دخلها القومى على ريع "البترول تحديداً"، وأى طالب فى الفرقة الأولى بإحدى كليات التجارة يدرك الفرق الشاسع بين الاقتصاد الريعى والاقتصاد الصناعى، ففى الدول البترولية لم يقم الشعب ببناء صروح صناعية إنتاجية تولد دخلاً قومياً، وإنما يتولد الدخل القومى فى هذه الدول عبر استخراج وتصدير سلعة أولية ناضبة، سوف يأتى يومٌ لا بترول فيه وقد كان على حكومات الدول البترولية واجب حفظ حقوق الأجيال القادمة فى هذه الثروات الناضبة، وإلا تركتها لفقر مدقع عانت ويلاته هذه الدول نفسها قبل اكتشاف النفط بها، ورأت أن الوسيلة المناسبة لذلك هى إنشاء تلك الصناديق التى سميت "صندوق استثمار الأجيال".
أما ما تسعى الحكومة المصرية لعمله فهو بوضوح عكس ما قامت به دول النفط، فهى تسعى إلى التخلص من قطاعات اقتصادية صناعية إنتاجية أقامتها أجيال سابقة وحالية من الشعب المصرى بتوريقها "تحويلها إلى أسهم متداولة" وأيلولة ملكية هذه الأسهم لصندوق الأجيال المقترح حيث تقوم إدارة الصندوق "بالمضاربة" بها فى البورصة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر وتداعيات مللت من توضيحها فيما سبق، ومللت أنت عزيزى القارئ من قراءتها. الأمر المحير فعلاً هو تناقضات الحكومة التى لا تنتهى، فبينما هى تصر على الخروج من مجال الإنتاج وتتفق مع قواعد الرأسمالية التى تقضى بأن المبادرة الفردية والقطاع الخاص أفضل من الحكومة فى إدارة الشركات وتخصيص الموارد، وتؤكد على أن الحكومة مدير فاشل وأن القطاع العام عبء يجب التخلص منه، نجدها ترى فى نفسها كفاءة فى إدارة صناديق الأوراق المالية وتسعى لإنشاء صندوق يتضمن محفظة للأوراق المالية ترى أنها قادرة على استثمارها للأجيال القادمة!!! إننا إزاء مقارنة بين حكومات تبنى للأجيال وحكومات تسعى للتخلص مما بنته أجيال.
والحديث متصل بشأن الآثار المتوقعة على تصرف الحكومة بتوزيع صكوك ملكية بعض شركات قطاع الأعمال العام على بعض المواطنين، فإذا كنت قد حدثتك عن ما هو متوقع بشأن انخفاض إيرادات الحكومة فإننى لم أحدثك بعد عن آثار ذلك التصرف على المواطنين، والأثر المباشر هو زيادة فى ملكية المواطنين المستفيدين من المشروع وموارد دخولهم حال استلامهم لهذه الصكوك وتتوقف قيمة الزيادة على القيمة السوقية للحزمة عند توزيعها ومن ثم تترتب آثار أخرى على ذلك ولكنها تتوقف على قرارات متباينة للمواطنين المستفيدين لا يمكن حسابها، فربما اتجهت الأغلبية إلى بيع هذه الأسهم ولهذا أثره السلبى على قيمة السوقية بسبب زيادة المعروض منها للبيع، كما أن له أثراً سلبياً يتمثل فى زيادة الطلب على الاستهلاك الخاص الإجمالى مما يؤدى إلى تفاقم التضخم.
أما إذا فضلت قطاعات كبيرة من المواطنين المستفيدين الإبقاء على ملكية هذه الأسهم، فيمكن أن يكون أثره "صفرياً" أو ربما إيجابياً على الفئات المتملكة، ولكن يبقى أن الحكومة بذلك تظل فاقدة لجزء من إيراداتها العامة، ويظل السؤال مطروحاً، كيف ستسد هذا النقص؟!
المشروع لا يجب أن ننشغل بمناقشة تفاصيله وضمانات تطبيقه وإجراءات العدالة والكفاءة فيه، قبل أن ننشغل مبدئياً بأهدافه وآثاره المتعددة وغير المحددة، بسبب توقفها على قرارات الأفراد بعد ذلك، ومن ثم فإنه يحتاج إلى دراسة متأنية وتحاور بناء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.