أمس الاثنين حلت ذكري 23 يوليو، ففي ذلك اليوم من عام 1952م تحركت افواج "مما سموا آنذاك بالضباط الأحرار"، واسقطوا النظام السياسي الذي استمر قرابة قرن ونصف، وخلعوا الملك فاروق آخر بقايا أسرة محمد علي... وأسسوا نظامهم السياسي الذي ادعوا انه تجسيد لمبادئ الثورة الستة المعروفة والتي لم يتم إنجاز أي منها طوال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وبحلول يوم الثالث والعشرين من يوليو من كل عام تتباري الأقلام والمقالات تتحدث عن ذكري هذا اليوم.. وطوال نصف قرن يحتفل المصريون بهذا اليوم غير مدركين هل هو احتفال بمولدها أم بذكري موتها؟ فقد التبس مفهوم الاحتفال لدي المصريين فلم يعد هناك فرق بين الاحتفال بذكري الميلاد والاحتفال بذكري الممات. ولعل 23 يوليو 1952 تجسد أزمة الثقافة المصرية التقليدية حيث إننا اعتدنا علي الخلط بين ما هو حقيقي وما هو خيالي أو ميتافيزيقي، فإذا اعتبرنا أننا نحيا مرحلة حضارية تتسم بالمركزية وضعف الإيمان العام بأهمية الإصلاح والنهضة والتغيير، فان تجاوز ذلك لا يتم بمعزل عن تشريح هذا الواقع المعاش والوقوف علي أسباب هذا التدهور الذي تعانيه مصر في العقود التالية لعام 1952م. فإذا نظرنا إلي الوراء قليلاً ومنذ أوائل القرن الماضي وبعد دخول العالم ثورته الصناعية الثانية، سنري أن مصر كانت تتسم _ خاصة بعد ثورة 1919 _ بما يسمي مرحلة النضج السياسي، واستطاعت هذه الثورة أن تنبه الوعي المصري بل والعربي إلي إشكاليات أنتجت ضرورة العلاقة الديناميكية بين الدولة والمجتمع السياسي. واستمر جنين الوعي المصري يحبو شيئا فشيئاً. حتي جاء نظام يوليو 1952م ليمثل صفعة له ولكافة التيارات التي نبتت منذ أوائل هذا القرن واتجهت سياستها إلي الهيمنة والشمولية والديكتاتورية ومن ثم تقلص دور المجتمع السياسي وتلاشت مؤسساته شيئا فشيئا حتي أصيبت بالهزال والتبعية وأصبح الوعي المصري منفصماً بين اتجاهات الدولة التي رفعت شعارات الإصلاح والتنمية والاشتراكية وبين الواقع الفعلي الذي حمل دلالات التخلف والتبعية وانهياراً كاملاً لمفهوم الإنسان وضعف دور مؤسسات المجتمع السياسي. لقد برز التناقض بين نظام يوليو وقادة الفكر الديمقراطي، ولم يكن هناك مناص بالنسبة لقادة يوليو من إجراء تعديلات وتغييرات هيكلية تمكن الساسة الجدد من استغلال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لصالح الايديولوجيا الوليدة، أيديولوجيا "التكنوقراط" وذلك بتوجيه الضربات لرأس المال الحر وما تبعه من توجيه الضربات للفكر الديمقراطي الآخذ في النمو في هذه المرحلة. ومثلما أكد الميثاق في بابه السادس "حتمية الحل الاشتراكي" بان الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي الاجتماعي في مصر، وصولاً ثورياً إلي التقدم، لم يكن افتراضاً قائما علي الانتقاء الاختياري وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير، كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين. إن هذا المفهوم الذي طرحته ثورة يوليو لم يكن بالمفهوم الديالكتيكي في التعامل مع المتغيرات الدولية في هذه المرحلة، حيث أخفقت هذه المرحلة في استيعاب التحولات التي طرأت علي النظام الدولي وتحول جميع المستعمرات البريطانية والفرنسية إلي الولاياتالمتحدة. ولم تستشرف سياسات هذا النظام نتائج التحولات الاشتراكية في العالم الشرقي من أوروبا، حث أنها كانت توحي في سياساتها وبدايتها بأنها لن تدوم فالخيار الاجتماعي لم تسبقه خيارات فكرية ولم تترجم أهدافه إلي فعاليات اجتماعية ايجابية بعيدا عن الشعارات. ورجوعاً إلي مواد الميثاق الذي حدد اختياره الواضح والصريح للفلسفة الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المجتمع المصري وهي الاشتراكية علي أساس أنها أسلوب العمل الوحيد الذي يضمن تحقيق الكفاية والعدل والديمقراطية السليمة، فيقول الميثاق "إن الحرية الاجتماعية هي الطريق إلي الاشتراكية، والاشتراكية هي الترجمة الحقيقية لكون الثورة عملا تقدميا، فهي إقامة مجتمع الكفاية والعدل ومجتمع العمل وتكافؤ الفرص..، هذه الشعارات التي طرحها الميثاق "وهو ورقة عمل نظام يوليو" افتقدت مفهوم التفسير العلمي لكثير من المفاهيم التي تم طرحها بدءاً من الاشتراكية العلمية وانتهاء بمجتمع تكافؤ الفرص والديمقراطية السليمة فتبني مفهوم الديمقراطية السليمة علي أساس التفاعل الديمقراطي بين قوي الشعب العامل وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية، وان هذا المفهوم هو القادر علي إحلال الديمقراطية الذي جسدته مرحلة يوليو خاصة أن محاولة خلق تناقض صوري بين مفهوم الديمقراطية الرجعية والديمقراطية السليمة ساهمت في زيادة حدة الاستبداد طوال مرحلة يوليو. وشهدت هذه المرحلة طرح هذا الشعار السفسطائي لمفهوم الديمقراطية. فَتَحت شعار قوي الشعب العامل وجهت الضربة الأولي للأحزاب السياسية بتصفيتها تحت حجة المحافظة علي دستور البلاد وتم إصدار القانون 179 بشأن تنظيم الأحزاب والحق لدي الضباط في الاعتراض، وبالتالي فقد القانون روحه العلمية والعملية. ونسي قادة يوليو ومثقفوها أن الديمقراطية هي نظام حكم ذاتي يتساوي فيه المواطنون فيما بينهم وتتخذ القرارات السياسية بالأغلبية والمشاركة في عملية صنع القرار. والمؤسف أن نظام يوليو اتجه إلي توسيع سياسات الاستبداد السياسي ودولنه مؤسسات المجتمع تحت دعوي التوازن الاقتصادي، وظلت هذه الأفكار هي السائدة والمميزة لنظام يوليو مع تغيير اللافتات والشعارات، فاستبدلت قوي الشعب العامل بمصلحة الجماهير العليا.. وظلت الضربات المتلاحقة توجه للقوي السياسية، كما توجه للقوانين الديمقراطية عبر سن قوانين استبدادية لا تراعي مصالح مستقبل الأمة قدر مراعاتها لمصالح سياسة ضيقة. ولقد نجحت يوليو في إجهاض كافة المشاريع النهضوية التي كانت بطريقها للتحقق عن طريق استخدام الاستبداد السياسي وما تبعه من استبداد اجتماعي واقتصادي. واقترانه (بعسكرة المجتمع) واستند هذا الاستبداد طوال مرحلة الخمسينيات والستينيات إلي بنية تولدية من علاقات القهر الاجتماعي التي اخترقت المجتمع وحمتها المؤسسات والبني ابتداء من العائلة وانتهاء بالدولة وسيطرت علي المرحلة (اليوليوية) علاقات قهرية استلبت الحاكم والمجتمع المدني وفق قانون الاستبداد ولجأت إلي القمع المنظم. واصطدم النظام بكافة القوي الوطنية والتي كانت صلب الحياة السياسية قبل 23 يوليو 1952 (الشيوعيون 1959)، (الوفد 1953) تأمين الصحافة ومذبحة الجامعة 1954، ومذبحة القضاء. كل هذه جعل السياسة العامة كلها مركزة في الزعامة التي تحفظ المؤسسات وتنشطها. وأدي ذلك إلي عدم خلق تنظيم سياسي بديل وفعال. وتجلي فراغ سياسي اشتكي منه المجتمع، بل وأدي الأمر إلي ما هو أفدح من ذلك فصفت 23 يوليو أجنحتها منذ مارس 1954، وأدي ذلك كله إلي غياب الحريات العامة. وتفشي نظام الاستبداد السياسي علي طول هذه المرحلة من التاريخ المصري المعاصر. هكذا كان الوعي العام لدي صناع القرار طوال هذه المرحلة. إلا انه لم ينته بعد الوعي الآخر الذي ظل ينمو في الخفاء لمواجهة هذه الأفكار. وقد آمنت بعض هذه التيارات بان المرحلة التي استمرت منذ منتصف القرن العشرين حتي لحظة الانكسار الكبري "هزيمة 1967" لم تكن سوي السير إلي الوراء وغرق المركب بعيداً عن شاطئ الأفكار المنشودة، وما يؤكد ذلك انه من خلال قراءة مستفيضة للتاريخ السياسي والاجتماعي منذ أوائل القرن الماضي. نستطيع أن نرصد الاختلافات الجوهرية بين مرحلة ما قبل يوليو وما بعدها. فيكفي أن نتعرض لقضية المناخ السياسي طوال العقود الخمسة الأولي من القرن قبل يوليو 1952م التي كانت تمثل انضج مراحل النضج السياسي، فكان المجتمع المصري يتسم بحدود واسعة من الحريات السياسية وآفاق كبري من النمو في العملية الديمقراطية حتي نظام يوليو 1952، ونتيجة للصدامات المتتالية فقد أجهضت هذه التجربة. "فهل بعد ذلك يعد الاحتفال بثورة يوليو احتفالا بميلادها أم بذكري ممات المجتمع السياسي المصري ودفنه إلي اجل يمكن أن يكون مسمي؟"